د. جورج سلوم - إحباط


صار من المألوف أن ترى الوجوه ذات السحنة الترابية أنّى نظرت ، كآبة مُسيطرة على الخلْق ، وكأنّ زمن السعادة قد ولّى ، والابتسامات الوقتية إنْ رأيتَها ، فتكون مُصطَنعة أو قسريّة يفرضها الموقف واللحظة وطبيعة العمل أو التّرحاب الزّائف . أما الحقيقة المُرّة ، فهي إحباطٌ قائمٌ ومقيم ومتجذّر ، وإحباطٌ تجاوز مرحلة الأمل بالانفراج إلى مرحلة اليقين بالغد البائس .

مع أنّ ذلك الصباح كان جميلاً مبتسماً في سمائه وسيمائه ، لكنّه على جماله الواعد لم يستطع فرض إيقاع الجمال على الخلق المُحبَطين حتى الثمالة ، فالمثل القائل ، كن جميلاً ترى الوجود جميلا ، أصبح معكوساً !

يومها خرجتُ مبكّراً في السابعة بلباس الرياضة لأعدو حول الحديقة ، أنا أيضاً كنت مُحبَطاً من برنامج يومي القادم الذي تبيّنته من مخطّطي الذي أرسمُه مع فنجان قهوتي ، ومحبطاً من نشرة الأخبار العالمية التي سمعت عناوينها فقط ، ومحبطاً من النشرة الاقتصادية والجوية والرياضية ، وحتى الفنية .

ثم أطفِئ تلفازي كارهاً كمَن يقلب الصفحة ، وأخرج كالعادة وأركض ، كمن يهرب من واقعه ، وأعود سعيداً بالعادة ، سعيداً لأنّي ما زلت قادراً على الجري بنفس المسافة التي كانت تتعِبُني منذ عقدين ونيّف ، وها أنا أعدوها وقد قاربت الستين ، وأعود متعرّقاً وقد نلْتُ بعض الرضى عن نفسي ، وحمّامي السّاخن يجلو صفحتي ليبدأ نهاري بابتسامةٍ حقيقيّة ، وكأنّ برنامجي المعقّد غداً أكثر يُسْراً .

ينكِرها البعض ممّن أواجهُهم ، ابتسامتي تلك ، ويعتبرونها كذبة لا داع لها ، وقناعاً لا يقي من المرض المُستشري ، فلا شيء يدعو للابتسام والرضى والقبول بواقعك إلا كنتَ مجنوناً أو منفصلاً عن واقعك ، والأفضل ، ينصحني البعض ، أن أخفيها بكمامة كي لا تنتقل ابتسامتي بالعدوى .

هذا اليوم بالذات صادَفَني وجهان بائسان لطفلين ذاهبَين إلى المدرسة متنكّبين حقيبتين ثقيلتين ، قلت لأحدهما وأنا أهرول مسايراً لمشيتهما السريعة المتمايلة :

-من المؤكّد أنّه امتحانٌ صعب في هذا اليوم ؟

ولم يجبْني ذلك الطالب المقطّب على وجهه الطفوليّ ، بل أعرَضَ بوجهه عنّي وكأني بعيدٌ كلّ البعد عن مستوى تفكيره ، لكنّ رفيقَه أجابني :

-مجرّد الذهاب إلى المدرسة هو البؤس بعينه !

واستغربْتُ ذاك الجواب من طالبٍ في مرحلة إبتدائية ، وبدا لي أكبر من عمره ، فقلت لهما وأنا أسايرهما بالمشي :

-معناها أستاذ اليوم صعب المراس ؟

وقال الطالب وما زال يوحي لي بأنه أكبر من عمره :

-الأستاذ صعب ، والمدرسة ، وأبي وأمي ، والبيت ، كله صعب !



لماذا يكون طالبٌ في عمر الورود مُحبَطاً بهذا الشكل ، والمفترض أن يكون مقبلاً على الحياة التي لم يعترك تعقيداتها بعد ؟

طبعاً لأنه كسول ، ولم يحضّر دروسَه كما يجب ، ولم يكتب وظائفه . هذا هو الجوابُ المنطقيّ ، ولذلك يكره الأستاذ ويستثقل المدرسة ، ولكن لماذا يذكر صعوبة أباه ؟ وأمه ؟

طبعاً لأنه يتلقّى التقريع منهما بسبب سوء تحصيله وإضاعة وقته . وإلا لَمَا أضافَهما إلى قائمة الأستاذ والمدرسة ، والأستاذ سيتّهمه بالغباء ، والأهل يصادقون على ذلك ، فهو إذن غبيٌّ بلا شك ، فما فائدة المدرسة ؟

هو ليس متفوّقاً مثل فلان ، ولن يكون ، لأنه غبيّ وفاشل منذ الآن ، فلماذا يتعذّب في تلك المدرسة التي ليست لأمثاله ؟



لستُ مصلحاً اجتماعياً ، ولم أكتشفْ جديداً بسردي قصة ولدين مُحبَطين ، لكنّ مواجهتي اليومية للإحباط الصباحيّ السائد غدت أكثر تعميماً ، وما زلت أواجه نظرات الاستخفاف برياضتي الصباحية ، من الذاهبين لأعمالهم في الصباح طلاباً وموظّفين ، خاصة عندما صار يرافقني كلبي في دورتي حول الحديقة يتنطّط حولي سعيداً برياضته .

معتادٌ أنا على مواجهة المحبَطين في تعاملي اليوميّ مع المرضى ، وذلك أمرٌ طبيعيّ طبعاً ، والمحبطين أيضاً من مرافقيهم لأن الأمراض المزمنة لن تشفى وستتعايش معها تستنزف عمرك كشرٍّ لابدّ منه ، وابتسامتُكَ لن تخفّف عنهم ولو ردّ البعض عليك بابتسامة مؤقّتة ، زائفة ، غبيّة ، فلماذا يبتسم ذاك المريض المُدنَف ؟ أقولها أنا أيضاً ، ما دام واقعاً في شرَك المرض الذي يدنيه من موته المحتّم ؟

ووسّعت جولاتي بين أفراد المدينة الفاضلة ، ولم تبقَ صباحية ، بل صارت نهاريّة كمتسكّعٍ مستكشف ، فاصطدمْتُ بالمُحبَط العائد من يومٍ قضاه في الطابور ليحصل على مادة مقنّنة ، بلا جدوى ، لأن البعض يتجاوزه ويأخذ دوره ويأخذ حصّته . وكذا المحبط العامل الدؤوب الذي لم يحصل على الترقية التي كان يأملها ، لأن غيره قد أخذها بطريقة ما ، فلماذا يكدح في وظيفته ؟

وكذا الزوجة المتفانية في خدمتها لبيتها ، لكن زوجها يرذلها .

وكذا الشاب خريج الجامعة ، فيرى نفسه بلا فرصة عمل .

وعلى أبواب المحاكم هناك ترى المحبطين متراكمين كالهموم ، حيث لا حقّ يُسترَدّ ، ولا مادة قانونية منصفة .

وعندما أعلنوا عن انتخابات في البلدية ، كان الناخبون محبطين لأنّ النتائج معروفة ، والمنتَخَبون محبطين أيضاً لأنهم غير قادرين على التغيير.

ووصلتُ في تجوالي نحو حدود المدينة الفاضلة ، فوجدْتُ جنوداً محبطين من حروب عشوائية داخلية أكثر منها خارجية ، ومسافرين محبطين إذ لا يقبلونهم في بلاد الاغتراب إلا كلاجئين .

وطرْتُ برحلاتي خارجاً عن المدينة الفاضلة حتى وصلت إلى الأمم المتحدة ، فوجدت مندوبنا محبطاً إذ لا يطبّقون القانون الدوليّ فيما يخصّ بلاده ، ويتكلّم بلا مستمعين .

وطلبوا مني أخيراً أن أتخلّى عن كلبي في جولاتي ، لأنّ نباحه قد علا وأصبح مزعجاً ، مقلقاً ، ولم يكن كلبي ينبح عن جوع ، لكنه كان محبطاً أيضاً ، لماذا ؟

لأن كلبَته التي عشِقَها قد صارت لكلبٍ غيره !

كان كلبي الذي غدا حزيناً فجأة ، يتساءل في قرارة نفسه ، كيف فاز صديقه الكلب بتلك الكلبة ؟ ولماذا فضّلته عليه ؟ وهو بالنهاية مثله كلب وابن كلب ؟ ولم يجد عندي تفسيراً .

لكنه عندما غادرني في النهاية ملوّحاً لي بذيله ، وجدتُ نظرة استخفاف بي كصاحبه وسيّده ، يبدو أنه اكتشف السبب ، أو أن صديقته فسّرت له الأمر عندما قالت له ، بأنها تبادله الحبّ أيضاً ، وبأنها تشعر بالإحباط مثله ، لا بل ستعيش حياتها كلّها محبَطة ، لأنها مضطرّة للزواج بكلبٍ آخر لا تحبّه ، لكنه زمن الإحباط الذي يفرض عليها أن تختار اختياراتٍ خاطئة ، لا لشيء إلا لكي تندم لاحقاً وتندب حظها العاثر ، وتتابع ما تبقى من حياتها ، محبطة ، كباقي خلق الله .

***************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى