نرمين دميس - حفيدات سندريلا.. قصة

وقفت أمام شباك التذاكر، تنتظر دورها في استسلام، تثير فضول الجميع بهيئتها الرثة، وثيابها السوداء المهترئة، قابضة بيد مرتعشة على عصا خشبية، تتدلى منها أكياس غزل البنات المنفوخة الملونة، فماذا يفعل مثلها هنا؟!

لم تلتفت إلى سهام عيونهم المارقة، بل كانت عيناها معلقتين بتلك اللوحة المضيئة..

“حفيدات سندريلا”.

عينان خضراوان لامعتان، مزروعتان في بشرة قطنية بيضاء، تنم عن جمال قديم، رغم أخاديد حفرها الزمن عليها، حان دورها فلم تسلم من تهكم موظفة الشباك التي سألتها ساخرة:

“طلباتك يا حاجة؟! احنا هنا مش بنوزع زيت وسكر.”

انهمكت تخرج أوراقا نقدية، وضعت بشكل فوضوي في كيس من القماش، ناولتها إياها لحجز تذكرة لحضور العرض، رفعت الفتاة حاجبيها في استغراب، التقطت كومة النقود بأطراف أصابعها باشمئزاز، راحت تعدها في ضجر قائلة:

” الفلوس دي يادوب تحجز تذكرة في آخر صف.”

هزت رأسها موافقة في صمت، ثم دلفت بتذكرتها إلى داخل صالة العرض.

انفتح الستار على زغاريد مجلجلة، تعانق دقات طبلة بلدي، مصحوبة بغناء مبهج لمجموعة من الفتيات، يلتففن في حجرة جلوس متواضعة الأثاث..

خدناها خدناها

خدناها بالسيف الماضي

وأبوها ماكانش راضي

وعشانها بعنا الأراضي

الحلوة اللي كسبناها

خدناها خدناها

اشتعلت الصالة، وراح الجمهور يصفق، يشاركهن الغناء والزغاريد، في جو من البهجة والمرح، ينتظر طلة العروس بثوب لامع قصير منفوش، قابضة على الحناء في كلتي يديها، حاصدة للتبريكات ونظرات الإعجاب.

يستمر الغناء وتتبادل الفتيات أدوارهن في رقص فردي وجماعي، ولم تظهر العروس بعد، لم تقف في منتصف الحلقة، ليدرن حولها يراقصنها متتاليات، لم تبتسم خجلا كلما مازحنها يقرصنها في ركبتها، تنتهي وصلات الغناء والرقص وسط ضحكاتهن الصاخبة، ليفاجأ الجمهور أنها ليلة حنة بلا عروس، فقد أصاب النحس بنات الحارة، وغابت عنها رنات الزغاريد وضربات الدفوف لفترة طويلة، فقررن أن ينادين الفرحة بدلا من انتظارها، كما جاء على لسان إحداهن.

هدأ الصخب بعد أن غادرت الفتيات خشبة المسرح، وانتظر الحضور المشهد التالي، وهي بينهم على مقعدها الذي حجزته بالكاد في آخر صف.

ترتفع أصوات نساء الحارة من خلف الستار، يطلقن التهاني والدعوات..

“ربنا يتمم بخير يا أم أحلام”..

يبدو أن الفرحة الغائبة استجابت لنداء العذارى، عندما شاع خبر عريس “أحلام ” في الحارة كلها، وبات الجميع يترقب اللقاء المنتظر

ينفتح الستار من جديد على “أحلام” تحيي الضيوف على استحياء، مطأطئة الرأس، وقد ارتدت ثوبا يفصح عن قوام جميل، وزينت وجهها بالكثير من مساحيق التجميل، بعد أن أقنعت أمها أن تتخلى عن هذا العرف القديم، وتعفيها من الدخول بصينية التقديم، تلفتت ” أحلام” تبحث مرتبكة عن أول كرسي بالقرب منها، لتجلس عليه قبل أن تفضحها دقات قلبها المتسارعة، وقدماها اللتان تلتفان على بعضهما البعض، لتستقر على ذلك “الفوتي” الذي تعمدت والدتها تركه خاليا، فيتسنى لها النظر خلسة إلى العريس.

يتابع المتفرجون الزيارة باهتمام، تكاد عيونهم تنطق بقلقهم ورغبتهم في إتمام الزيجة، وهي معهم تتكأ على عصاها، تلمع عيناها وتبتسم ابتسامات باهتة من حين لآخر.

تتجاذب الأسرتان أطراف الحديث، تستطرد والدة العريس في سرد محاسن ابنها، والشقة الفخمة التي جهزها على أعلى مستوى، بعد أن وضع فيها ما ادخره من الغربة، تهز “أم أحلام” رأسها مبتسمة، تدعو الله في سرها أن يكون من نصيب ابنتها.

تنصت “أحلام” إلى حماة المستقبل، تنتظر أن تفسح المجال ل”عريس الغفلة” كي يسمعها صوته، والذي اكتفى ببعض النظرات الساذجة، وكأنه يتطلع إلى “مانيكان” في إحدى واجهات المحال التجارية.

راحت نفسها تؤزها على رفض العريس “اللقطة” الذي جاء مع أمه ليعاين البضاعة، وهل تملك تلك الرفاهية؟! بعد أن من الله عليها بنعمة تحسدها عليها كل بنات الحارة، بل هل ستسمح لها أمها بذلك من الأساس؟!

أفاقت على استئذان الضيوف في الذهاب، وأمها تحثهم على البقاء قليلا، بينما يعتذرون على وعد بلقاء قريب إن شاء الله.

انسدل الستار والجمهور يترقب بل يأمل أن يسمع تهاني النساء ورنات الزغاريد من خلفها، لتفتح بعدها على ديكور حفل الخطبة أو حتى الزفاف، ولكن الستار انفتح على نفس الفتيات يجلسن هادئات على سطح أحد المنازل في ليلة مقمرة، يتساءلن لم ذهب عريس “أحلام” بلا حس أو خبر؟! لم تدير الفرحة ظهرها إليهن بتلك القسوة؟! ألسن حفيدات سندريلا؟! فلم لا يحظين ولو بنصف حظها إذن؟!

ساد صمت شاركهن إياه الجمهور متأثرا، أظلم المسرح إلا من بقعة ضوء على إحدى الفتيات ومن فوقها القمر، تنظر إلى السماء، تتمنى أن تصادف كل منهن فارسها الذي يخطفها على حصانه الابيض، قبل أن يفوتهن قطار الزواج بلا رجعة.

أسدل الستار وقد ترقرقت عيناها بالدموع، تواري وجهها خلف وشاحها الرمادي، مثلما توارت البطلة خلف الأستار، وسط تصفيق حاد من الحضور.

عادت وحيدة إلى حجرتها الصغيرة، وقد أيقظ العرض أحلاما، ظنت أنها سكنت وآثرت الصمت.

فتحت دولابها الخشبي العتيق، مدت يدها داخل الرف، تحت رصة من الملابس القديمة المهلهلة، علت وجهها ابتسامة حنين، بينما تتطلع إلى فردة حذاء حمراء وحيدة.

بقلم : نرمين دميس



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى