ديوان الغائبين ديوان الغائبين : محمد الحمراني - العراق - 1972 - 2007

محمد نعيم الحمراني
ولد 1970 / ميسان / ناحية السلام
توفي يوم 26/11/2007
صدرت له: اربع روايات هي على التوالي:
1. ( انفي يطلق الفراشات/ عن دار الواح للنشر- مدريد- اسبانيا/ عام 1999،
2. (الهروب الى اليابسة) عن دار الشؤون الثقافية العامة- بغداد- عام 2002م،
3. ( النائم بجوار الباب) عن دار الشؤون الثقافية العامة- بغداد- عام (2007م)
4. (حجاب العروس – دار المدى - دمشق – 2008 ).

فضلاً عن صدور مجموعتين شعريتين له: الأولى وعنوانها ( خطر) صدرت في بغداد عام 1997 على نفقته الخاصة والثانية عنوانها ( عواصف قروية) صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة- بغداد- عام 2000).

عمل مراسلاً لصحيفة المدى منذ عام 2004 حتى وفاته رحمه الله
عمل سكرتيرا لتحرير صحيفة صدى ميسان الصادرة في مدينة العمارة للفترة من 2005 – 2007
فازت قصته المعنونة (في منزل العقيد) بالجائزة الاولى في مسابقة عزيز السيد جاسم التي تنظمها جريدة الزمان الدولية في العام 2006 .
بالإضافة الى نصوصه الشعرية والقصصية ومتابعاته النقدية المنشورة في الصحف والمجلات العراقية والعربية والدولية .

هتلر العراقي
قصة
محمد الحمراني

انه مطشر بن خلف او (ابو ناصر) كما لقبوه في الجيش،كان والده شيوعيا و هو يمقت صورة ماركس المعلقة في البيت، لأنه لا يحب الشوارب الكثة واللحية ويقول في سره هذا رجل دين متنكر، أسماه الجنود (أبو ناصر)، لأنه كان يخفي صورا صغيرة لعبد الناصر في جيب قميصه العسكري حفظ عن ظهر قلب العديد من خطاباته، التي يستمع اليها بين حين وأخر من اذاعة صوت القاهرة وبدأ يقلد طريقته في الحديث والضحك. دائما يختلي بنفسه ويبحث عن تفاسير للكثير من المشاكل التي تثيرها الخطابات، يكتبها على الورق ويعلقها على أحد جدران المنزل كان يريد أن يجمع هذه الخطابات في دفتر ويسميه (كتاب الأمة). حين سمع أخبار أيلول الأسود، كان في العشرين من عمره، ترك مدرسته المتوسطة والتحق بالجندية بعد حوار سياسي طويل مع أبيه تطور، ليصبح شجارا بالأيدي، عندما ظهر شاربه حدده بشفرة حلاقة حادة من الجانبين وأصبح أشبه بنقطة سوداء صغيرة تجلس أعلى الشفة العليا، قال علانية اكثر من مرة انه يحب هتلر الألماني، لأنه عاشق لوطنه بجنون ولهذا أسميته هتلر العراقي. كان وديعا ويكره الموت ورغم ذلك أمضى خمسة وعشرين عاما من حياته جنديا حارب الايرانيين والكويتيين والأميركان، وحتى لا يمضي حياته سائق سيارة عسكرية نوع (أيفا) أعطى مبلغا من المال (رشوة) لأحد الضباط الكبار، لينقله الى فوج مغاوير طارق بن زياد وقال اكثر من مرة في سره، (هذا الفوج ربما سيعبر مرة أخرى الى أسبانيا العربية، أوروبا حلمنا الكبير، فحتما روح طارق بن زياد العظيمة تتجول حول جنود هذا الفوج).. كان يحفظ نكاتاً عن اليهود والأسبان والبريطانيين خاصة تلك التي فيها يتفوق العرب على غيرهم، حاول اكثر من مرة أن يأخذ معه بعيرا الى الجيش ولكن آمر الفوج رفض وقال له : (افهم يا أخي نحن في القادسية الثانية وليست الأولى.. يا بعير يا بطيخ). في الأيام الأخيرة من حربنا مع ايران، أنفجر صاروخ على مقربة ثلاثة أمتار منه، أعتقد الجميع انه مات وبعد أيام من الغيبوبة، أخبروه بأن شظية أصابت رأسه وانه الأن في مستشفى (الشماعية) للأمراض النفسية، قالت عنه العشيرة انه مجنون، أقارب الزوجة طلبوا منها ان تهرب بجلدها.الزوجة رفضت لأنها تذكرت تلك الأيام التي كان فيها هتلر شابا مراهقا بلا شوارب، وسيم ويرتدي ثياب جذابة
يستغل غفلة الأهل والجيران فيقفز الى سطح أهل الزوجة، ليقبلها ويعود. عادت بها الذاكرة الى الكلمات الجميلة والانتظار قرب الشباك والرسائل،التي تخفيها في صندوق الجدة والى كيس الكرزات المشترك والحامض حلو وشهر العسل.أبوها هددها قائلا: أن زوجك اصبح مجنونا وربما سيخنقك في احدى الليالي. أصبحت الحياة بالنسبة لها سوداء وفكرت ان لا طريق لها غير ان تسكب صفيحة من النفط على رأسها وتخلص من حياة لا يوجد فيها هتلر ولكنها تذكرت ((جسومة)) جارتهم التي احترقت يدها في التنور وكان الجيران يسمعون بكاؤها فتراجعت خوفا من الألم ولكنها فرحت حينما أعلن زعيم لجنة شرحبيل بن حسنة، لتقييم المعاقين بان هتلر بن خلف مازال يحتفظ بنصف عقل يمكنه من استعمال البندقية كلاشنكوف روسية الصنع وكتب في ورقة التقييم (سالم ومسلح وصالح للخدمتين). الزوجة وزعت نذرها من كيك وعصير وحلويات على الجيران ونزعت ثوبها الأسود وتجولت في الزقاق بدشداشة حمراء وبلا حجاب تجمع حولها الاولاد والعجائز اللواتي بدأن يزغردن ويرمين (الجكليت) حولها. بعد ايام من العلاج وزيارة العديدة من الجنود الى بيته قرر ان يقطع الاجازة العسكرية ويلتحق بوحدته. وبعد اشهر قليلة من رجوعه الى الجيش، احتل فوج مغاوير طارق بن زياد دولة الكويت، في الليلة الأولى نام في مبنى التلفزيون الكويتي، لم يستمع الى أغاني عبد الكريم عبد القادر وعبد الله الرويشد وسمع الأناشيد الحماسية، التي تحرض على الحرب وتبثها سيارة عسكرية متجولة.. تذكر أيام أيلول الأسود عام 1970 وكيف ان الأردنيين شنوا هجوما على الفصائل الفلسطينية، ولان وحدته التزمت الحياد هرب منها والتحق بفصيل حيفا الفلسطيني ليلا، قاتل معهم خمسة أيام، ثم عاد بعد أن سرق أحد الفلسطينيين نقوده. هذه الحادثة كادت تودي بحياته، ولكن بعض الضباط القدامى، أبطلوا التهمة عنه وقالوا انه أهبل وكان تائها بين القطعات، عندما دخل السجن لأيام قليلة، قرأ مذكرات تولستوي وبكى على حياته كثيرا وقال بصوت مرتفع سمعه بعض المساجين أنها حياتي وليست حياتك يا تولستوي. لماذا جعلتها تمشي على الورق ؟). في شبابه عمل صياد سمك وملاح وتاجر وحلاق وحرامي مما جعل سمرته واضحة للعيان ويديه كأنها محاريث.في الجيش عمل في صنف المشاة ثم في السياقة ثم تمرد على صنفه لأنه لا يحمل من الرجولة شيئا وتحول الى صنف المغاوير: (عا..عااا..عو).. يوميا يستيقظ في الثانية فجرا، يمشي على الحبال... يهرول خلف الكلاب يزحف بين النفايات. في الشتاء يسبح في الماء البارد، يأكل الضفادع الجميلة والأرانب. قال مرة ان حياته تنقسم الى قسمين الاول هو القسم المظلم والذي انتهى قبل ظهور الزعيم عبد الناصر والقسم الثاني هو قسم الأنوار وفيه، استمع الى خطاباته ودونها في مخطوطة كتاب الأمة. ولكن ما صدمه في شبابه هو خبر موت الزعيم المفاجىء، انه يوم توقف فيه التاريخ بالنسبة له، الزعيم في التابوت، الزعيم تمشي خلفه جموع من الجنود، صرخ في ذلك اليوم: من سيوحد العرب من بعدك؟، وتخيل صوت أتي من الأفق وقال أنت من سيكمل المسيرة يا هتلر.في دولة الكويت وبعد ان شاهد الفرهود يعم البلاد والمدن تحترق، سرق ثلاث حقائب من الأحذية النسائية المستوردة ووزعها على نساء العشيرة وكان يردد (مال العرب للعرب). وفي حديث له أمام الجنود في حفر الباطن قال لهم من حق أي بلد عربي ان يحتل بلد عربي أخر، هكذا ممكن أن نوحد الأمة. أراد أن يقول أن الأمم يجب أن تتوحد ولكن قبل أن يقول الكلمة الأخير دفعه أحد الجنود (العفطية) فسقط من علبة الصفيح التي كان يخطب منها. الجنود تفرقوا وهو كان يمشي (ييس أم) و يغنيرئيسنا... رئيس كل العرب).جرح رأسه جعله يعيش بنصف ذاكرة لا يعرف الأصدقاء ولا يتذكر الأحداث، يقول الكلام وفي اليوم الثاني يناقضه، يخاصمك اليوم ويصادقك في اليوم الثاني، ولكن نصف العقل الذي يمتلكه،أحيانا يتشوش ويعيد أحداث موغلة في القدم، كلمات لم تعد متداوله، أغاني منقرضة، أمكنة تغيرت تسمياتها. روحاني هندي كان يعمل قبطانا في باخرة كويتية، أهداه دشداشة بيضاء وعقال وشطفة.عصر كل يوم، يرتدي الزي الخليجي ويتجول في شوارع الكويت، علمه صديقه الروحاني كيف يحضر الجن وأمضى اشهرا يفكر في هذه العوالم ويقرأ كتبا عن الجن وعالم الغيب والروحانيات وحين أراد ان يحضر أحدى الأرواح المسالمة، خرجت له روح جندي أميركي بهيئة قطة سمينة، أرعبه هذا المشهد فترك الأرواح وعالمها. هذه الحادثة جعلته يبكي مثل طفل صغير وأصبح كائنا من كارتون،خائف وهش ويتكلم مع نفسه.آمر الفوج أعطاه أجازه مفتوحة، أمضى خلالها أياما في بيته.. يضع رأسه بين حين وأخر في حضن زوجته وهو يردد انه قط سمين يا حبيبتي (اميركا موجودة حتى مع الجن) وكانت هي تقول له (اين زوجي البطل؟)...(اين زلمة المغاوير؟).. صور عديدة كانت تتشكل امام عينيه وتختفي. حينما سمع بان الأميركان سيهجمون ويحررون الكويت،ارتدى ثيابه الزيتونية وذهب مسرعا الى حفر الباطن، كان يقول في سره يجب ان نحتل الخليج واليمن ونعود الى الأردن ولبنان ونحرر فلسطين ثم نعبر الى بلاد المغرب أنها فرصة تاريخية. ولكن حين اشتد القصف وشاهد الجنود يهربون من دولة الكويت، هرب مع الهاربين تذكر مشاكل الأمة وأحلامها، كان يتمنى أن يوقف هرولته ويرسم خارطة للامة العربية على الرمل.. ستكون الأمة موحدة على الرمل. ولكن تفكيره توقف حين ارتفع انفجار هائل قربه. في مستشفى البصرة العسكري عرف بأن قدماه قد قطعتا لكثرة الشظايا التي أنغرست فيهما من صاروخ طائرة.الطبيب اخبره صراحة انه اصبح بنصف جسد وبأمكانه أن يستلم قدميه والأصابع المقطوعة في كيس بلاستيكي قبل ان يغادر.منذ عشرة أعوام و مطشر بن خلف (هتلر العراقي)، يجلس قرب باب بيته الخشبي، على كرسي متحرك وبجواره أولاده السبعة بثيابهم الرثة يستجدون المارة... و هتلر يتحسد أجساد الرجال القوية وهي تتحرك برشاقة في الشارع ويتأمل هيئته التي أصبحت تشبه ماركس بشعر طويل ولحية مخيفة ووجه متشنج تبرز فيه الأوردة الخضر،فهو لم يعد يعشق الحمام والقبلات ولم يعد يحتفظ بصور عبد الناصر و لا يريد أن يكمل أي مسيرة، قال لزوجته مرةنعم أنا أناني ووحيد ولا ارغب في رسم خرائط على الرمال).شهادة المغاوير احرقها في المراحيض، وأغاني المعركة رمى أشرطتها في نهر. انه يفكر كيف بأمكانه أن يطعم الأولاد و يلملم جسده المشتت؟


محمد الحمراني.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى