محمد عبد السلام العمرى - معابد الأحلام

فزع الأجداد فى مقابرهم عندما علموا ما آل إليه حالنا ، فقد جاءهم فى معابدهم وأهراماتهم ما يثير القلق ، وعندما عرفوا بمدى عبء الأحمال على عقولنا ، والأخرى التى تثقل كواهلنا مزقوا أكفانهم ، انتفضوا وجاءوا ، وجدونا قصاراً عما كانوا يتخيلون ، والنسب الإنسانية للوجوه تغيرت فاستطالت ، وبرزت عظام الأوجه ، ضاقت العيون والأنوف المدببة اتسعت فتحاتها ، كبرت الآذان التى امتلأت بالشعر ، أضحت عظام الوجنات بارزة .

درسوا بتأن كل ما يمت بصلة لحالتنا ، وكان مما يثير حفيظتهم حقيقة هو تجاوز النسبة المئوية المقررة لباقي
الشعوب ، يتحدثون لأنفسهم بصوت عال ، شاهدوا وسجلوا القطيعة بين الناس ، وبين أفراد العائلة الواحدة ، المعاناة الدائمة فى كل مكان ، الألم والإحباط ، فقدان الأمل ، مدارج اليأس المتفاوتة ، الهياكل العظمية المتحركة ، الانسحاب إلى الداخل والانزواء إلى الخرابات المظلمة ، ولم يكن هناك مجال لتساؤلات الحزن والضحكات المنسية .

لاحظوا آثار الدماء والحرائق التي أشعلها إخواننا ، حيث لم يتركوا إلا دماراً فى كل مكان مروا به ، هيأوا بذلك الظروف لازدهار الخرافات ، السحر والشعوذة والشياطين والجان ، ولم يكن من المستساغ أن يتجه شعب بكامله إلى هذه المتاهات باعتبارها الوسيلة الوحيدة للشفاء إلا إذا كان هناك خلل ما .

وفيما كانوا يتابعون حالتنا من معابدهم التى بنوها حديثاً فى أماكن متفرقة من الوطن ، ومن أهراماتهم القديمة ، التى ازدادت بشكل لافت فى المدن والقرى واصلوا تسجيل ملاحظاتهم على هذه الحالة التى عبرت بالتكثيف عن شعب بكامله ، تشبه التى شاهدوها فى كل مكان يذهبون إليه ، أرقتهم الحالة التى وصل إليها حفيدهم ، ساءهم أن يروه حولهم مجموعة من الحفائر ، يجلس فى غرفة معتمة ، أو فى أحد الأماكن المفتوحة ، لا يستدعى الأجداد ، حدث له ما يشبه
الحلم ، لا يشعر بالرعب أو الألم ، واعياً لكل ما يحدث حوله ، يسمع أصواتاً عديدة ، متداخلة ، ليست عالية أو مزعجة ، همهمات ، همسات صادرة عن الأشجار والعتمة ، الأرض والناس ، صوته ، أصوات أخرى تثير ذكريات عن أسماء وأزمان وأمكنة ، واعياً بها طوال حياته ، دون أن يعرف ذلك ،
قادراً على رؤيتها كجملة مطبوعة ، كتبت الآن ، محيت فيما سبق ، :كأنها الأخرى الباهتة في ذكريات الأعوام الماضية .

يتمدد فوق بطانية ، يطير في الهواء ، يلقى إطلالة عميقة على رحاب الأرض والسماء والشمس الأبدية ، يرى الأجداد الذين طاولوا ذرى الشمس والخلود ، أرض مغطاة بألواح الخشب غير الثابتة لمكانه الكبير المتداعى ، حريف الرائحة ، ذي الغبار الرقيق الخاص بالقش الراحل ، ذى الرائحة النشادرية الضعيفة مع ذلك الهجران اللاهث بالكيروسين ، بدت مصابيح الأماكن تتباعد ، فيما كانت الحياة السوداء تضغط ، التنفس الأسود ضاعف البخار ، حيث بدا أنه ليس ألأصوات فحسب ، بل الأجساد المتحركة والنور نفسه قد أصبحا سائلين ، وراحا يلتحمان ببطء فى الليل الذى أضحى ثقيلاً.

يسمعونه من خلال أزيز أفكاره يدعو : أرسل إلينا أحلاماً
سعيدة يا رب ، دعنى أرى بلدى جميلة ، منتصرة دائماً نصراً حقيقياً ، وفى طليعة الأسود الأفريقية ، تستوعب تكنولوجيا المعلومات والحاسب الآلى ، لديها القدرة على فك شفرات المفاعلات النووية غير السلمية ، والصواريخ البالستية العابرة للقارات ، قادرة على انتهاك أسرار C.I.A والبنتاجون.

وضعوه فى جو قبور حلمى لا يقهر ، حتى تصعد أمنياته بسلام محاطة ومزدانة بالأمن والسرية ، حتى ينفذ لبلاده ما
يريد ، مهموماً بها وبمشاكلها ، وبعدم مواكبتها للأحداث الجارية ، وللثورات العلمية المتوالية ، فكر أنه حينما كان
شاباً ، كان يحب العتمة ، والسير والجلوس وحيداً بين الأشجار فى الليل ، ثم أصبحت الأرض ولحاء الأشار أمراً حقيقياً ، متوحشاً ، موحياً ممتلئاً بأنصاف المتع ، والأحوال الغريبة المهلكة.

ينتظر الأحلام ، لا يعرف متى تأتى وبأى أحداث ، من يرسلها، هل هى الملائكة أ م الشياطين؟ كيف يحلم أحلامه الخاصة ، لم تتمكن من اتخاذ قرارها بالانضمام إلى هذا الجانب أو ذاك ، يريد أن يحيدها ، ويبعدها عنهما ، حتى لا تتأثر بالدوافع والأغراض ، لماذا لا تجئ إلا فى جحيم النوم ، فيه تتحرر المشاعر والأحاسيس ، والخبرات من قيود هي الملائكة أم الشياطين .

كيف يحلم أحلامه الخاصة ، لم تتمكن من اتخاذ قرارها بالانضمام إلى هذا الجانب أو ذاك ، يريد أن يحيدها ويبعدها عنهما ، حتى لا تتأثر بالدوافع والأغراض ، لماذا لا تجئ إلا في جحيم النوم ، فيه تتحرر المشاعر والأحاسيس ، والخبرات من قيود جانب المخ الأيسر ، أنت تسبح في الفضاء ، تعيش مع الحيوانات ، تصارع الأمواج ، تتكلم مع أناس لا تعرفهم ، تزور أماكن مجهولة ، هيىء لك فيما سبق أنك زرتها ، أجسامنا تطير في الهواء ، تحول القط الصغير إلى تمساح مفترس ، تتذكر حالة الغيبوبة للترقب الحالم والمجنون ، للموسيقى الصارمة والعنيدة ، المتعمدة ، لا عاطفة فيها ، شأنها شأن التضحية والتوسل والسؤال ، في نظراتك شيء يوحى بالتعصب على نحو بارد وعنيف ، يخالطه بعض الجنون ، يمنع التساؤل والفضول ، تأتيه طوفانات من الصور والأصوات والمشاعر اللامنطقية ، تتحدى كل المفاهيم الواقعية الكامنة ، كعالم مغلف بالغموض والجمال والقسوة في الوقت نفسه ، تأتيه الأحلام داعية إلى تأنيب النفس والضمير ، والنوم الذي يتدنى فيه مستوى النشاط العقلي ، داعية إلى تحريك أفكاره وتحويلها في حرية لتجد بعض الحلول للمشاكل ، وقد جاء الفجر في موعده تماماً ، ضوء النهار ، ذلك المزيج المقلق الوحيد الممتلئ باستيقاظ الطيور الهادئ للتردد والهواء ، فيه تأتي الحلم كعلاج كبير ، يخلصه من الأفكار والخبرات المؤلمة والمحزنة ، ينطلق صافياً ليكوّن ويرتب أحلامه ، التي فيها الخلاص لبلده ، وتحقيق أمنياته .

أعد الأجداد بطريقة عصرية معملاً للنوم ، وضعوه تحت ملاحظة ومراقبة أجهزة رسم المخ والقلب ، والكاميرات ، يعرفون أن النائم لا يستطيع أن يدلي بمعلومات مفيدة عن حالته أو مشاعره .

انتابه النعاس ، رأوا هدوء حركة العينين ، ثم قلة حركتها ، ضاقت الحدقات ، قل الانتباه ، انسحب الوعي لتحل محله الخيالات ، مرت خمس دقائق ، بدأ النوم خفيفاً ، وعندما لاحظوا بعد نصف ساعة انخفاض درجة حرارة الجسم ، تأكدوا أنه يغط في النوم ، شاهدوا انخفاض ضغط الدم ، قلة عدد ضربات القلب وحركة التنفس ، كما بين رسم المخ تغييراً في الموجات الكهربائية من الحركة السريعة إلى الهدوء والبطء .

جاء حلمه بعد أن أخذ قسطاً وافراً من الراحة والاستجمام للتخلص من أغلال المنطق الصارم لقوانين الواقع والعادات ، والتقاليد والرغبات والمكبوتة ، وكان قد وصل إلى المرحلة التي عليه أن يتحمل الإهانات فيها ، فبدت له رائحة التجفف الخاصة بالترهل المفرط والثياب القذرة ، كأنها نذير بالقبر ، مع انحدار عديم الحيوية ملىء بالأشجار الميتة ، والشهوات الجافة بالسباحة على نحو ناعم سريع وهادئ .

يقضى النهار كله في البلدة ، في الساحة ، قذراً ، غير ثرثار ، بذلك التعبير الغاضب ، الصاد في العينين الذي ظنه الناس بوادر للجنون ، تلك الخاصية المتميزة بعنف مستهلك أشبه بالرائحة الكريهة ، بالنكهة ، ذلك التعصب الأشبه بجمرة خابية أو مطفأة ، بنوع من الحماسة الدينية القوية المختلطة بقناعة عنيفة ، وجرأة جسدية ، وبدت عظامه الهشة العتيقة ، وعضلاته الخيطية تحمل الجنون المرعب ، عيناه مفتوحتان ، فارغتان تماماً .

كللت هاماتنا في تلك الآونة تيجان من القش ، شاهدوا ملابسنا الممزقة ، أجسادنا العارية ، أقفيتنا التي طالت ، شعر رءوسنا الذي تلبد ، واتسخ ، واستطال وتدور ، والأتربة العالقة به ، الوساخة التي ترسبت على أجسادنا ، السناج العالق برقابنا ، لعابنا يسيل ، والهذيان مستمر ينبئ عن استسلام وتراخ ، عيوننا زائغة ومحدقة ، ورائحتنا لا تطاق ، حركتنا المتناقضة المخيفة في حالات كثيرة ، ولم يكن من اللائق والحال هكذا طرح تساؤل عن عدم كفاءتنا ، ونوعية إنتاجنا .

ننظر إلى الخلف دائماً خوفاً من أن يتبعنا أحد ، تدور رؤوسنا ، أمخاخنا هلامية غير ثابتة في أماكنها ، غير
متوازنة ، في حالة صفير دائم ووشيش ، تنتابنا الدوخة
والدوار ، نحس إحساساً خاصاً بالفراغ والكآبة ، والمشاعر الصاخبة ، الهائجة والعاصفة ، وكانت السمة الرئيسية المشتركة في الجميع هي أن غبناً ما وقع على كل واحد منا على حدة ، وبشكل مختلف عن الآخر .

أثار انتباههم هذه الرغبة العارمة لكل أفراد الشعب في اقتناء مرآة لكل واحد على حدة ، يأخذونها أينما ذهبوا ، خلت منها كل محلات الزجاج ، ازداد إنتاج المصانع عن حد طاقته ، ومن كثرة ضغوط العمل أفرزت خطوط الإنتاج مرايا غير مطابقة للمواصفات ، وخطوط أخرى انفجرت وتفحمت ، يكثرون من التحديق فيها في الشوارع الرئيسية ، وعند
تقاطعها ، وفي إشارات المرور ، ويعكسون أشعة الشمس في عيون النساء ، ينظرون ببلاهة شاعرين بغرابة كل الأشياء حولهم .

وفي رؤيا أخرى يجلس بجوار أحد الحوائط ، تنز مواسير الصرف مياهاً قذرة من الشروخ المتعددة فيها ، غير واع أو مهتم بالصراصير الكثيرة التي تجوب جلبابه الممزق على اللحم مباشرة ، زاحفة إلى كل مكان في جسده ، يفتح فمه كاشف عن أسنان متباعدة ، عليها طبقة كلسية جيرية تميل إلى الاخضرار ، تمرح جماعات الذباب داخله وخارجه ، يفتح يده المجعدة والناشفة ، أعلى رأسه ، مغمضاً عينين ملأهما الرمد الصديدي ، فتورمتا وانتفختا ، وسال منهما قيح وصديد .

تختلط الأزمنة والأمكنة ليجد أن دورات مياه الأجداد تصرف في ماسورة نحاسية قطرها متر تقريباً ، تمتد إلى أربعمائة متر بعيداً عن المنزل ، وكانت حماماتهم مبطنة برقائق معدنية ، كما كانت مجهزة ببالوعة للصرف لها غطاء بسلسلة ، تتحمل الاستخدامات الكثيرة والمتوالية ، إذ كانوا – الأجداد – على درجة عالية من النظافة ، يستحمون في اليوم الواحد ثلاث مرات ، فكانوا أكثر شفافية من الضوء ، اخترقوا السماوات ، ودعموا ما يحتاجه وجودهم ، وشقوا طرقهم المختلفة ، وكل واحد على حدة يخلق ضوءه ، وحظه ، لقد شقوا الأرض متتبعين خطوات أقدامهم ، أرسلوا ترانيم مديح إلى الشعب عندما يبزغ في الأفق ، وعندما يظهر على أرض الحياة .

ينظرون إليه بقلب مفعم بالشفقة والازدراء ، خافوا أن يتركوه وحده ، هذه اللحظة شاقة ، وقد يضطرب عقلك ، أخذوه من يده ، قام تلقائياً دون أي مقاومة أو تساؤلات ، قالوا : لا تخش شيئاً ، الموت كالأحلام بوابة تفتح إلى الخلود ، قال : أرى سحابة رقيقة تعبر خيالي ، قالوا : يجب أن تظهر للملأ قليلاً ، أخرج من باب دارك ، ظلل عينيك من نور الشمس ، وحدق في أرجاء العالم لترى ما يدور فيه ، يتساءل بينه وبين نفسه كيف ؟ شاهدوا أكوام القمامة الجالس عليها ، تلاعبه القطط ، تبول عليه الكلاب ، كان كأقرانه قد تحول إلى حطام بشري ، يشاهدونهم ، يرثون لحالهم ، يقيمون الصلاة في المعابد .

ما يشغل الأجداد حقيقة هو كيفية إيجاد وسيلة جماعية لعلاجهم ، إنهم يرغبون في تجاوز الطفرات العلمية الهائلة الحادثة الآن في طرق العلاج الحديثة ، والتي يفصل بينها وبين طرقهم العلاجية آلاف السنين ، كيف يمكن تضييق الفجوة تلك ، وكذلك كيفية التغلب على الخداعات الإدراكية الخيالية التي ينادي بها المحدثون ، وتجاوز شكوك الاكتئابيين السوداويين ، ومخاوفهم التي لا أساس لها أحياناً .

لقد حددوا أن هذه الانطباعات تكمن في المزاج الشخصي وتغذيها عاداته ، رغبوا في القبض على لحظة الرؤى والسحر الدالة على قوة الخيال بالنسبة للعقول المظلمة التي يمتلكها الدهماء ، وتساءلوا عن كيفية مقاومة تحيزات العقل المنقبض الذي يعتقد في صحة وواقعية كل كائن خرافي يتمثله أحفادهم ، وكان ينتاب كل واحد منا على حدة هاجس هجوم الكائنات الخرافية التي تطول هاماتها النخيل ، والتي لها حراشف وأقحف وجريد وسباط البلح ، تلك التي يفتح في جذوعها فتحات تتساوى ارتفاعا ، بحيث تستطيع النخلة اجتذاب أي واحد يقترب منها ، وما كان مرعباً حقاً هو قدوم كابوسية النخل والبناء ، كان مجئ مثل هذه الكائنات يثير الحذر فنختفى من أنفسنا ، يتملكنا الجزع والخوف الذي نقوم بتكوينه ، وفي مواجهة مثل هذه الخرافات يبحثون في معاملهم ، ومعاجمهم عن علاج جماعي ناجح لنا .

أرادوا أن يصلوا إلى حقيقة يعرفونها ، ولا يستطيعون تحديدها ، يرغبون في تشخيص مشترك لكل الحالات المختلفة ، وكان السؤال : كيف يصلون إلى هذا الخيط المشترك في جميع الحالات ، وضعوا الحالات التي اختاروها بعناية تحت
اختبار محكم ، لاحظوا على مجموعة أنها تكون بالليل وديعة ومسالمة ، أما بالنهار فتكون شرسة محبطة وعدوانية
ومراوغة ، يتخيلون رؤية أشخاص وأشياء وحيوانات ، وظواهر ليست موجودة ، يعانون من الآخرين الذين يحصلون على كل شيء بينما هذه المجموعة لا تحصل على أي شيء .

يعانون من الآخرين الذين ينتابهم الاكتئاب والحزن والخمول واضطراب الحركة ، وتفكك الأحلام والتفكير والاصطدام بالآخرين وتجاهلهم ، يتخيلون حدوث أشياء لم تحدث ، انتاب الجميع نوبات عنيفة من الذهول والرعب ، يشاهدون الدماء تزدحم وتندفع قوية في رؤوسهم فيطلقون صرخاتهم من بين أسنانهم ، حددوا لهذه الطريقة فصد الدماء من الرأس بالمشارط ، تنتابهم مزيج من الهلاوس البصرية والسمعية والهذاءات والخدع الإدراكية ، واضطراب التفكير والوجدان .

وفي أوقات أخرى لاحظوا استبداد الخيال الجماعي بعامة الناس ، فأحدث إثر ذلك عاهات مستديمة ، وغرق الكثير منهم في النيل ، وأزالوا من مخيلتهم كل العمائر العالية والعشوائية والقبيحة بعد أن قذفوا بأنفسهم من شرفاتها ، لجأوا إلى مترو الأنفاق خوفاً من الزحام والتلوث ، أحسوا بتناقض وجداني جماعي في الميول والنزعات ، لم يستطيعوا التعبير عن السرور والألم أو الإحساس بالفرح والمعاناة ، أضحوا ذوى إرادات مضطربة ، فقدنا القدرة على المبادأة ، نقص أو كاد يمحي نشاطنا ، واهتماماتنا ، نسرع دائماً خارجين داخلين دون سبب مفهوم ، ثم لاحظوا أنهم يصرخون بالليل بأصوات عالية .

وعلى مدى فترة طويلة عانوا من تصرفاتنا
الكثير ، لكنهم لم يفقدوا الأمل في علاجنا ، لذا لجأوا إلى اكتشافاتهم الأولى ، فبدأوا في إنشاء معابد الأحلام للشفاء ، واستحدثوا فريق مفسري الأحلام ، أضحت مراكز وملاجيء جماعية ، يصطفون في طوابير طويلة لا تتقطع ، فيما كان الكهنة لا يملون من وصف العلاج للمرض ، ينصحون بالراحة وتناول الأدوية ، في سياق اهتماماتهم اكتشفوا أن النساء لم تلد منذ عدة سنوات ، وأن الرجال أصيبوا بالعنة والعجز الجنسي .

كانوا اطلعوا على أساليب العلاج الحديثة واستبعدوها ، يريدون أحفاداً أحراراً جدداً ، غير مستسلمين للذل والقمع والصدمات الكهربائية ، استبعدوا اللجوء إلى الأساليب العنيفة بالصدمات على أمل إيقاظهم أو إفاقتهم من أحلامهم ، ومن ثم علاجهم ، وكانت الصدمة الكهربائية و غيرها واحدة فقط من الوسائل المتوافرة في أيدي الأطباء لعلاج الخدع الإدراكية ، والذين يعولون على أهمية المحاولات المتكررة والمعادة لمواجهة الهلاوس .

عرفوا أن الأنواع المختلفة للعلاج تعتمد على إحداث الفزع والصدمة والرعب ، وكانت نتيجتها إحداث ألم جسمي أو قلق زائد ، من أجل إعاقة الجنون أو إيقافه ، ومن ثم يحاولون إعطاء الأفكار الواضحة المتميزة مجرى أو ممراً آخر تستطيع أن تجرى فيه .

أدركوا أنه يمكنهم أن يعارضوا إحساساً من خلال إحساس أخر ، حيث أن الإحساس الواضح المتميز يقوم بمواجهة الآخر الذي يعوقه ، وسوف يخضع الإحساس السابق للإحساس اللاحق ، ويوقف سلسلة الشياطين الخيالية ، لذا تشبثوا بمعابد الأحلام ، طوروا الفكرة ، وبدأوا يدخلون إليها من هدأوا بعد أن تناولوا الأدوية والعقاقير ، وقد تمثلت الإجراءات الخاصة بالأحلام فيما يسمى بعمليات الاختمار ، تلك التي كانوا يدخلون المريض إليها لممارسة النوم أو قضاء الليل بأي شكل في منطقة قاعة المعبد المقدسة ، يأملون للمريض أن يتلقى رسالة محاطة بهالة من النور أو يهبط عليه الوحي .

لاحظوا أيضاً أننا نتزاحم كعادتنا على معابد أحلام
معينة ، حسب شهرة آلهتها ، باعتبارها قادرة على شفاء المرض ، كانوا قد تأكدوا من نظرية الأحلام الإيجابية ، حيث بدا دورها يؤتي ثماراً ناجحة ، غير مسبوقة .

في مذبح معبد الأحلام الضخم يتربع الكاهن المصري ، يتصاعد دخان البخور المعطر الإلهي من فتحات وممرات سرية ، تلائم كل طقس على حدة ، في درجة الحرارة المتفق عليها ، حتى تتصاعد الأحلام وتتكاثر ، الكاهن حليق الذقن والرأس ، نافذ العينين والبصيرة ، ممشوق القوام كعود
أبنوس ، على كتفيه بردة رجال الدين في قدس الأقداس الذي لا تطؤه إلا قدم الإله أو الملك أو الكاهن الأعظم ، سلام عليك يا إخناتون ، الجلال لك يا من أتيت مثل خالق الآلهة ، إنك تشرق وتضيء يا سيد ملوك الشمال والجنوب ، يا رب التاج الأبيض النبيل ، يا مطمئن النفوس وباعث الأحلام ، ابعث إليه حلماً كي يهدئه ، يا من تخفى في الظلمات مجيئك لتنتشر في الرءوس أحلامك ، فتحمل الآسي والظلم عن كاهل مرضاك ، أنت سيد الأسماك الصغيرة التي تقلق أعظم شعوب الأرض ، مستقبلاً مرضاه الذين يدخلهم عليه كاهن آخر ، يدخل في كل معبد على حدة ، أماكن هادئة ، يبعد المريض عن الآخر بمسافات
متباعدة ، إضاءات خافتة ، موسيقى فرعونية ناعمة ، يقوم بتحريك وتنشيط خيالهم ، هؤلاء الذين يكونون قابلين للإيحاء من خلال إحصاء وسرد معجزات الشفاء الماضية التي قام بها الإله ، كذلك من خلال بعض الأدوية الناجحة ، يتلو بعض الرقى والتعاويذ السحرية المناسبة التي قد تساعد في إحداث حالة استسلام واسترخاء في العقل ، ينصح المريض بمحاولة الدخول في حالة الاختمار أو نوم المعبد ، أثناء الليل يأخذ الكاهن هيئة الإله ويظهر أمام المريض الذي إذا استيقظ تعطي له نصائح مهمة .

وقبل التأكد من نوم المريض يقدم قسمه حتى تأتي أحلامه صادقة وصافية ، يقول ليست هناك خطيئة خاصة عالقة بي ، لم أقل كذباً ، ولا فعلت شيئاً بقلب غاش ، قلبي نقي ، لم أرتكب خطيئة ضد إله أو آلهة ، يحرقون له البخور في المبخرة المباركة ، حتى يستطيع أن يقدم تحية الوداع الأخير ، بجواره صناديق بها أزهار وقوارير ، يتلون خدمة الأحلام من لفافة بردى كأغاني التمجيد والمديح والبزوغ ببلاده العظيمة ، وعند التأكد من نومه يجعلونه يحلم ، فقد فتحت قنوات في رأسه تسهل له مرور الأحلام ، يتوسلون إلى الإله قائلين ابعث إليه بحلم مطمئن ، ومن خلال أحلامه يبحثون عن وسائل شفائه ، كان الحلم ذاته أحد الوسائل للتخفيف من أعباء الحياة وهمومها ، يستطيع الإنسان بعد مروره بخبرتها أن يعود ويواصل الحياة بشكل أفضل كما يتمنون .

أثناء نومه يعطيه تعليمات شفاء دقيقة عن العلاج الذي يجب أن يتبع ، وفي حالات أخرى تعطي إرشادات غامضة أثناء الأحلام الطبيعية التي يكون الشخص خلالها قد أغمى عليه بشكل مصطنع ، ثم تفسر هذه الإرشادات فيما بعد بواسطة الكاهن ومفسري الأحلام الجدد .

وفي بعض الحالات الانفعالية التي ستثيرها قدسية المكان والطقوس المؤثرة فإن حالة الحساسية الشديدة تستثار بشكل جيد ، حيث يكون المريض قادراً على الرؤية والسماع والشعور بأشياء لا يستطيع أن يدكها في الأوقات العادية ، حيث ترجع هذه الحالة إلى رهافة الحواس ، وهي شاهد على قبول الشخص للإيحاءات والتوجهات نحو الشفاء .

وكان علينا أن نشاهد ونتخيل كيف كانت تلك الليالي الطويلة الصامتة تشهد طوفانات من النساء والرجال الذين يتألمون ويتأملون ، يبتهلون في هدوء إلى الإله الواحد إخناتون أو أمحتب العظيم المهندس المعماري للحضارة الأبدية ، والذي تعلقت به آمالهم وأفئدتهم .

ولم يتوقفوا عن ذلك . حيث تطورت وصفات طبية وتعاويذ للإجراءات الشفائية ، كي تتحرر الروح من قيود الجسد خلال النوم ، ليسهل اتصالها مع الإله ، إذ أنه يمكن التخفيف تحت تأثير الإيحاء .

تتوالى التجارب والأحداث والنتائج ، يخايلهم نجاحهم أحياناً بمساعدة ورغبة أكيدة في الشفاء ، وإحباطاتهم أحياناً أخرى ، يصرون على أن هناك أملاً ما مازال قائماً ، يساعدهم الأحفاد أيضاً في تجسيد الآمال . تبرق وتضيء وتظلم تلك المحاولات ، وما بين محاولة ومحاولة كانت تجري



محمد عبد السلام العمرى.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى