نرمين دميس - حكاية سند

كانت في طريق عودتها من المدرسة، تتأمل صفحة النيل الرقراقة، تداعب أغصان الأشجار التي تدلت على ضفافه طامعة في شربة ماء تجدد حيويتها، تمني نفسها بالفطيرة الساخنة التي وعدتها أمها إياها في الصباح، والتي كانت تشتهر بها بين نساء النجع.
وما أن وصلت إلى فناء البيت حتى تسمرت تلك الضحكة الرائقة على وجهها؛ فأبوها الذي لم يعتد العودة في مثل هذا الوقت، يجلس صامتا مهموما، شاخصا ببصره في الفراغ، يستند برأسه على عصا خشبية عتيقة ورثها عن والده، ألقت عليه التحية؛ فتأكد حدسها أن ثمة خطب ما عندما لم يرد عليها، وكأنه لا يراها ولا يسمعها.
تعالى صوت دقات قلبها بينما تخطو إلى ساحة البيت بأنفاس متلاحقة، لتجده يعج بنساء العائلة، وقد اتشحن بالسواد كأنهن في واجب عزاء.
عقد المشهد لسانها وزاغت عيناها بينما تحاول العثور على وجه أمها بينهن، حتى انتشلها وجه جدتها من تلك الحيرة؛ فأسرعت ترتمي في أحضانها، تدس فيها رأسها الصغير بما يطل منه من مخاوف، ولسان حالها يتساءل: " ماذا جرى؟!"
التقمها حضن الجدة الدافئ في صمت، لا تسمع منها سوى تمتمة بكلام غير مسموع، ولا ترى إلا أصابع لا تكف عن التسبيح، ودموع تقف على باب مقلتيها المنكسرتين، تنتظر إطلاق سراحها من محبسها.
لملمت الصغيرة شتات نفسها بصعوبة بالغة، وتسللت إلى الساحة الخلفية؛ فلم تجد أمها ولا الفطيرة، تذكرت أخواتها الصغار؛ فراحت تبحث عنهن؛ لتجدهن وقد تكومن في ركن حجرة الجلوس، كأفراخ صغيرة ترتعد بردا أو بالأحرى خوفا، حاولت طمأنتهن بابتسامة زائفة ولكن دون جدوى.
عادت إلى جمع النسوة، وكلما استجمعت شجاعتها لتسأل عن أمها، سقطت الكلمات من على لسانها في غيابات جب روحها المذعورة، وكأنها تخشى الجواب، والذي أتاها متبرعا في صورة صرخات ملتاعة متتالية تخرج من حجرة نوم أمها، هرولت إلى الحجرة التي امتلأت بنساء يتخبطن في هرج ومرج، حتى أنهن تركن الباب مواربا، لتظهر الأم من ورائه وقد تصببت عرقا وشحب وجهها، وخارت قواها ومقاومتها من الألم والصراخ، فما أن لمحتها تلك البدينة ذات الملامح الجامدة حتى أسرعت تغلق الباب قبل أن تدلف الصغيرة إلى الداخل.
تحاول الصراخ على أمها بأعلى صوتها؛ فتتردد أصداء صرخاتها المكتومة داخل صدرها، لا يسمعها سواها، تعود أدراجها إلى أحضان الجدة، تتأمل عيناها نساء العائلة من جديد، فتلمح زوجات أعمامها يتغمزن ويتلمزن، يمصمصن الشفاه، يرفعن رؤوسهن متفاخرات، وعيونهن معلقة بباب الحجرة؛ ينتظرن الخبر اليقين.
التفتت ناظرة إلى جدتها منكسة الرأس، وإذا بها تسمعها وقد أفرجت عن دموعها تردد:
"ربنا يا بنيتي يشد ضهرك وما يهدلك حيط"
تعجبت كثيرا من تلك الكلمات وراحت تسألها:
"بتقولي ايه يا ستي؟!"
ربتت عليها الجدة برفق، وهي تلوذ بذات الصمت الحزين ثانية؛ فرفعت الصغيرة رأسها تناجي ربها قائلة:
" يارب معرفش أكلمك زي ستي، لكن أنت عارف إني عاوزة أمي وبس."

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى