هبه حلمي - كوثر

عندما فتحت باب غرفتها، لم تمنع ظلمة الظهيرة في الداخل من أن تشاهد جليا كوثر وقد أخرجت للتو شيئا من درج المجوهرات وتدسه في صدرها. تقاطعت نظراتهما برعب متبادل. وتوقف الزمن، برهة دامت طويلا ازدحمت فيها الافكار في رأس كلتيهما وانفتحت كل الاحتمالات.
كانتا كحيوانين يهمان لبدء معركة الموت، مرعوبتين، أصابهما الشلل. لا تعرف أية منهما ما الذي يجب عليها فعله في الخطوة التالية.كان دهرا، ثقيلا هذا، لم تصدق السيدة أن كوثر بعد كل هذا العمر تسرقها، كوثر تسرق؟! لا مجال للإنكار هنا، فهي التي جودت, عمرها كله آليات الإنكار لتنعم بحياة آمنة من كل سوء، لن تستطيع للأسف أن تكذّب عينيها.
لقد عبرت الستين بالفعل، ينضب جسدها وتصارع أدوار الإنفلوانزا الشتوية بالتطعيم السنوي وترمم ما تبقي من قواها بالأوميجا 3 والفيتامين سي الذي واظبت علي ابتلاعه يوميا ووضعه بجانب فرشاة الأسنان حتي لا تنسي. هي مرهقة في الأصل دون معارك، لماذا يجب عليها أن تواجه هذا الآن؟
غزاها الأسي مخلوطا بالغضب وعندما ساد الغضب وعنفوانه، انتهي الشلل فورا، وانقضٌت علي كوثر ودست أظفارها في لحمها وأخرجت من صدر كوثر الخاتم الألماس. نعم هو خاتم زواجها الألماس.
كانت بعدها سيدة عفية يوم أن وصلت كوثر إلي البيت مراهقة تنضح بالأنوثة، لم ينم جسدها علي استحياء أبدا، كان فائرا رباني، ثدياها فخوران، وسطها ضيق يؤكد انحناءات الاليتين والفخذين و»سمانتي»‬ الأرجل، لم يكن بإمكان حتي »‬جلابية بلدي» أن تطمس ما لهذا الجسد من حضور وسطوة. يداها سمراء بضة وكبيرة اكثر من اللازم شأن كل من عملوا مبكرا.
طفلة »‬تنقي الدودة» في الغيطان وتقطف آخر الليل الياسمين بالمزارع وهو في أوج عطره ليصل مصنع العطور فواحا. ثم »‬انكتب» لها حظ سعيد فعملت بالخدمة في البيوت وهربت من البلهارسيا والقمل والبراغيث والجوع.
الجوع غير وارد في بيت السيدة، هي تطعم من هم في خدمتها بسخاء، حتي إنهم يأتون إليها نحفاء ويذهبون أشداء، هذه إحدي فضائلها لكنها ليست الوحيدة. تعالجهم أيضا، تريدهم أصحاء، وتتأكد بذلك أنها خيرة.
عندما دق الجرس. ودخل الأب ووراءه كوثر، نظرت السيدة إليها بإمعان، لكنها لم تكن علي أدني استعداد أن تتحمل المشكلات التي سوف يجلبها جسد هذه البنت إلي البيت. فلولا نظرة عيني كوثر العسليتين، عيون تعلمت كوثر أن تطلق منهما نظرة الكلب الوفي، النظرة التي أجادتها وحمتها من شرور كثيرة، نظرة يحبونها ويرتاح إليها الأسياد، لولاها ما كانت تجاوزت السيدة ترددها. فوافقت وبدأت كوثر الشغل.
كانت مرتاحة بالفعل في هذا البيت، لا أحد يضربها، لها فرشة خاصة وبابها مغلق عليها ولا ذكور ملحين يستيقظون ليلا. فيه تعلمت فن المائدة وتناسق الألوان الهادئة وطبخ الكانيلوني والشركسية و»‬المسقعة بالزبيب» وأعمال الكروشيه وأدمنت مشاهدة المسلسلات والإعلانات والكليبات.
لم تسجل كوثر من ماضيها روائح ليالي جمع الياسمين في منطقة سيئة بالذاكرة بل علي العكس، كانت تكنز الشهيق داخل رئتيها وتقذف الزفير سريعا حتي تدخل إلي أنفها الياسمين مجددا وتحتفظ بروائح العطر أكبر وقت ممكن بـ »‬نغشيشها». لقد كان أنفها ذواقا، يقدّر روائح النظافة الشخصية والطعام الشهي وعطور السيدة التي ترصها هي يوميا علي التسريحة بعدما تكون قد أزاحت حبيبات التراب عن الزجاج »‬البنور».
وعندما تكون السيدة في جولتها اليومية علي »‬تراك» المشي في نادي الجزيرة، جولة صباحية عادة ما تنتهي علي طاولة كبيرة في الـ »‬تي جاردن» بصحبة صديقات العمر، تكون كوثر في سباق مع الزمن لإنهاء تنظيف البيت حتي يتاح لها قدر من الوقت لنزواتها.
علي رف الحمام تسكب من شامبوه السيدة المعطر بالفانيليا قدرا من السائل، تضعه بـ »‬كيس» صغير، تغلقه بإحكام ثم تدسه تحت ملابسها إلي أن يحين موعد الاستحمام. وعندما تستقر »‬الست» بسريرها ليلا، وتتوقف عن الطلبات، تعد كوثر ملابسها النظيفة وفوطتها وتدخل الحمام، تفك الـ »‬كيس» وتستنشق رائحة الفانيليا وتعبث بملمس جسدها والشامبو منسدل مع الماء من فوق الرأس حتي أصابع قدميها. تنتهي، تنشف، تلبس وتحكم الإيشارب علي رأسها لتحبس رائحة الجريمة.
دأبت كوثر علي هذه السرقات الصغيرة، لا تضر أحدا في شيء، بل إن السيدة لم تكن تلاحظها أصلا. لم تكن الأمانة مسألة مبدأ بالنسبة لكوثر، فالمبادئ الصارمة احتكرتها السيدة لنفسها، بها أكملت الرضا عن نفسها بالصعود الأخلاقي فوق أكتاف المذنبين.
يمكن لكوثر أن تشتم »‬ستها» سرا أو تغسل أوراق الخس بإهمال متعمد أو تزيح التراب من حول التحف دون أن ترفعهم من علي الرف، كل هذا ما هو إلا غضب بسيط لم يمنع امتنانها وحبها للـ »‬ست» أبدا، لذا تلقت الركلات والصفعات بهدوء المؤمنين بالقضاء والقدر، أما مواجهتها الآن هكذا »‬عيني عينك» أو مبادلتها الضرب بالضرب أو دفعها بعيدا وفتح باب الشقة والهروب، هذا أمر غير وارد علي الإطلاق. شيئا ما بها كان يلجمها. ربما يكون هذا الشيء هو السيدة المغدورة التي زرعت نفسها بنفس كوثر.
كما أنه لن يفيد الآن أن تشرح لها كم من المرات أخرجت المجوهرات من الأدراج والملابس من الدواليب ووضعتهما علي جسدها، ووقفت أمام المرآة تمثل أنها بطلة فيلم من أفلام الأبيض والأسود تهبط بتودة من أعلي إلي أسفل علي سلالم القصر، بفستانها المطرز ذي الذيل الطويل، تلاحظها كل العيون ويلاحقها المعجبون، أو راقصة شهيرة من راقصات السبعينيات تقذف »‬الايشارب الشيفون» المشغول بالترتر علي الأرض وتتجول حافية في دائرتها غير عابئة بنظرات المشاهدين أو زوجة رئيس جمهورية تؤرق عينيها الشمس فتحميها بالنظارة الداكنة المرصعة بـ »‬فتافيت» الماس، وهي تصعد سلم طائرة. كانت تنهي فقرتها الحميمة أمام المرآة كل يوم وتعيد كل شيء مكانه وتسعد.
اليوم لم يتبق لكوثر كثيرا من عادات المراهقة، فقط تجلس علي الأرض تحت شعاع شمس الشتاء في »‬الفرندة» الخلفية، تقبض علي سيجارة كليوباترا، بأصابعها خواتم وأساور الـ »‬ست»، كهوي طائر العقعق لكل ما يتلألأ كانت تمد يدها عاليا إلي الشعاع وتتأمل البريق. لن يفيدها قص الحكاية من أولها، بها ستراكم السيدة فقط سجل ذنوب كوثر وتتأكد أنها خُدعت طويلا وتبرر لنفسها بضمير مرتاح الانتقام.
أفاقت كوثر من تكورها علي نفسها بالمطبخ علي صوت الاتصال التليفوني الذي تجريه السيدة مع أبن اختها مأمور قسم مصر القديمة، »‬هأبعت لك ضابط وعسكري فورا»، »‬هنربيها ما تقلقيش»، هذا ما لم تسمعه كوثر لكنها تركت المطبخ بهدوء، مشت علي أطراف أصابعها فوق باركيه الطرقة دون أي صوت يفضحها بمهارة تلميذ راجع امتحانه مرارا، فتحت دولاب الـ »‬ست»، أخرجت منه الشال الحرير الأبيض، مترامي الأطراف وحنون، وضعته فوق أكتافها، فتحت عينيها لشعاع الشمس وذراعيها للهواء في »‬الفرندة »‬الخلفية، فردت جناحيها وطارت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى