"الكراهية المقدسة"
محمد الشرادي
(إذا رأيت القاسية قلوبهم، صف لهم رحمة الله.)
محمد بن عبد الجبار النفري
قمت في جوف الليل، ملبيا نداء ربي. أعطيت لكل عضو من أعضاء الوضوء حقه. وضعت السجادة أمامي. رفعت يدي بتكبيرة الإحرام. سمعت طرقا عنيفا مصحوبا بصراخ حاد:
- الباب...افتح يا ابن !
حين دنوت من الباب مذعورا، رأيته، وقد انشطر شطرين. فدلف إلى قلب المنزل رجال مقنعون، يشهرون مسدسات. يصيحون في وجهي ( أن اجثم على ركبتيك، و ضع يديك خلف رأسك). ربطوني بأصفاد . غطوا عيني بعصابة سميكة حجبت عني الرؤية، لكني كنت أعلم، أن الجيران يشرئبون بأعناقهم من الأبواب، ونظاراتهم المتسائلة، تتدلى من الشرفات، والنوافذ، وعلى الرصيف، يقف تجار المخدرات ، والخمور، واللحم البشري الرخيص، يلقون بالتحيات إلى رجال الليل آمنين.
من خلال الروائح النتنة، التي تقصف خياشيمي، عرفت أني محشور في مرحاض قذر. أحسست بيد ثقيلة تمسكني بعنف من رقبتي، وتدفعني بقسوة إلى حيث لا أدري. وجدت نفسي في مكان بارد، تمتزج فيه رائحة الدم برائحة براز آدمي. حرروا عينيَّ من سجنهما. أمامي رجل قبيح الخلقة. حدجني بعينين حادتين كما لو كنت خائنا باع وطنه لعدو غاشم. وضع أمامي حاسوبي المحمول، الذي صادروه أثناء اقتحام البيت. طلب مني أن أقرأ الإيميل على الشاشة:
إمامي
طالت غيبتك
هزني الشوق للقائك
عجل بعودتك.
أضفى المارد الذميم، على وجهه ملامح قاض من قضاة محاكم التفتيش. رشق أذني بكلمات بذيئة، ثم خاطبني:
- تناجي إمامك. تتمنى عودته. اعلم أنك لن تعيش هذا المشهد أبدا ، لأننا سنفصل روحك عن جسدك قبل أن ترى ذلك اليوم.
رغم جدية تهديداته، ارتسمت على شفتي بسمة ساخرة. استشاط غضبا. راح يلعن عليا، والإمام الغائب، وحزب الله، والفرس الملاعين. قبل أن أشرح له أن الأمر يتعلق بمزحة، نزلت على رأسي خبطة قوية. أحسست بمخي يرتج، وغشي الضباب عيني، ورحت أخاطب نفسي:
- مجرد مزحة مع صديق عزيز؟!
سيصدق هذا الكلام؟ سيسحقون عظامي من أجل أن ينتزعوا مني اعترافا على مقاس رغبتهم.
لم يطل الصمت السميك، الذي ران على المكان، حتى جاءني صوت قاس، من رجل ذابت ملامحه، في ركن معتم:
- أيها الرافض. أنت الآن على كرسي الاعتراف، ولن تنفعك اليوم تقيتك.
غادر العتمة، كان يسدل لحية طويلة، أدركت فيما بعد أنه فقيه تستعين به الشرطة في تحقيقاتها.
( ليته نظر إلى قلبي الشفيف، ليتأكد أنني لا أخفي شيئا.). اقترب من الكرسي الذي أجلس عليه. لم أنبس ببنت شفة. قرص شفتي السفلى، ومطها بعنف، ثم قرب منها أذنه اليمنى. أدركت أنه ينتظر مني اعترافا.
قررت أن أرفع من حدة توتره، فخاطبته بصلابة، ربما لم يكن ينتظرها:
- ما أغربكم! تدعون إلى توحيد الله، وتزرعون الفرقة بين المسلمين، وجعلتم عبادة الخالق وحده من ...
قاطعني ساخرا. قهقه قهقهة عالية حتى برزت نواجده:
- قل لي إذن أيها الشاطر: كيف تعبد الله؟
لم أتأخر في الرد:
- كما تفعل باقى المخلوقات. تهفو إلى خالقها. تعبده أناء الليل وأطراف النهار. أغبطها في عبادتها الخالصة لله الواحد الأحد.
وجد كلامي مضحكا. تقدم نحوي بوجهه المتجهم. وقال ساخرا.
- لكن أخبرني أيها الذكي كيف عرفت أنها...؟
فهمت المقصود من سؤاله. فقاطعته:
- لا يقتل بعضها البعض على الهوية. لا تذبح بعضها تقربا لله. لا تُحل دم بعضها بالفتاوى الدموية. لا ينفجر انتحاري في أسواقها الآهلة بالعباد المخلصين.
استفزه كلامي. خبط الطاولة بيده الغليظة. إمعانا في إغاظته. واصلت استفزازه:
- افعل ما بدا لك، يمكنك أن تمزق جسمي، لكنك لن تطال روحي المشرئبة إلى النور الأزلي، تعرف روحي الطريق التي تخلو من لغطكم (صوبت نحوه نظرات متحدية، وواصلت) ما أرحب ما أنزل الحق من السماء، وما أضيق ما تدعون إليه!
أمسكني محقق من شعر رأسي. جذبه بقوة حتى دمعت عيناي. قرب الرجل الملتحي فمه من أذني، وصاح مستشيطا:
- هل أفهم من كلامك أنك مدع آثم. يزعم لنفسه أنه صاحب دين جديد؟ نحن فقهاء الأمة أحرص الناس على الدين.
لم يمنعني الألم من السخرية من أفكاره الحمقاء، وعقله الصغير. هو أبعد من أن يفهم أن (صلى الله عليه و سلم) عندما مات لم يعين كاهنا، ولا أميرا، ولا مرشدا، ولا إماما ليحتكر الكلام باسم المسلمين. روحي، وقلبي، وعقلي... كل جوارحي تهفو إلى النبع الأول، إلى رب السنة، والشيعة...
حدجني بنظرات حادة، وقال حانقا:
- أراك واثقا من نفسك. وتظهر على وجهك راحة كبيرة.
ابتسمت ابتسامة مشرقة، ورددت على كلامه باطمئنان تام:
- أجل، تغمرني سعادة كبيرة، لا يمكنك أن تشعر بها أبدا، لأنني أعلم أن الحساب يوم القيامة بيدٍ رحمتها واسعة، إذا أسأتَ احتسبتْها سيئة واحدة، وإذا أحسنتَ ضاعفتِ الحسنة بسخاء كبير.
ضاق صدره، فأشار إلى محقق برأسه موحيا له أن الجدال لم يعد نافعا. اقشعر بدني. لكني قاومت الخوف. تذكرت هذا الكلام (الحاقدون الكبار الذين عرفهم التاريخ كانوا دائما قساوسة) - عفوا نيتشيه -، دعني أضيف إليهم (فقهاء المذاهب).
تأملت الرجل الملتحي بسحنته الجافة، وملامحه العدوانية. بيد عاتية من شعر رأسي. لن أصرخ. لن أتوسل أحدا. تركته يبطش بجسدي. رماني على الأرض متعبا، وجسمي مثخن بالجراح النفسية، والجسدية. روحي كسمكة ترفض النوم.
صرت أئن أنينا يذيب الصخر. أغمضت عيني. رأيتني أسير في طريق مستقيم، يخلو من العوائق، واللغط، يرتفع ليقودني إلى السماء، حيث يشع نور لا مثيل له. أحسست بصفاء نفسي. شعرت بقلبي يتوهج كمشكاة، وسمعت صوتا دافئا يرتل:
(و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل)
أسرعت الخطى... اندلق على جسمي سطل ماء شديد البرودة. انتصبت مذعورا، وأسناني تصطك. شعرت بصدري يضيق. ترنحت ثم ترنحت كديك مذبوح. سقطت على الأرض، وسبابتي تشير إلى السماء.
على شاشة حاسوبي المصادر، ظهرت رسالة إلكترونية:
لا تقنط من الانتظار
غيبتي لم تعد طويلة
نلتقي يوم الأحد في محطة القطار.
صديقك إمامي.
محمد الشرادي
*****
* في محطة "مطر"
حسن إمامي
صعدت الدرج الثامن المؤدي إلى مخرج محطة القطار. استغربت في تسميتها بمطر. محطة مطر!
كيف فكّروا أخيرا في جعل التسميات برموز جديدة موحية؟ رفعتُ رأسي إلى الساعة الحائطية الإلكترونية التي تشير إلى الخامسة والنصف مساء. حب السفر الذي يسكنني يختبره التأخر الذي تعرفه قطاراتنا هذه السنوات. لكن جحيم الانتظار تشتري له دائما أجهزة و أدوات صبر. جرائد مرافقة، ورواية مبدوءة تنتظر مسافة السفر لكي تسرع في خطوها نحو التحقق في عالم الذهن وفضاء عقل قارئها، حتى إنها تمتلكه لمدة تشعل فيها مختلف الإشكاليات وتثير زوابع تجعل صاحبها في شقاء التخميم الذي لا ينتهي. لكن، بالمقابل تتحفك بلغة جديدة وتسقيك بصور بلاغية فريدة لم تكن تتخيلها من قبل، فتعطيك آفاقا لامتلاك أدبي وفلسفي وعلمي وفكري، جديدة.
جحيم الانتظار، تفَرّغه مع من يجاورك في القاطرة. على الأقل هذه الوسيلة أكثر أمنا وأخلاقية وراحة من الحافلات، ومن الطرق التي أصبحت مثل أفلام الرعب، لا تخرجك من منعرج حتى تزيد من خفقان ونبضات قلبك هلعا لخروقات مدوية بصفير الشاحنات واستفزاز المخالفين لقانون السير.
على الأقل ، تتجنب طرقا غير مأمونة في صيانتها، دخلت جيوبا وتلونت بلون بني نقودا بعد أن خضعت لمعامل التحويل الإدارية والاحتيالية على السيد "القانون". وفجأة ، تحبس استرسال كلامك، لأن عدوى الشك و"يقظة المواطنين" قد زرعتها تربية سنوات الرصاص التي لا نعرف نهاية مشهدها، متى كان؟
نظرت الى ساعتي اليدوية، فوجدت فارق دقيقة بين التوقيتين. ترى: هل قرأ الرسالة المكتوبة على هاتفه، وهو الذي لا يحب مصاحبة الهاتف معه في خروجه إلى المقهى.
طال انتظاري بين موعد جعلناه للقاء ومناقشة العمل الجمعوي، وبين الرغبة في التخلص من الحقيبة وإراحتها من هذه الرحلة التي رغبتها للقراءة والكتابة أولا قبل أي بحر أو شاطئ أو شارع مدينة جديدة.
على الأقل، لم يرسل لي عبر الهاتف المحمول: خمس دقائق وأكون معك. حتى لا تكون الدقيقة بقياس السنوات الضوئية التي نعيش بها صبرنا المجتمعي معها في انتظار "غودوت" الذي نجهل من هو في الحقيقة.
فجأة، وأنا أتابع وقوف سيارة (غولف سوداء اللون)، نزل شخصان بلباس مدني وتوجها مباشرة نحوي بهدوء، مبادرين بالسلام:
- هل أنت إمامي ؟
ـ نعم.
ـ صديقك الشرادي في انتظارك. بلغته الرسالة عبر الهاتف وينتظرك.
ـ وأنا أنتظره في محطة مطر منذ نصف ساعة !!
ـ طيب، سترافقنا لمقابلته الآن.
ـ من أنتم؟
ـ نحن من الداخلية. هناك مشكل بسيط نريد تسويته بحضورك.
وتوقف نبض فؤادي، وسبابتي تشير إلى السماء
تلك كانت غيبوبتك، وتمسكك بناموس السماء. شهادتك حبل تسلقك ونجاتك من ظلمة مسودة غيَّمَتْ بهاء بصرك. ما كنت تدري متى تعود. توقف نبضك، لكنه عاد، كعودة الفينيق وتجربة البياض التي يزورها الباحث عن عدالة غائبة.
أطبق صمت الكون على لسانك. استنجد بلاوعيك حتى ينتصر على ألم الحكاية، وسبب الاهانة. وحتى تحافظ على شيء من كرامة. تلك كانت غيبوبتك. لم تمت. أرادتك أن تكون شاهدا على حادثة، أن تعمق الحفر بمعول الاستفهام الذي ازداد لمعانا ومضاء.
وصلت لتوي، وجدتك في هذيان غيبوبة، خارجا من حالة سكران. قلت ما بصاحبي؟ لم يعطوني تفاصيل سبب وجودك ولا سبب إحضاري هنا. فقط اسمك الذي ربط الحكاية بين الخروج من المحطة ـ ويا ليتني بقيت داخلها ـ وبين الحضور إلى معقل استنطاقك.
أدخِل الشقاء الى وعيي حارقا أحلامي السفرية التي حملتها معي في حقيبة افكاري. من محطة مطرٍ، كانت تحمل في سحابها مزنا وظلالا وخيالا يتشكل مع الهواء والريح، فيعطيني كل مرة تفسيرا للعالم وحكايات بداياته.
ها أنذا ألج دائرة زبانية تتقن شواء الدسم من قلوب الناس واكبادهم.ـ ليتني ما خرجت من محطة أسفاري، لكنني اضطررت كما قال عمر الخيام: لبست ثوب العيش، لم أستشر.
ما المحطة؟ ما الزبانية؟ ما القتل والاغتيال؟ هل اغتالوك ؟ مجرد تفكيرهم في اشتغال ذهنك بتحليق حرية، واستدعائك واقتيادك مثلما اقتادوني، كان اغتيالا. خنقا لانفاس العقل. حتى يعلم صاحبه بأن الجنة محظورة على الخارج عن طاعتهم. هكذا أصبحت منابرهم. وكانت سبابتك حساما فالقا بين نور الالإ، وظلمة احتيالهم. كان الإله لنا جميعا لكي نعشقه ونذهب إليه. ولن يمتلكوا قوة لإعادتك من عنده، ما دمت قد اخترت التعلق بالسماء في نهاية المطاف، وتصورت الاحتراق وعشقته حبا كالفراشة في معانقة المصباح. فكانت لك مشكاتك وضياؤك الداخلي الذي لن تصله زبانية ولا جاسوسية.
ها هم قد تنفسوا الصعداء. تحول الاستنطاق إلى صاحب التسمية:
- أنت سبب المشكلة. كدْتَ تسبب لنا أزمة أمنية. وهذه الأيام ولت علينا مصائب بسبب الجمعيات الحقوقية والمراقبات الدولية. من أين أتيت بالتسمية؟ ما علاقتك بالإمامية؟ نطق سؤاليه ملتحي المخبرية، مُكَحِل العينين سوية.
أمام عينيك، كانت استفاقتك على جديد الاستنطاق. تحولت من مشارك إلى مشاهد متابع. أوَ إنك لازلت معنيا بالعملية؟
- ما المشكلة؟ بادرت بسؤالي مستغربا الحديث عن التسمية. استحضرت إشكالية التسميات في بلادي والحظر القائم على لوائحٍ، إلا ما كان من تحلل الثقافة الحالية، مع العولمة والأجندات الإعلامية الدولية.
بادرت إلى إزاحة هذا الاستحضار، وفكرت في الجواب، وطرحته احتمالات:
- هناك آيت ليمام، وايت الامام، وليمامة... وهناك الجبل وهناك منبسط الواحات. هناك لغات متعددة تعتنقها التسمية وتتشرف بإمامتها كذا نداء.... وسمرتي تخبركم بالمنطقة واللغة والواحة. ربما هذه وربما تلك...
ـ ألا علاقة لك بالشيعة والإمامية؟
مِن تساؤلِه سقط من عيني هولُه ، كما لحيته وسواكه وكحله. قلت هذا لن يكون فقهه من مذهب السنية. استعنت بسخرية سجع وقافية في مثل هذه المواقف المبهذلة. كَبُرت اللعبة حينئذٍ ولو أنني بحثت عن إجابات بمقالات كتبتها، ترى ما الذي ستقودني إليه مع هؤلاء المسطحي الاذهان، الحادين في حواس يقظتهم؟
عانقت افكاري، وأغمضت عيني، واستحضرت إشكاليات الفكر الإسلامي والتاريخ الضائع على أممنا. استحضرت عنوانا نشرت مقالته بجريدة: (ردة التخلف) ... لطمت دماغي:
- ويحك! ستزيد الطين بلة. أنجُ بصاحبك، وانصرف.
فكرت في أي قسَم مناسب لهؤلاء، محدث الاقتناع عندهم ما داموا بلهاء:
ـ وحق مولاي ادريس والشيخ الكامل، لا علاقة لنا بالإمامية.
وأخيرا، انتصر فقيه الزبانية ببسمة سخرية. تنفس الصعداء. وفهم الانتماء للأولياء والأضرحة، تلك الأحزاب التي جعلت للأنام وللانتماء في عصر عولمة وتقنية.
ـ لقد أتعبتمونا. من الصباح ونحن ننتظر الحقيقة. اخلوا سبيلهما، يبدو أنهما من أبناء الزاوية.
قلت لصاحبي:
- لا عليك. سنذهب للاستلذاذ بعصير فواكه وحلويات شهية، تنسينا هذه المحنة. وما رأيك في العودة إلى محطة مطر. ربما السفر أصبح جنة المتعبين من ضجر المحيط وخبراء يقظته!
محمد الشرادي
(إذا رأيت القاسية قلوبهم، صف لهم رحمة الله.)
محمد بن عبد الجبار النفري
قمت في جوف الليل، ملبيا نداء ربي. أعطيت لكل عضو من أعضاء الوضوء حقه. وضعت السجادة أمامي. رفعت يدي بتكبيرة الإحرام. سمعت طرقا عنيفا مصحوبا بصراخ حاد:
- الباب...افتح يا ابن !
حين دنوت من الباب مذعورا، رأيته، وقد انشطر شطرين. فدلف إلى قلب المنزل رجال مقنعون، يشهرون مسدسات. يصيحون في وجهي ( أن اجثم على ركبتيك، و ضع يديك خلف رأسك). ربطوني بأصفاد . غطوا عيني بعصابة سميكة حجبت عني الرؤية، لكني كنت أعلم، أن الجيران يشرئبون بأعناقهم من الأبواب، ونظاراتهم المتسائلة، تتدلى من الشرفات، والنوافذ، وعلى الرصيف، يقف تجار المخدرات ، والخمور، واللحم البشري الرخيص، يلقون بالتحيات إلى رجال الليل آمنين.
من خلال الروائح النتنة، التي تقصف خياشيمي، عرفت أني محشور في مرحاض قذر. أحسست بيد ثقيلة تمسكني بعنف من رقبتي، وتدفعني بقسوة إلى حيث لا أدري. وجدت نفسي في مكان بارد، تمتزج فيه رائحة الدم برائحة براز آدمي. حرروا عينيَّ من سجنهما. أمامي رجل قبيح الخلقة. حدجني بعينين حادتين كما لو كنت خائنا باع وطنه لعدو غاشم. وضع أمامي حاسوبي المحمول، الذي صادروه أثناء اقتحام البيت. طلب مني أن أقرأ الإيميل على الشاشة:
إمامي
طالت غيبتك
هزني الشوق للقائك
عجل بعودتك.
أضفى المارد الذميم، على وجهه ملامح قاض من قضاة محاكم التفتيش. رشق أذني بكلمات بذيئة، ثم خاطبني:
- تناجي إمامك. تتمنى عودته. اعلم أنك لن تعيش هذا المشهد أبدا ، لأننا سنفصل روحك عن جسدك قبل أن ترى ذلك اليوم.
رغم جدية تهديداته، ارتسمت على شفتي بسمة ساخرة. استشاط غضبا. راح يلعن عليا، والإمام الغائب، وحزب الله، والفرس الملاعين. قبل أن أشرح له أن الأمر يتعلق بمزحة، نزلت على رأسي خبطة قوية. أحسست بمخي يرتج، وغشي الضباب عيني، ورحت أخاطب نفسي:
- مجرد مزحة مع صديق عزيز؟!
سيصدق هذا الكلام؟ سيسحقون عظامي من أجل أن ينتزعوا مني اعترافا على مقاس رغبتهم.
لم يطل الصمت السميك، الذي ران على المكان، حتى جاءني صوت قاس، من رجل ذابت ملامحه، في ركن معتم:
- أيها الرافض. أنت الآن على كرسي الاعتراف، ولن تنفعك اليوم تقيتك.
غادر العتمة، كان يسدل لحية طويلة، أدركت فيما بعد أنه فقيه تستعين به الشرطة في تحقيقاتها.
( ليته نظر إلى قلبي الشفيف، ليتأكد أنني لا أخفي شيئا.). اقترب من الكرسي الذي أجلس عليه. لم أنبس ببنت شفة. قرص شفتي السفلى، ومطها بعنف، ثم قرب منها أذنه اليمنى. أدركت أنه ينتظر مني اعترافا.
قررت أن أرفع من حدة توتره، فخاطبته بصلابة، ربما لم يكن ينتظرها:
- ما أغربكم! تدعون إلى توحيد الله، وتزرعون الفرقة بين المسلمين، وجعلتم عبادة الخالق وحده من ...
قاطعني ساخرا. قهقه قهقهة عالية حتى برزت نواجده:
- قل لي إذن أيها الشاطر: كيف تعبد الله؟
لم أتأخر في الرد:
- كما تفعل باقى المخلوقات. تهفو إلى خالقها. تعبده أناء الليل وأطراف النهار. أغبطها في عبادتها الخالصة لله الواحد الأحد.
وجد كلامي مضحكا. تقدم نحوي بوجهه المتجهم. وقال ساخرا.
- لكن أخبرني أيها الذكي كيف عرفت أنها...؟
فهمت المقصود من سؤاله. فقاطعته:
- لا يقتل بعضها البعض على الهوية. لا تذبح بعضها تقربا لله. لا تُحل دم بعضها بالفتاوى الدموية. لا ينفجر انتحاري في أسواقها الآهلة بالعباد المخلصين.
استفزه كلامي. خبط الطاولة بيده الغليظة. إمعانا في إغاظته. واصلت استفزازه:
- افعل ما بدا لك، يمكنك أن تمزق جسمي، لكنك لن تطال روحي المشرئبة إلى النور الأزلي، تعرف روحي الطريق التي تخلو من لغطكم (صوبت نحوه نظرات متحدية، وواصلت) ما أرحب ما أنزل الحق من السماء، وما أضيق ما تدعون إليه!
أمسكني محقق من شعر رأسي. جذبه بقوة حتى دمعت عيناي. قرب الرجل الملتحي فمه من أذني، وصاح مستشيطا:
- هل أفهم من كلامك أنك مدع آثم. يزعم لنفسه أنه صاحب دين جديد؟ نحن فقهاء الأمة أحرص الناس على الدين.
لم يمنعني الألم من السخرية من أفكاره الحمقاء، وعقله الصغير. هو أبعد من أن يفهم أن (صلى الله عليه و سلم) عندما مات لم يعين كاهنا، ولا أميرا، ولا مرشدا، ولا إماما ليحتكر الكلام باسم المسلمين. روحي، وقلبي، وعقلي... كل جوارحي تهفو إلى النبع الأول، إلى رب السنة، والشيعة...
حدجني بنظرات حادة، وقال حانقا:
- أراك واثقا من نفسك. وتظهر على وجهك راحة كبيرة.
ابتسمت ابتسامة مشرقة، ورددت على كلامه باطمئنان تام:
- أجل، تغمرني سعادة كبيرة، لا يمكنك أن تشعر بها أبدا، لأنني أعلم أن الحساب يوم القيامة بيدٍ رحمتها واسعة، إذا أسأتَ احتسبتْها سيئة واحدة، وإذا أحسنتَ ضاعفتِ الحسنة بسخاء كبير.
ضاق صدره، فأشار إلى محقق برأسه موحيا له أن الجدال لم يعد نافعا. اقشعر بدني. لكني قاومت الخوف. تذكرت هذا الكلام (الحاقدون الكبار الذين عرفهم التاريخ كانوا دائما قساوسة) - عفوا نيتشيه -، دعني أضيف إليهم (فقهاء المذاهب).
تأملت الرجل الملتحي بسحنته الجافة، وملامحه العدوانية. بيد عاتية من شعر رأسي. لن أصرخ. لن أتوسل أحدا. تركته يبطش بجسدي. رماني على الأرض متعبا، وجسمي مثخن بالجراح النفسية، والجسدية. روحي كسمكة ترفض النوم.
صرت أئن أنينا يذيب الصخر. أغمضت عيني. رأيتني أسير في طريق مستقيم، يخلو من العوائق، واللغط، يرتفع ليقودني إلى السماء، حيث يشع نور لا مثيل له. أحسست بصفاء نفسي. شعرت بقلبي يتوهج كمشكاة، وسمعت صوتا دافئا يرتل:
(و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل)
أسرعت الخطى... اندلق على جسمي سطل ماء شديد البرودة. انتصبت مذعورا، وأسناني تصطك. شعرت بصدري يضيق. ترنحت ثم ترنحت كديك مذبوح. سقطت على الأرض، وسبابتي تشير إلى السماء.
على شاشة حاسوبي المصادر، ظهرت رسالة إلكترونية:
لا تقنط من الانتظار
غيبتي لم تعد طويلة
نلتقي يوم الأحد في محطة القطار.
صديقك إمامي.
محمد الشرادي
*****
* في محطة "مطر"
حسن إمامي
صعدت الدرج الثامن المؤدي إلى مخرج محطة القطار. استغربت في تسميتها بمطر. محطة مطر!
كيف فكّروا أخيرا في جعل التسميات برموز جديدة موحية؟ رفعتُ رأسي إلى الساعة الحائطية الإلكترونية التي تشير إلى الخامسة والنصف مساء. حب السفر الذي يسكنني يختبره التأخر الذي تعرفه قطاراتنا هذه السنوات. لكن جحيم الانتظار تشتري له دائما أجهزة و أدوات صبر. جرائد مرافقة، ورواية مبدوءة تنتظر مسافة السفر لكي تسرع في خطوها نحو التحقق في عالم الذهن وفضاء عقل قارئها، حتى إنها تمتلكه لمدة تشعل فيها مختلف الإشكاليات وتثير زوابع تجعل صاحبها في شقاء التخميم الذي لا ينتهي. لكن، بالمقابل تتحفك بلغة جديدة وتسقيك بصور بلاغية فريدة لم تكن تتخيلها من قبل، فتعطيك آفاقا لامتلاك أدبي وفلسفي وعلمي وفكري، جديدة.
جحيم الانتظار، تفَرّغه مع من يجاورك في القاطرة. على الأقل هذه الوسيلة أكثر أمنا وأخلاقية وراحة من الحافلات، ومن الطرق التي أصبحت مثل أفلام الرعب، لا تخرجك من منعرج حتى تزيد من خفقان ونبضات قلبك هلعا لخروقات مدوية بصفير الشاحنات واستفزاز المخالفين لقانون السير.
على الأقل ، تتجنب طرقا غير مأمونة في صيانتها، دخلت جيوبا وتلونت بلون بني نقودا بعد أن خضعت لمعامل التحويل الإدارية والاحتيالية على السيد "القانون". وفجأة ، تحبس استرسال كلامك، لأن عدوى الشك و"يقظة المواطنين" قد زرعتها تربية سنوات الرصاص التي لا نعرف نهاية مشهدها، متى كان؟
نظرت الى ساعتي اليدوية، فوجدت فارق دقيقة بين التوقيتين. ترى: هل قرأ الرسالة المكتوبة على هاتفه، وهو الذي لا يحب مصاحبة الهاتف معه في خروجه إلى المقهى.
طال انتظاري بين موعد جعلناه للقاء ومناقشة العمل الجمعوي، وبين الرغبة في التخلص من الحقيبة وإراحتها من هذه الرحلة التي رغبتها للقراءة والكتابة أولا قبل أي بحر أو شاطئ أو شارع مدينة جديدة.
على الأقل، لم يرسل لي عبر الهاتف المحمول: خمس دقائق وأكون معك. حتى لا تكون الدقيقة بقياس السنوات الضوئية التي نعيش بها صبرنا المجتمعي معها في انتظار "غودوت" الذي نجهل من هو في الحقيقة.
فجأة، وأنا أتابع وقوف سيارة (غولف سوداء اللون)، نزل شخصان بلباس مدني وتوجها مباشرة نحوي بهدوء، مبادرين بالسلام:
- هل أنت إمامي ؟
ـ نعم.
ـ صديقك الشرادي في انتظارك. بلغته الرسالة عبر الهاتف وينتظرك.
ـ وأنا أنتظره في محطة مطر منذ نصف ساعة !!
ـ طيب، سترافقنا لمقابلته الآن.
ـ من أنتم؟
ـ نحن من الداخلية. هناك مشكل بسيط نريد تسويته بحضورك.
وتوقف نبض فؤادي، وسبابتي تشير إلى السماء
تلك كانت غيبوبتك، وتمسكك بناموس السماء. شهادتك حبل تسلقك ونجاتك من ظلمة مسودة غيَّمَتْ بهاء بصرك. ما كنت تدري متى تعود. توقف نبضك، لكنه عاد، كعودة الفينيق وتجربة البياض التي يزورها الباحث عن عدالة غائبة.
أطبق صمت الكون على لسانك. استنجد بلاوعيك حتى ينتصر على ألم الحكاية، وسبب الاهانة. وحتى تحافظ على شيء من كرامة. تلك كانت غيبوبتك. لم تمت. أرادتك أن تكون شاهدا على حادثة، أن تعمق الحفر بمعول الاستفهام الذي ازداد لمعانا ومضاء.
وصلت لتوي، وجدتك في هذيان غيبوبة، خارجا من حالة سكران. قلت ما بصاحبي؟ لم يعطوني تفاصيل سبب وجودك ولا سبب إحضاري هنا. فقط اسمك الذي ربط الحكاية بين الخروج من المحطة ـ ويا ليتني بقيت داخلها ـ وبين الحضور إلى معقل استنطاقك.
أدخِل الشقاء الى وعيي حارقا أحلامي السفرية التي حملتها معي في حقيبة افكاري. من محطة مطرٍ، كانت تحمل في سحابها مزنا وظلالا وخيالا يتشكل مع الهواء والريح، فيعطيني كل مرة تفسيرا للعالم وحكايات بداياته.
ها أنذا ألج دائرة زبانية تتقن شواء الدسم من قلوب الناس واكبادهم.ـ ليتني ما خرجت من محطة أسفاري، لكنني اضطررت كما قال عمر الخيام: لبست ثوب العيش، لم أستشر.
ما المحطة؟ ما الزبانية؟ ما القتل والاغتيال؟ هل اغتالوك ؟ مجرد تفكيرهم في اشتغال ذهنك بتحليق حرية، واستدعائك واقتيادك مثلما اقتادوني، كان اغتيالا. خنقا لانفاس العقل. حتى يعلم صاحبه بأن الجنة محظورة على الخارج عن طاعتهم. هكذا أصبحت منابرهم. وكانت سبابتك حساما فالقا بين نور الالإ، وظلمة احتيالهم. كان الإله لنا جميعا لكي نعشقه ونذهب إليه. ولن يمتلكوا قوة لإعادتك من عنده، ما دمت قد اخترت التعلق بالسماء في نهاية المطاف، وتصورت الاحتراق وعشقته حبا كالفراشة في معانقة المصباح. فكانت لك مشكاتك وضياؤك الداخلي الذي لن تصله زبانية ولا جاسوسية.
ها هم قد تنفسوا الصعداء. تحول الاستنطاق إلى صاحب التسمية:
- أنت سبب المشكلة. كدْتَ تسبب لنا أزمة أمنية. وهذه الأيام ولت علينا مصائب بسبب الجمعيات الحقوقية والمراقبات الدولية. من أين أتيت بالتسمية؟ ما علاقتك بالإمامية؟ نطق سؤاليه ملتحي المخبرية، مُكَحِل العينين سوية.
أمام عينيك، كانت استفاقتك على جديد الاستنطاق. تحولت من مشارك إلى مشاهد متابع. أوَ إنك لازلت معنيا بالعملية؟
- ما المشكلة؟ بادرت بسؤالي مستغربا الحديث عن التسمية. استحضرت إشكالية التسميات في بلادي والحظر القائم على لوائحٍ، إلا ما كان من تحلل الثقافة الحالية، مع العولمة والأجندات الإعلامية الدولية.
بادرت إلى إزاحة هذا الاستحضار، وفكرت في الجواب، وطرحته احتمالات:
- هناك آيت ليمام، وايت الامام، وليمامة... وهناك الجبل وهناك منبسط الواحات. هناك لغات متعددة تعتنقها التسمية وتتشرف بإمامتها كذا نداء.... وسمرتي تخبركم بالمنطقة واللغة والواحة. ربما هذه وربما تلك...
ـ ألا علاقة لك بالشيعة والإمامية؟
مِن تساؤلِه سقط من عيني هولُه ، كما لحيته وسواكه وكحله. قلت هذا لن يكون فقهه من مذهب السنية. استعنت بسخرية سجع وقافية في مثل هذه المواقف المبهذلة. كَبُرت اللعبة حينئذٍ ولو أنني بحثت عن إجابات بمقالات كتبتها، ترى ما الذي ستقودني إليه مع هؤلاء المسطحي الاذهان، الحادين في حواس يقظتهم؟
عانقت افكاري، وأغمضت عيني، واستحضرت إشكاليات الفكر الإسلامي والتاريخ الضائع على أممنا. استحضرت عنوانا نشرت مقالته بجريدة: (ردة التخلف) ... لطمت دماغي:
- ويحك! ستزيد الطين بلة. أنجُ بصاحبك، وانصرف.
فكرت في أي قسَم مناسب لهؤلاء، محدث الاقتناع عندهم ما داموا بلهاء:
ـ وحق مولاي ادريس والشيخ الكامل، لا علاقة لنا بالإمامية.
وأخيرا، انتصر فقيه الزبانية ببسمة سخرية. تنفس الصعداء. وفهم الانتماء للأولياء والأضرحة، تلك الأحزاب التي جعلت للأنام وللانتماء في عصر عولمة وتقنية.
ـ لقد أتعبتمونا. من الصباح ونحن ننتظر الحقيقة. اخلوا سبيلهما، يبدو أنهما من أبناء الزاوية.
قلت لصاحبي:
- لا عليك. سنذهب للاستلذاذ بعصير فواكه وحلويات شهية، تنسينا هذه المحنة. وما رأيك في العودة إلى محطة مطر. ربما السفر أصبح جنة المتعبين من ضجر المحيط وخبراء يقظته!
Hassan Imami
Hassan Imami ist bei Facebook. Tritt Facebook bei, um dich mit Hassan Imami und anderen Nutzern, die du kennst, zu vernetzen. Facebook gibt Menschen die Möglichkeit, Inhalte zu teilen und die Welt...
www.facebook.com