“حمد الله ع السلامة”
تأتي إلى مسامعها؛ فتدرك عودتها من جديد، جسدها ثقيل مستسلم، رأسها مستلقي على الوسادة مسلوب الإرادة، تفتح عينيها ببطء، فيمنعها التصاق جفنيها المرتعشين، كوليد انتزع لتوه من عالمه، تعي الحركة والضجيج من حولها، لكنها لا تميز الوجوه والأصوات بعد، تبلل شفتيها، علها تخفف من جفاف...
وقفت أمام شباك التذاكر، تنتظر دورها في استسلام، تثير فضول الجميع بهيئتها الرثة، وثيابها السوداء المهترئة، قابضة بيد مرتعشة على عصا خشبية، تتدلى منها أكياس غزل البنات المنفوخة الملونة، فماذا يفعل مثلها هنا؟!
لم تلتفت إلى سهام عيونهم المارقة، بل كانت عيناها معلقتين بتلك اللوحة المضيئة...
لمحته يتحين الفرصة، يحاول الاقتراب من الأرض في غفلة من قاطنيها، يلتقط أنفاسه وبعض الحب، ثم يعاود التحليق، يضرب الهواء بقوة، يغدو خماصا ويروح بطانا، ليحط على الأرض مجددا، أتساءل في عجب من أمره..
لم الهبوط وقد أوتيت سؤلك؟!
هل أدمنت ممارسة الخوف؟!
هل انبهرت بتلك المباني السامقة، وهذا الصخب الزائف؟...
كعادتها تقضي نهار رمضان في إعداد مأدبة إفطار تعج بما لذ وطاب من صنوف الطعام، تعمل جاهدة على تلبية طلبات الجميع، تؤمن أن الطعام يختلف مذاقه إذا كان الحب والاهتمام من مقاديره الأساسية، لذا كانت تبث طعامها كل طاقة الحب الكامنة داخلها لأسرتها الصغيرة، تطيل الوقوف في المطبخ، في صحبة الراديو الصغير...
يتصدر ساحة متحف الشمع لافتة ضخمة، مكتوب عليها بحروف كبيرة، ولغات مختلفة..
” احذر لمس المعروضات؛ وإلا تصيبك لعنة سنوية، لا نعلم توقيتها.”
ضحك ساخرا بينما يقول:
” ماهذا الهراء؟! بالطبع إنها حيلة سخيفة من قبل إدارة المتحف؛ للحفاظ على المعروضات من عبث الزائرين، يبدو أن صاحب الفكرة متأثر بدرجة...
“أربعة عقود من العمر، وأنا أفتخر بدور المحارب الشجاع، أستمتع بقوة الشخصية وتحمل المسئولية، أتفانى في مواجهة الأزمات والزلات، أتحايل على المفروض والمرفوض، فأكون صاحبة القرار والقول الفصل، تأتي الرياح العاصفة؛ فأواجهها تارة، وأخفض رأسي بمقدار تارة أخرى، المهم ألا يسودني موقف فيكون الخضوع مصيري...
كانت في طريق عودتها من المدرسة، تتأمل صفحة النيل الرقراقة، تداعب أغصان الأشجار التي تدلت على ضفافه طامعة في شربة ماء تجدد حيويتها، تمني نفسها بالفطيرة الساخنة التي وعدتها أمها إياها في الصباح، والتي كانت تشتهر بها بين نساء النجع.
وما أن وصلت إلى فناء البيت حتى تسمرت تلك الضحكة الرائقة على وجهها؛...
إنها ليلة الخميس، المكان يعج بالعائلات والأطفال، ينتظرون لحظة فتح الستار بفارغ الصبر، فالكل يطمع فى أن يسرق من الزمن لحظات من المرح، ينسى فيها متاعب الحياة ومسئولياتها، لحظات يعودون فيها لطفولتهم البريئة اللامسئولة، يهربون من نضجهم المثقل كاهله بالمشاكل والتبعات والأحلام المؤجلة.
يرتفع صوت...
لم يصدق نفسه عندما داهمته تلك الحمى، التي ارتعد جسده على إثرها، وبات يعاني آلاما مبرحة، يتردد داخله صوت "الشاويش عطية" في أفلام "إسماعيل ياسين" قائلا:
"هو بعينه وغباوته وشكله العكر"
ولكن ألا يجد مضيفا كريما يحسن استقباله سوى جسده المسكين؟!
إنها المرة الثالثة التي يشرفه فيها بالزيارة، والله وحده...
أمام أمواج البحر المتلاطمة كدروب وعرة يصعب سلوكها، تحت سماء تسكنها طيور النورس، تناجي الجالسين على الشاطئ، وكأنها تحمل لهم رسائل من الجانب الآخر ، اعتادت الجلوس شاخصة ببصرها في الأفق البعيد، ونسيم البحر الهائج يداعب وجهها، فتستسلم له خصلات شعرها المنسدل على كتفيها، كأنها ريشة في مهب الريح.
تطيل...