أحماد بوتالوحت

يحُطُّ المَساء في كُلّ مَكان : على جَماجِم أجْراس عَرَبات المَوْتى وفوق حُطامِ السُّفُن المُشْبعَة بِالمِلح والذِّكْريَات على كَراسِي المَقاهي الَّتي تَبِيض على الرَّصِيف وبين النُّهود المَحْمومَة على صُدُور العَذارَى وفوق القُبّعات المُسْتكِينة عَلى رُؤُوس التَّماثِيل وعلى الأسْرار المَطْوِية...
من زُجاج النَّوافِذ رَأيْتُ زَكائِب الهَزائِم وأَكَمات الذُّلّ تَتَراكَم كَالأَسْنِمَة على الظُّهور رَأيْت سُرَر الأَرَامل مُنْقذِفة في البَراري تَعْبث بِها ، أصَابِع الفُولَاذ رَأيْت حَلَمَات المُدن ، الصَّغِيرة ، الدّافِئة تُغْتال بَراءَتها تَحْت عِباءَة الليل رَأيْت نُهود القُرى تَجِفّ...
كان عَلَيْه أن يُقيم في صُنْدوق رَسائِلِه مع صَفير مِنَفاخ '' عَضَلات دواليب'' دراجته . وكان عليه أن يَتَخَلَّى عن قُبَّعتِه ذات الثُّقوب الَّتي تُفْضي إلى جُمْجُمته وأن يُقوِّم ساقيه المُقَوَّسَتيْن اللتَيْن تُثِيرانِ إمْتِعاض الْمَرايا وكان لِزاماً عليه أن لا يَكِيل الشَّتائِم البَذيئة...
أنا مَرْفَأٌ لم تشرب أرصفته المُتَرَهِّلَةُ غير ملح الدموع ، مُتْعَبٌ أنا ،من حَمْلِ قُصَاصَةِ هذه الأمكنةِ كَأَسْنِمَةٍ مِنَ الغُبَارِ والجوعِ والعطش ، إِلَى الْجَحِيمِ أَيَّتُهَا المدن المسْكُونَةُ بِلَيْلِ النَّعِيبِ وَتُفِّ الأظافرْ ، الجراد يَلْتَهِمُ رماد الحقولِ والذُّبَابُ يَتَسَافَدُ...
(1) كنت على وشك أن أُتْمِم القنينة الثانية ، وكنت في كؤوسها الأخيرة ، لما طرق مسامعي صوت زغاريد ودقُّ دفوفٍ . مسكت أنفاسي أصيخ السمع لأُحدِّد مكان الصوت . في البداية قلت في نفسي ، إنه عرس في الحي وفي لحظةٍ ، بدٙا الصوت أقرب أو أشد قرباً وطفق يرتفع شيئاً فشيئاً . غادرت الكنبة وفتحت باب الغرفة...
في غُرَف جانِبِية ، حيْثُ الفَوانيس الضَّريرة تتعثَّر بِأَذْيال المَرايا وحيث تَقْفِز من النَّوافِذ كَضِفْدع مَفْزوع ، قِطارات مُعفَّرة بِالغُبار، عَشيقاتي المُسِنَّات اللَّواتِي أَكَلت أقْدامُهن فَأْرة النَّجّار يُفَكِّكن غُضون القَمَر ويَنْسُجن وَسائِد لِلْموْتى ، مُحْشوَة بِالشَّخير...
كان يعْتمِر طُقْم أسنان وعَمْرة ثُلاثية الرؤوس وبِأصابِع مسْكونة بِهمْس الجُنون ، يَنْكأ ذاكِرة النَّاي وعلى دَرْب القَصَب ، يسْحَل الناي نَفَسه ، ومِن عُيونه يطْفر نهْر الألْحان " القلق ليس غَجَرياً" و" الشَّقاء أبدِي أيّها الأوْغاد " . يجب الإعْتِراف أن تَيْنك الأغْنِيتين كانَتا حَزينَتين...
سَأرْحَل عنْك يا وطني !َ سَأَرْحل عن غُرَفِك المَسْقوفة بِالصَّفير وَضَجيج الأَرْصِفة تَارِكاً سِيقان سَراوِيلي الْمشْبوهَة على طَاوِلات صُفوفِك سَأوَدِّع دُخان سَجائِري عَلى شِفاهِك المُلْتَوِية كَأَحْذِية الْعَوانِس سأَرْفَع صُراخي كَالأَجْراس على تِلَال نَهْدِك الْعَاري . الطُّوفان يَأْكُل...
(1) كانوا قد أحضروا كل مستلزمات سهرتهم .. نبيذ خالَطُه الغِش .. خبز فَتَّته بَلَلُ سائِل ما .. عظام ما زالت تحتفظ بِفضُلات مَجْد لحمها الذي ربما أفْلَت من بين أسنان تتعجل أن تقوم عن المائدة أو إستعصى على بَقايا أسْنان.. دجاج ميِّت لم يرَيَّش بَعْد ويُنتزع منه إعترافٌ بِجَريرة ما ، نحيل كأصابع...
كانت مَسامَّات مَساءاتِه ترْشَح بِالهَديل ، وداخِل جُمْجُمته يطْغى جُنَّاز النَّحْل على قَعْقَعات العِظام . قد يَحْدث أن يَحْتمِي بِفُوَهة نَبِيذ ، وَيَأْمل أن يغْدو شَفَّافا وغَيْر مَرْئِي لا شَكَّ أنَّ إرَاقَة دَمِ السُّلافة حَرَّرَه من هَفَهَفة سَراوِيل الكَوابيس لكِن طُفولَتَه لَبِثت...
يأتيني من المرافيء البعيدة ، وشم خنجر، يومض على الساعد ورائحة البحار والمحار في جيوبه الداخلية . وعلى جبينه المحروق بالملح ألف أغنية ، عن الحب ، والخمر ، والنساء . يأتيني مطوقا برائحة الجزر وطحالب الاعماق . يحدثني عن الطيور التي تغادر مرافيء أحلامه . في إتجاه الآفاق الفيروزية . يرفعني إلى الأعلى...
إشتراني من سوق الأشياء المُسْتعملة ، بعد أن ساوم عليّ حتى بحّ و جفّ ريقه وكان قد أعطاني موظف سامي في إحدى الوزارات لِمتسوّل يجوب أزقة حيِّه الراقي ، كنت حينها ما زلت فتياً ولم أبلغ بعد مبلغ الكهولة ، خدَّايا كانا متماسكين ولم تكن لدي لُغُود تشوِّهُني فضْلا عن أني أتمتع بصحة جيدة يحسدني عليها...
إستقل الرجل طاكسي إلى ساحة "جَامَعْ لَفْنَا " ، إستأجرغرفة في أحد فنادقه ، أودع في الغرفة كيس قماشٍ ، الكيس الوحيد الذي كان يحمله وهو يترجل من الحافلة في المحطة الطرقية بمدينة مراكش . جرجر في الساحة رجليه ـ المحشورتين داخل حذاء متهالك ـ هنا وهناك ! بحثاً عن صديقه الحاوي الذي لم يره منذ سنين...
كان ينْزَع عن البَحْر مُسوح المِلح ويُلبِس الليل دِفْء الحُقول يُفرِغ على الوُجوه رَماد الإشَارات ويَمْحو عنْها غُضون الماء فارِداً سَطْح قبَّعته التي ترشَح بِالثُّقوب سُرادِقاً لِأَعْراس الفَراشات فاتِحاً جُيوب ،مِعْطفه ،الدَّاخِلية ساحات لِأَراجِيح المَساء راشِقاً سيجارته المَحْشُوة...
من يَقِين الضَّوء كانت الإِبَر تَرْفُو جَوارِب مَا زَال الخُرَاج رَهِيناً بِأصَابِعها ومِن جِدَار المِدْفأة إتَّخَدت الأحْذية مُتَّكَأ وأسْبَلت سُيورَها تَوَالَت إِيحَاءات ألسِنة الَلهب فِي مَحَاجِرالمَوَاقد وفي مُنْخَفضات الليل لَوَت الحَدَوات أعْناقَها بَيْنَما عَبَرت أرْصِفة البِرَك ، سُحب...

هذا الملف

نصوص
126
آخر تحديث

كتاب الملف

أعلى