.... قصيدة بليغة من الأدب الأندلسي الرائع تصف أحسن وصف المأساة الأندلسية لم نعثر على قائلها، وقد طبعها لأول مرة على ما يظهر الأستاذ الدكتور صوالح محمد بالجزائر سنة 1914 مع ترجمة فرنسية وبعض تعليقات بالفرنسية ذكر فيها أن هذه القصيدة من جملة قصائد بعث إلى السلطان بايزيد العثماني بقصد الاستغاثة، وأشار إلى أن صحيفة الزهرة التونسية نشرت نتفاً منها منذ سنوات وطلبت من الأدباء أن يعلنوا عن صاحبها إذا عرفوه، ولكن لم يجب الصحيفة أحد: فبقي صاحبها مجهولاً؛ وقد عْرضتها على المؤرخ المغربي الكبير السيد محمد بن علي الدكالي السلوي فذكر لي أن صاحبها كما يفهم من القصيدة من مدينة المرية، ولعله أبو جعفر بن خاتمة، وقد تكون مذكورة في كتاب له يسمى مزية المرية الموجود منه نسخة خطية بمكتبة الأسكوريال.
ولقد أحببت أن أرسل إليكم نصها لكي تنشروه في مجلتكم الحافلة إذا راقكم لعل بين المشتغلين بالأدب الأندلسي من له معرفة بقائلها فيعلنه.
سلا - مراكش
عبد الرحمن حجي
أحقاً خبا من جَوِّ رندَة نورها ... وقد كسفت بعد الشموس بدورها
وقد أظلمت أرجاؤها وتزلزلت ... منازهها ذات العلا وقصورها
أحقاً خليلي أنَّ رندة أقفرت ... وأُزعج عنها أهلُها وعشيرها
وهُدَّت مبانيها وثلت عروشها ... ودارت على قطب التفرق دورها
وكانت عقاباً لا يُنال مطارُها ... ومعقل عز زاحم النسر صوُرُها
هوت رندة الغراء ثم حصونها ... وأنظارها شنعاء (كذا) عز نظيرها
وقد كن عقدا زين القطر نظمها ... فقد فتح الآن البلاد نثيرها
وفرق شمل المؤمنين لهيبها ... وقطع من أرحامهم زمهريره تسلمها
حزبُ الصليب وقادَها ... وكانت شروداً لا يقاد نَفورُها
وقد ذهبت أديانها ونفوسها ... وقد دثرت تحت السباء دثورها
فباد بها الإسلام حتى تقطعت ... مناسبها وأستأصل الحق زورها
وأصبحت الصلبان قد عبدت بها ... تماثيلها دون الآله وصورها
لقرع النواقيس اعتلى بمنارها ... كرائه أصوات يروع صريرها
فيا ساكني تلك الديار كريمة ... سقى عهدكم مزن يصوب نميرها
أحقاً أخلائي القضاء أبادكم ... ودارت عليكم بالصروف دهورها
فقتل وأسر لا يفادي وفرقة ... لدى عرصات الحشر يأتي سفيرها
لعمر الهدى ما بالحشا لفراقكم ... سوى حُرَق سُحم تلظى سعيرها
ولوعة ثكل ليس يذهب روعها ... ولا تنقضي أشجانها وزفيرها
ونفس على هذا المصاب حزينة ... يذوب كما ذاب الرصاص صبورها
وقلب صديع ماج فيه بلاؤه ... سويداؤه سوداء جمٌّ ثبورها
سأبكي وما يجدي على الفائت البكى ... بعبرة حزن ليس يرقا عبورها
شآبيب دمع بالدماء مشوبة ... يساجل قطر الغاديات درورها
عويلاً يوافي المشرقين بريحه ... وثكلاً بأقمار قد أطفئ نورها
فوا حسرتاكم من مساجد حولت ... وكانت إلى البيت الحرام شطورها
ووا أسفاكم من صوامع أوحشت ... وقد كان معتاد الأذان يزورها
فمحرابها يشكو لمنبرها الجوى ... وآياتها تشكو الفراق وسورها
وكم من لسان كان فيها مرتِّل ... وحفل بختم الذكر تمضي شهورها
وكم من فتى ثبت الجنان مهذب ... يود المنايا وهو كان يديرها
يصول على الأبطال صولة ضيغم ... فيرهبه شبل الشرى وهصورها
له في سبيل الله خير نقيبة ... تزان لها عِين الجنان وحورها
له في جناب الكفر أجدى نكاية ... وشعواء غارات يثاب مغيرها
يُراع لها دين الصليب وحزبه ... ويخزى بها غنُصالها ورُمِيرُها
وكم أنفس كانت لديه أسيرة ... فأضحى لعمر الله وهو أسيرها
تحكم فيه الشرك وهو موحد ... كما قد قضى جبارها ونذيرها
وكم طفلة حسناء فيها مصونة ... إذا سفرت يسبي العقول سفورها
تميل كغصن البان مالت به الصبا ... وقد زانها ديِباجها وحريرها
فأضحت بأيدي الكافرين رهينة ... وقد هتكت بالرغم منها ستورها
وقد لطمت وَاَحرَّ قلبي خدودها ... وقد أسبلت وأدمع عيني شعورها
وإن تستغث بالله والدين لا تغث ... وإن تستجر ذا رحمة لا يجيرها
وقد حيل ما بين الشفيق وبينها ... وأسلمها آباؤها وعشيرها
وكم من عجوز يحرم الماء ظمؤها ... على الذل يطوي لبثها ومسيرها
وشيخ على الإسلام شابت شيوبه ... يمزق من بعد الوقار قتيرها
وكم فيهمُ من مهجة ذات ضجة ... تود لو انظمت عليها قبورها
لها رَوعة من وقعة البين دائم ... أساها وعين لا يكف هديرها
وكم من صغير حيز من حجر أمه ... فأكبادها حراء لفحُ هجيرها
وكم من صغير بدل الدهر دينه ... وهل يتبع الشيطان إلا صغيرها
وكم من شقيّ يسرت هذه له ... سبيلاً إلى العسرى يحيف كفورها
كروب وأحزان يلين لها الصفا ... عواقبه محذورة وشرورها
فيا فرحة القلب الذي عاش بعدها ... ويا لعمى عين رآها بصيرها
ويا غربة الإسلام بين خلالها ... ويا عشرة أنَّى يقال عثورها
ويا ليت أمي لم تلدني وليتني ... بليت ولم يلفح فؤادي حرورها
وما خير عيش يعذب الموت دونه ... ويغبط قل الأهل فيه كثيرها
فيا ليت شعري بعد ما صح موتها ... أيرجي على رغم العداة نشورها
ويا ملة الإسلام هل لك عودة ... لأرجائها يشفي الصدور صدورها
وهل تسمع الآذان صوت الأذان في ... معالمها تعلو بذاك عقيرها
ويا لعزاء المؤمنين لفاقة ... على الرغم أغنى من لديها فقيرها
لأندلسَ ارتجت لها وتضعضعت ... وحق لديها محوها ود ثورها
منازلها مصدورة وبطاحها ... مدائنها موتورة وثغورها تهائمها
مفجوعة ونجودها ... وأحجارها مصدوعة وصخورها
وقد لبست ثوب الحداد ومزقت ... ملابس حسن كان يزهو حبورها
فاحياؤها تبدي الأسى وجمادها ... يكاد لفرط الحزن يبدو ضميرها
فلو أن ذا ألف من البين هالك ... لذابت رواسيها وغاضت بحورها
على فرقة الدين الذي جاءها به ... بشير الأنام المصطفى ونذيرها
فمالقة الحسناء ثكلى أسيفة ... قد استفرغت ذبحاً وقتلاً حجورها
وجزت نواصيها وشلت يمينها ... وبدل بالويل المبين سرورها
وقد كانت الغربيّة الجُننَ التي ... تقيها فأضحى جنةَ الحرب سورها
وبلّش قطت رجلها بيمينها ... ومن سريان الداء بان قطورها
وضَحّت على تلك الثنيات حجرها ... فأقفر مغناها وطاشت حجورها
وبالله إن جِئتَ المنكب فأعتبر ... فقد خف ناديها وجفّ نضيرها
وسكّرُها قد بدل اليوم علقماً ... لها رجة نار الهيام تثيرها
وعرجْ على الإقليم فأبك ربوعها ... بسحب يضاهي المعصرات خريرها
وودع بها وفد النعيم فأنها ... لها أدمع فين الدموع يميرها
ألا ولتقف ركب الأسى بمعالم ... قد أرتج باديها وضج حضورها
بدار العلى حيث الصفات كأنها ... من الخلد والمأوى غدت تستطيرها
محل قرار الملك غرناطة التي ... هي الحضرة العليا زهتها زهورها
فما في العراقين العتيقين مثلها ... ولا في بلاد الله طراً نظيرها
تُرَى الأسى أعلامها وهي خشع ... ومنبرها مستعبر وسريرها
ومأمومها ساهي الحجى وإمامها ... وزائرها في مأتم ومزورها
لها حال نفس قد أصيب فؤادها ... وبتت لها اليمنى وحم تبورها
فأنفسها في الصعق دون إفاقة ... كنفس كليم الله إذ دك طورها
وقد ذعرت تلك البنيّات حولها ... فهن بواكي الأعين الرمد مُورها
وقد رجفت وادي الأشى فبقاعها ... سكارى وما استاكت بخمر ثغورها
لقد أظلمت حتى لفرط حدادها ... سواء بها نجل العيون وعورها
وبسطة ذات البسط ما شعرت بما ... دهاها وأنى يستقيم شعورها
على عظم بلواها وطول وبالها ... وما كابدت من ذا المصاب نحورها
وما أنس لا أنس المرية إنها ... قتيلة أو جال أزيل عذارها
فلو أحرق الثكل المصابين أصبحت ... تأجج من حر الو جيف بحورها
فيا أصدقائي ودعوها كريمة ... أو استدعوها مَن إليه أمورها
منازل آبائي الكرام ومنشئي ... وأول أوطان غذانيَ خِيرها
وأقروا عليها من سلامي تحية ... تجددها آصالها وبكورها
أماناتها ضاعت فضاعت رقابها ... لقد عميت عين تبدد نورها
أضعنا حقوقَ الرب حتى أضاعنا ... وقضت عرى الإسلام إلا يسيرها
وملتنا لم نعرف الدهر عرفها ... من النكر فأنظر كيف كان نكيرها
بما قد كسبنا نالنا ما أنالنا ... كذا السيرة السوأى لدى من يسيرها
بشقوتنا الخذلانُ صاحب جمعَنا ... ويؤنا بأحوال ذميم حضورها
بعصياننا استولى علينا عدونا ... وعاثت بنا أسد العدا ونمورها
نعم سلبوا أوطاننا ونفوسنا ... وأموالنا فيئا أبيحت وفورها
علوها بلا مهر وما غمزت لهم ... قناة ولا غارات عليهم ذكورها
وقد عوت الإفرنج من كل شاهق ... علينا فوفَّت للصليب نذورها
وقد كثرت ذؤبانها وكلابها ... وقد كسرت عقبانها ونسورها
وجاءت إلى استئصال شأفة ديننا ... جيوش كموج البحر هبت دَبورها
علامات أخذٍ مالنا قِبَلٌ بها ... جنايات أخذ قد جناها مثيرها
فلا تمتحي إلا بمحو أصولها ... ولا تنجلي حتى تخط أصورها
معاشر أهل الدين هبوا لصعقة ... وصاعقة وأرى الجسوم ظهورها
أصابت منار الدين فأنهد ركنه ... وزعزع من أكنافه مستطيرها
أدارت علي غريبة الدهر أكؤساً ... فظاعا بسكر الدهر تقضي خمورها
ودبت أفاعيها إلى كل مؤمن ... وعضّ بأكباد التقاة عَقُورها
أنادي لها عجم الرجال وعربها ... نداء سراة القفر إذ ضل عيرها
وأستنفر الأدنى فالأدنى فريضة ... على زمر الإسلام جلت أجورها
على كل محتاج لفضل دفاعها ... فليس يؤدي الفرض إلا نفيرها
ألا وارجعوا يا آل دين محمد ... إلى الله يغفر ما أجترحتم غفورها
أنيبوا وتوبوا واصبروا وتصدقوا ... وردوا ظُلامات يبيد نقيرها
ومن كل ما يردي النفوس تطهروا ... فليس يزكي النفس إلا طهورها
لا واستعدوا للجهاد عزائماً ... يلوح على ليل الوغى مستنيرها
بأسد على جُرد من الخيل سبق ... يدعُّ الأعادي سبقها وزئيرها
بأنفس صدق موقنات بأنها ... إلى الله من تحت السيوف مصيرها
تروم إلى دار السلام عرائساً ... على الله في ذاك النعيم مهورها
وضرب كأن الهام تحت ظلالها ... حثالة نور الورد ذرَّ ذرورها
وطعن يرى الخطِّىَّ في مهج العدا ... كأقلام ذات الخط خطت سطورها
يمين هدى إن تتقوا الله تنصروا ... وتَحْظَوا بآمال يشوق غريرها
فلا يَخذل الرب المهيمن أمة ... تدين بدين الحق وهو نصيرها
وأن أنتمُ لم تفعلوا فترقبوا ... بوادر سخط ليس يرجى فتورها
وأيام ذل واهتضام وفرقة ... يطاول آناء الزمان قصيرها
وأهدوا لدين الشرك كل خريدة ... خبتها على طول الليالي خدورها
وكل نفيس من نفوس كريمة ... وأعلاق أموال خطير خطيرها
وحق العظيم الشأن لا عيش بعدها ... بلايا يمر الطيبات مرورها
فنرفع شَكْوَاهَا لعالم سرها ... فليس لها في الخبر إلا خبيرها
نمد أكف الذل في باب عزه ... بأفئدة خوف الفراق يطيرها
فأن لم يُقِل رب العباد عثارَنَا ... فهذا العدو الضخم حتماً يبيرها
آله الورى ندعوك يا خير مرتجىً ... لكالحة هز الصليبَ سرورها
وشقت جيوب المؤمنين وأسخنت ... عيونهمُ والكفر ظل قريرها
وليس لها يا كاشف الكرب ملجأ ... إذا لم يكن منك التلافي ظهيرها
أغث دعواتِ المستغيثين أنهم ... ببابك موقوفو الحشاشات بورها
وليس لهم إلا الرسول وسيلة ... شفيع الورى يوم التنادي بشيرها
أمام الهدى بحر الندى قامع العدا ... وأول رسل الله فضلاً أخيرها
محمد المختار من آل هاشم ... سراج السموات العلى ومنيرها
دعوناك أملناك جئناك خشعاً ... بأنفس استولى عليها قصورها
نجاه العظيم الجاه أدرك ذماءنا ... برحمي يُحلّيِ المؤمنين شذورها
وعفو وتأييد ونصر مؤزر ... وعِزة سلطان يروق طريرها
ولطف وتسديد وجبر لما مضى ... يدال به من كل عادٍ كسيرها
وأرسل على هذا العدو رزيّة ... يروح ويغدو بالبوار مبيرها
يشتت شمل الكفر تشتيت نقمة ... وينظم شمل المؤمنين حصيرها
وصلّ على خير البريةِ أحمدٍ ... وأكرم من قد أنجبته ظهورها
وأصحاب الشهب الهداة وآله ... صلاة مع الآناء يزكو عبيرها
مجلة الرسالة - العدد 131
بتاريخ: 06 - 01 - 1936
ولقد أحببت أن أرسل إليكم نصها لكي تنشروه في مجلتكم الحافلة إذا راقكم لعل بين المشتغلين بالأدب الأندلسي من له معرفة بقائلها فيعلنه.
سلا - مراكش
عبد الرحمن حجي
أحقاً خبا من جَوِّ رندَة نورها ... وقد كسفت بعد الشموس بدورها
وقد أظلمت أرجاؤها وتزلزلت ... منازهها ذات العلا وقصورها
أحقاً خليلي أنَّ رندة أقفرت ... وأُزعج عنها أهلُها وعشيرها
وهُدَّت مبانيها وثلت عروشها ... ودارت على قطب التفرق دورها
وكانت عقاباً لا يُنال مطارُها ... ومعقل عز زاحم النسر صوُرُها
هوت رندة الغراء ثم حصونها ... وأنظارها شنعاء (كذا) عز نظيرها
وقد كن عقدا زين القطر نظمها ... فقد فتح الآن البلاد نثيرها
وفرق شمل المؤمنين لهيبها ... وقطع من أرحامهم زمهريره تسلمها
حزبُ الصليب وقادَها ... وكانت شروداً لا يقاد نَفورُها
وقد ذهبت أديانها ونفوسها ... وقد دثرت تحت السباء دثورها
فباد بها الإسلام حتى تقطعت ... مناسبها وأستأصل الحق زورها
وأصبحت الصلبان قد عبدت بها ... تماثيلها دون الآله وصورها
لقرع النواقيس اعتلى بمنارها ... كرائه أصوات يروع صريرها
فيا ساكني تلك الديار كريمة ... سقى عهدكم مزن يصوب نميرها
أحقاً أخلائي القضاء أبادكم ... ودارت عليكم بالصروف دهورها
فقتل وأسر لا يفادي وفرقة ... لدى عرصات الحشر يأتي سفيرها
لعمر الهدى ما بالحشا لفراقكم ... سوى حُرَق سُحم تلظى سعيرها
ولوعة ثكل ليس يذهب روعها ... ولا تنقضي أشجانها وزفيرها
ونفس على هذا المصاب حزينة ... يذوب كما ذاب الرصاص صبورها
وقلب صديع ماج فيه بلاؤه ... سويداؤه سوداء جمٌّ ثبورها
سأبكي وما يجدي على الفائت البكى ... بعبرة حزن ليس يرقا عبورها
شآبيب دمع بالدماء مشوبة ... يساجل قطر الغاديات درورها
عويلاً يوافي المشرقين بريحه ... وثكلاً بأقمار قد أطفئ نورها
فوا حسرتاكم من مساجد حولت ... وكانت إلى البيت الحرام شطورها
ووا أسفاكم من صوامع أوحشت ... وقد كان معتاد الأذان يزورها
فمحرابها يشكو لمنبرها الجوى ... وآياتها تشكو الفراق وسورها
وكم من لسان كان فيها مرتِّل ... وحفل بختم الذكر تمضي شهورها
وكم من فتى ثبت الجنان مهذب ... يود المنايا وهو كان يديرها
يصول على الأبطال صولة ضيغم ... فيرهبه شبل الشرى وهصورها
له في سبيل الله خير نقيبة ... تزان لها عِين الجنان وحورها
له في جناب الكفر أجدى نكاية ... وشعواء غارات يثاب مغيرها
يُراع لها دين الصليب وحزبه ... ويخزى بها غنُصالها ورُمِيرُها
وكم أنفس كانت لديه أسيرة ... فأضحى لعمر الله وهو أسيرها
تحكم فيه الشرك وهو موحد ... كما قد قضى جبارها ونذيرها
وكم طفلة حسناء فيها مصونة ... إذا سفرت يسبي العقول سفورها
تميل كغصن البان مالت به الصبا ... وقد زانها ديِباجها وحريرها
فأضحت بأيدي الكافرين رهينة ... وقد هتكت بالرغم منها ستورها
وقد لطمت وَاَحرَّ قلبي خدودها ... وقد أسبلت وأدمع عيني شعورها
وإن تستغث بالله والدين لا تغث ... وإن تستجر ذا رحمة لا يجيرها
وقد حيل ما بين الشفيق وبينها ... وأسلمها آباؤها وعشيرها
وكم من عجوز يحرم الماء ظمؤها ... على الذل يطوي لبثها ومسيرها
وشيخ على الإسلام شابت شيوبه ... يمزق من بعد الوقار قتيرها
وكم فيهمُ من مهجة ذات ضجة ... تود لو انظمت عليها قبورها
لها رَوعة من وقعة البين دائم ... أساها وعين لا يكف هديرها
وكم من صغير حيز من حجر أمه ... فأكبادها حراء لفحُ هجيرها
وكم من صغير بدل الدهر دينه ... وهل يتبع الشيطان إلا صغيرها
وكم من شقيّ يسرت هذه له ... سبيلاً إلى العسرى يحيف كفورها
كروب وأحزان يلين لها الصفا ... عواقبه محذورة وشرورها
فيا فرحة القلب الذي عاش بعدها ... ويا لعمى عين رآها بصيرها
ويا غربة الإسلام بين خلالها ... ويا عشرة أنَّى يقال عثورها
ويا ليت أمي لم تلدني وليتني ... بليت ولم يلفح فؤادي حرورها
وما خير عيش يعذب الموت دونه ... ويغبط قل الأهل فيه كثيرها
فيا ليت شعري بعد ما صح موتها ... أيرجي على رغم العداة نشورها
ويا ملة الإسلام هل لك عودة ... لأرجائها يشفي الصدور صدورها
وهل تسمع الآذان صوت الأذان في ... معالمها تعلو بذاك عقيرها
ويا لعزاء المؤمنين لفاقة ... على الرغم أغنى من لديها فقيرها
لأندلسَ ارتجت لها وتضعضعت ... وحق لديها محوها ود ثورها
منازلها مصدورة وبطاحها ... مدائنها موتورة وثغورها تهائمها
مفجوعة ونجودها ... وأحجارها مصدوعة وصخورها
وقد لبست ثوب الحداد ومزقت ... ملابس حسن كان يزهو حبورها
فاحياؤها تبدي الأسى وجمادها ... يكاد لفرط الحزن يبدو ضميرها
فلو أن ذا ألف من البين هالك ... لذابت رواسيها وغاضت بحورها
على فرقة الدين الذي جاءها به ... بشير الأنام المصطفى ونذيرها
فمالقة الحسناء ثكلى أسيفة ... قد استفرغت ذبحاً وقتلاً حجورها
وجزت نواصيها وشلت يمينها ... وبدل بالويل المبين سرورها
وقد كانت الغربيّة الجُننَ التي ... تقيها فأضحى جنةَ الحرب سورها
وبلّش قطت رجلها بيمينها ... ومن سريان الداء بان قطورها
وضَحّت على تلك الثنيات حجرها ... فأقفر مغناها وطاشت حجورها
وبالله إن جِئتَ المنكب فأعتبر ... فقد خف ناديها وجفّ نضيرها
وسكّرُها قد بدل اليوم علقماً ... لها رجة نار الهيام تثيرها
وعرجْ على الإقليم فأبك ربوعها ... بسحب يضاهي المعصرات خريرها
وودع بها وفد النعيم فأنها ... لها أدمع فين الدموع يميرها
ألا ولتقف ركب الأسى بمعالم ... قد أرتج باديها وضج حضورها
بدار العلى حيث الصفات كأنها ... من الخلد والمأوى غدت تستطيرها
محل قرار الملك غرناطة التي ... هي الحضرة العليا زهتها زهورها
فما في العراقين العتيقين مثلها ... ولا في بلاد الله طراً نظيرها
تُرَى الأسى أعلامها وهي خشع ... ومنبرها مستعبر وسريرها
ومأمومها ساهي الحجى وإمامها ... وزائرها في مأتم ومزورها
لها حال نفس قد أصيب فؤادها ... وبتت لها اليمنى وحم تبورها
فأنفسها في الصعق دون إفاقة ... كنفس كليم الله إذ دك طورها
وقد ذعرت تلك البنيّات حولها ... فهن بواكي الأعين الرمد مُورها
وقد رجفت وادي الأشى فبقاعها ... سكارى وما استاكت بخمر ثغورها
لقد أظلمت حتى لفرط حدادها ... سواء بها نجل العيون وعورها
وبسطة ذات البسط ما شعرت بما ... دهاها وأنى يستقيم شعورها
على عظم بلواها وطول وبالها ... وما كابدت من ذا المصاب نحورها
وما أنس لا أنس المرية إنها ... قتيلة أو جال أزيل عذارها
فلو أحرق الثكل المصابين أصبحت ... تأجج من حر الو جيف بحورها
فيا أصدقائي ودعوها كريمة ... أو استدعوها مَن إليه أمورها
منازل آبائي الكرام ومنشئي ... وأول أوطان غذانيَ خِيرها
وأقروا عليها من سلامي تحية ... تجددها آصالها وبكورها
أماناتها ضاعت فضاعت رقابها ... لقد عميت عين تبدد نورها
أضعنا حقوقَ الرب حتى أضاعنا ... وقضت عرى الإسلام إلا يسيرها
وملتنا لم نعرف الدهر عرفها ... من النكر فأنظر كيف كان نكيرها
بما قد كسبنا نالنا ما أنالنا ... كذا السيرة السوأى لدى من يسيرها
بشقوتنا الخذلانُ صاحب جمعَنا ... ويؤنا بأحوال ذميم حضورها
بعصياننا استولى علينا عدونا ... وعاثت بنا أسد العدا ونمورها
نعم سلبوا أوطاننا ونفوسنا ... وأموالنا فيئا أبيحت وفورها
علوها بلا مهر وما غمزت لهم ... قناة ولا غارات عليهم ذكورها
وقد عوت الإفرنج من كل شاهق ... علينا فوفَّت للصليب نذورها
وقد كثرت ذؤبانها وكلابها ... وقد كسرت عقبانها ونسورها
وجاءت إلى استئصال شأفة ديننا ... جيوش كموج البحر هبت دَبورها
علامات أخذٍ مالنا قِبَلٌ بها ... جنايات أخذ قد جناها مثيرها
فلا تمتحي إلا بمحو أصولها ... ولا تنجلي حتى تخط أصورها
معاشر أهل الدين هبوا لصعقة ... وصاعقة وأرى الجسوم ظهورها
أصابت منار الدين فأنهد ركنه ... وزعزع من أكنافه مستطيرها
أدارت علي غريبة الدهر أكؤساً ... فظاعا بسكر الدهر تقضي خمورها
ودبت أفاعيها إلى كل مؤمن ... وعضّ بأكباد التقاة عَقُورها
أنادي لها عجم الرجال وعربها ... نداء سراة القفر إذ ضل عيرها
وأستنفر الأدنى فالأدنى فريضة ... على زمر الإسلام جلت أجورها
على كل محتاج لفضل دفاعها ... فليس يؤدي الفرض إلا نفيرها
ألا وارجعوا يا آل دين محمد ... إلى الله يغفر ما أجترحتم غفورها
أنيبوا وتوبوا واصبروا وتصدقوا ... وردوا ظُلامات يبيد نقيرها
ومن كل ما يردي النفوس تطهروا ... فليس يزكي النفس إلا طهورها
لا واستعدوا للجهاد عزائماً ... يلوح على ليل الوغى مستنيرها
بأسد على جُرد من الخيل سبق ... يدعُّ الأعادي سبقها وزئيرها
بأنفس صدق موقنات بأنها ... إلى الله من تحت السيوف مصيرها
تروم إلى دار السلام عرائساً ... على الله في ذاك النعيم مهورها
وضرب كأن الهام تحت ظلالها ... حثالة نور الورد ذرَّ ذرورها
وطعن يرى الخطِّىَّ في مهج العدا ... كأقلام ذات الخط خطت سطورها
يمين هدى إن تتقوا الله تنصروا ... وتَحْظَوا بآمال يشوق غريرها
فلا يَخذل الرب المهيمن أمة ... تدين بدين الحق وهو نصيرها
وأن أنتمُ لم تفعلوا فترقبوا ... بوادر سخط ليس يرجى فتورها
وأيام ذل واهتضام وفرقة ... يطاول آناء الزمان قصيرها
وأهدوا لدين الشرك كل خريدة ... خبتها على طول الليالي خدورها
وكل نفيس من نفوس كريمة ... وأعلاق أموال خطير خطيرها
وحق العظيم الشأن لا عيش بعدها ... بلايا يمر الطيبات مرورها
فنرفع شَكْوَاهَا لعالم سرها ... فليس لها في الخبر إلا خبيرها
نمد أكف الذل في باب عزه ... بأفئدة خوف الفراق يطيرها
فأن لم يُقِل رب العباد عثارَنَا ... فهذا العدو الضخم حتماً يبيرها
آله الورى ندعوك يا خير مرتجىً ... لكالحة هز الصليبَ سرورها
وشقت جيوب المؤمنين وأسخنت ... عيونهمُ والكفر ظل قريرها
وليس لها يا كاشف الكرب ملجأ ... إذا لم يكن منك التلافي ظهيرها
أغث دعواتِ المستغيثين أنهم ... ببابك موقوفو الحشاشات بورها
وليس لهم إلا الرسول وسيلة ... شفيع الورى يوم التنادي بشيرها
أمام الهدى بحر الندى قامع العدا ... وأول رسل الله فضلاً أخيرها
محمد المختار من آل هاشم ... سراج السموات العلى ومنيرها
دعوناك أملناك جئناك خشعاً ... بأنفس استولى عليها قصورها
نجاه العظيم الجاه أدرك ذماءنا ... برحمي يُحلّيِ المؤمنين شذورها
وعفو وتأييد ونصر مؤزر ... وعِزة سلطان يروق طريرها
ولطف وتسديد وجبر لما مضى ... يدال به من كل عادٍ كسيرها
وأرسل على هذا العدو رزيّة ... يروح ويغدو بالبوار مبيرها
يشتت شمل الكفر تشتيت نقمة ... وينظم شمل المؤمنين حصيرها
وصلّ على خير البريةِ أحمدٍ ... وأكرم من قد أنجبته ظهورها
وأصحاب الشهب الهداة وآله ... صلاة مع الآناء يزكو عبيرها
مجلة الرسالة - العدد 131
بتاريخ: 06 - 01 - 1936