د. جورج سلوم - رياضة روحيّة.. (قصة حقيقية مع بعض التصرّف )

جاهزٌ بثيابه السوداء الرسميّة، وكلّ ما يكسوه مشتقٌّ من الأسود.

بذلتُه مكويّة مراراً وتكراراً، واقفةٌ حدودُها كعرف الديك، وياقة قميصه مقسّاة بمنقوع النشاء، وربطة عنقه معقودة سلفاً يكفي أن يعلّقها بعنقه ويشدّها لتلتصق عقدتُها بثغرة نحره، وحذاؤه القديم ازداد وزنه من فرط طبقات الشمع اللمّاع، كلّها من مفردات مظهره الذي لابدّ منه.

وشاربُه المصبوغ بالأسود الهبابيّ مرسومٌ بعناية، فلا شعيرة تخرج عن إطارها إلا نتفَها على هدى مرآته الصغيرة يحملها في جيبه، أما الذقن فمرسومٌ بعناية لتكتمل هيئته التي تفرض احترامَها، فللأمكنة التي يرتادها هيبة لابدّ منها، إنها مجالس العزاء.

-عظّم الله أجركم

ووقوفٌ وقيام للوافدين الذين يعرفونه والذين يجهلونه، يأخذ مكانه بين ذوي المتوفى كواحدٍ منهم ويتلقّى التعازي، ويتساءلون من هذه الشخصية التي تبدو رسميّة ومهمّة، وما علاقتها بتلك العائلة؟

وفي النهاية يشكرونه على طيب ما قام به إزاءهم، ولم يجرؤ أحد على سؤاله عن صلته بالمرحوم أو المرحومة، لكن من المؤكّد ـ على ما يبدو ـ أنّ له صلةً ما به، جدُّ قريبة.

أما الحقيقة، فذاك المعزّي لا يعرف أحداً من غالب المتوفين في تلك الناحية، بل يأخذ أسماءهم من صفحة الوفيات الورقية أو الإلكترونية ليحدّد مسار مشواره المسائي. وفي مجلس العزاء على هيبته ورصانته، هناك يجد نفسه الضائعة ويلملم أشتاتها، فلا مكان للثرثرة ولا مجال للسخرية ولا حتى لرنين الهواتف الجوّالة، والكلام همسٌ، وذكْرُ الله كثير الترداد، إن كان على الألسنة أم على وقع الآيات القرآنية المتلوّة أو المسجّلة.

يجلس طويلاً وكأنه من أهل الميت، بل ويبقى حتى تفرغ المقاعد من جلّاسها، ويتأخّر به الوقت حتى يسمع تحريك الكراسي في الصفوف الخلفية، وتبرّم العاملين في الصالة وتذمّرهم ونحنحتهم بأنّ وقت العزاء قد انتهى، وسيقومون بالتنظيف قبل إغلاق الصالة، عندها يقرّر الخروج من جلسته الهنيّة الرضِيّة، ثم يخرج مودّعاً:

-أقلّ ما يمكن أن أقدّمه لوالدكم المرحوم الذي كان صديقي أن أشاطركم الحزن، ولكن يبقى الأسى في القلب كندبة لا تُنسى

فيشدّون على يده، ويشيّعونه وهو يخرج باحترام وتبجيل، ذاك الاحترام المنشود هو بأشدّ الحاجة إليه.

ثم يشدّ الرحال إلى بيته سيراً على الأقدام، وقد تكون المسافة بعيدة، لا مشكلة، وقد يتّقي المطر بمظلّة، أيضاً لا بأس، فهو سعيد لأنه رمّم نفسه الرميمة، وتزوّد ببعض الاحترام الذي سيفقده غداً في نهاره الاعتياديّ.

موظّفٌ هو، جدُّ بسيط من الدرجة الرابعة، عصاميٌّ يعتاش على راتبه المحدود، يعيش لوحده في بيته الصغير بعد تجربة مريرة مع زواجٍ فاشل قصير الأمد، لم ينجب ولن، وكان سبباً كافياً وسريعاً لخلعه.

في عمله الوظيفيّ يلتزم بالدوام أكثر من غيره، لكنه يتعرّض للتجريح والسخرية من الزملاء والزميلات بما يسمّيه جَلْد الرّوح، كأنهم يعاقبونه، ويهوون بألسنتهم كالسياط على روحه، صار معزولاً، لا يعرف لماذا ينبذونه، منطوياً على ذاته، بلا رفيق ولا صديق.

وجد نفسه بين الناس الذين لا يعرفونه، وفي المحيط الجديد على الأقل سيُعامَل باحترام، ومجلس العزاء يفرض الصّمت على الجالسين وكأنّ على رؤوسهم الطير. الأفواه ساكتة في سويعات العزاء، لكنّ العيون جوّالة مترأرئة وترصد، والأفكار المستبطنة تجيش، وقد يكون المعزّون مجتمعين كأجساد لكنّ أفكارَهم منصرفة في مشاغلهم، وكأنهم مفصومون إلى جسدٍ يودّع الميت وروحٍ رافضة للفكرة وتطمع بمزيد من ثمالة الحياة، وبعد العزاء سيطردون فكرة الموت كلّياً، ويؤجّلونها، ويعودون لضجيج حياتهم وصخبها.

هو يعزّي نفسَه أيضاً في لحظات الوجوم التي يمارسها، يسمّيها رياضة روحيّة تعيد شحنَه، ويشذّب فيها نفسَه الفاقدة للثقة، ويعيد لوجهه بعض ماء الوجه، ويعود راضياً إلى بيته، سيراً على قدميه، ولابأس إن طالت المسافة، ويسمّيها أيضاً رياضة، تلك المشية الطويلة، رياضة جسدية إضافة لرياضته الروحية التي مارَسَها!

أين سأذهب اليوم مساء؟ ومن الذي مات اليوم ومن سيموت؟

إليكَ أنت أيها الميت الجديد ستقودني قدماي، ستصلني دعوة منك وإليك من صفحة الأموات التي ستُنشَر اليوم، أتمنّى لو كانت الميتات مُجَدْولة، وتُنشَر مُسبَقاً، إذن لعرفْتُ برنامجي لشهرٍ قادم، لكنْ، دعوها على طريقة المفاجآت والصدف.

هيه، هذه المدينة، مدينة الأموات الأحياء، ويتأمّل خارطتَها الورقية الكبيرة المعلّقة على جداره، زرتُ معظم حاراتها، فعلاً كأنّ الموت خبط عشواء، بلا برمجة يختار زبائنه. وقد يكون ملاك الموت عنده خريطة مشابهة، ويتأمّلها الآن ليُحدّد موضع ضربته المُزمَعة. كان يضع إشارة بقلم أسود عريض على الهدف الذي زاره البارحة، كرامي المدفعية يقصف مدينة مسكونة، هذا البيت تمّ قصفه، ويضع نقطة سوداء كبيرة عليه، لقد تم استهدافك أيها البيت وفقدْتَ عزيزاً!

فأين ضربتك التالية يا ملاك الموت؟ وبالتالي أين ستكون زيارتي لأقدّم عزوتي وعزائي؟

ولكل بيت نصيب من زياراتي، اللهم أمهلني لأشارك في جنازة كلّ من قهرني، بل وأشارك في حمله مكتّفاً ليلتقمه قبره!

ولاحظ تكاثر النقاط السوداء في الخريطة التي بدت كخارطة ألغام، لماذا تكثر النقاط السوداء في هذا الحي؟ هه، طبعاً، هنا يسكن الفقراء، وهم الأكثر عرضة للموت، لا لا، هذا الحيّ الفقير فيه كثافة سكانية، نعم نعم، الفقراء يتوالدون بكثرة ويموتون بكثرة.

قام بوصل النقاط السوداء بقلم رفيع، فبدت له خارطة المدينة وكأنها تعلوها شبكة عنكبوت تزداد حبْكاً كلّ يوم، إنها لعبة جميلة تلعبها يا ملاك الموت، لعبة قصف الأعمار واستلال الأرواح واستلاب الأجساد.

صار الرجل معروفاً عند متعهّدي مراسم الدفن والعزاء، فاستوظفوه بهندامه الأسود المناسب لكلّ عزوة وعزاء، وصار يتلقّى دخلاً مالياً، وانضمّ إلى الفريق المتآلف المؤلّف من حفّار القبور أولاً ومن لفّ لفيفه من المغسّلين وجوقة المنشدين والقارئين والمتباكين وساكبي القهوة، والنوّاحات المأجورات إن لزم الأمر!

وكانت شبكة العنكبوت المزهِقة للأرواح تزداد تعقيداً، وقد يخفق قلبه إن اقتربت خطوطها من داره، لا بأس فكلُّ نفسٍ ذائقة الموت.

ازدادت ألفَتُهُ مع فريق العزاء الذي يعمل بصمت، عندهم يمارس رياضته الروحية بسلام، ووجد بينهم نفسَه الضائعة، يعملون لإكرام الميت حسب ما يدفع ذووه، وميتة الغني قد تضجّ بها المدينة، وميتة الفقير لا صدى لها.

كان مذهولاً لفرط النواح والإغراق بالندب الذي أبدته تلك السيدة وكانت من فريقهم، لقد أبدعَتْ بالرثاء الشعبيّ الذي جادت به بحيث استنفرت الدموع من الرجال قبل النساء، وقالوا له أنها مزّقت ثوبها في مجلس النساء، وقالوا إنها نتفت شعرها وفقدت وعيها، فانهالوا عليها بالماء.

قالت له ردّاً على تساؤلاته :

-كنت أبكي كل يوم عندما يضربني زوجي ويقتّر عليّ وعلى أولادي، يجلد جسدي ويجلد روحي، هناك ـ في بيتي ـ تعلّمت اللطم والعويل من وجعي، وكنت أقضي ليلتي باكية وما من مغيث، فكرت بالانتحار البغيض، والانتحار تحرير الروح من التعذيب وإراحة الجسد من الضرب. وبعد أن أصبحت مطلّقة وطليقة، وجدْتُ في تمثيلية البكاء ما يسدّ رمقي، ما أجمل البكاء المأجور، ما أجمل أن تستبكي نفسك!

ربي اجعلني أستبكي على كل من قهرَني، فقط ليكون يومه قبل يومي!

وعرف المعزّي أنّ الحال من بعضه، وشرح لها شيئاً عن رياضته الروحية التي ترمّم نفسَه، ولم تفهم شيئاً، لكنها أيقنت أنّ بكاءها على الغير هو رياضة لروحها التي شبِعَتْ جلْداً.

واستمرّت الصداقة بين تلك المسمّاة بالنوّاحة أو الندّابة وبين ذاك المسمّى بالمعزّي، ووجدا بعض السعادة بممارسة الرياضة الروحية.

وقال لهما المؤلّف عندما التقى بهما بُعيد إحدى الجنازات الفاخرة :

-كان يمكنكما ممارسة الرياضة الروحية بالصيام والصلاة !

وسكتت النوّاحة، وتركت دفّة الكلام للمعزّي الذي قال :

-أعرف أن الرياضة الروحية تعني ترويض الروح بالاستزادة من الصيام والصلاة، وقد تصل إلى التصومع والتنسّك والزهد، لكن طريقتنا في حضور المآتم والأتراح تعطينا جرعات من سعادة كمن ينشّط روحه المضمحلّة، سمّها ما شئت!

وقال المؤلّف ليُنهي حديثه معهما، ويختم بالتالي قصته القصيرة :

-فهِمْت .... عندما ترى مصائب الآخرين قد تهون عليك مصيبتك .

د. جورج سلوم

****************
* (قصة حقيقية مع بعض التصرّف )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى