إبراهيم محمود - ضحايا الوحدة والتنوع

تاريخنا المكتوب حتى الآن، ولعله سيستمر هكذا، لم يكن أكثر من تاريخ عنفنا في أنفسنا وفي بعضنا بعضاً إجمالاً، إنه تاريخ أخطائنا وتمجيدنا لهذه الأخطاء، وما محاولاتنا لما يُسمى بردم الهوة بيننا وبين أنفسنا، بيننا وبين الآخرين تباعاً، بين كل ما نتهجاه ونسطّره ونفكره، إلا التعبير الأكثر جمالية رعب، وهو رعب مشرعن، إلا ترجمان هذا التاريخ المجاز بالخطأ.
ولو أننا استشرفنا فيما هو حاصل ومحصَّل في هذا التاريخ، لرأينا كيف يتم تسييد العنف في كل ما يدعى إلى النظر فيه، وفي كل ما يجري تعظيمه، ووجوب السير بمقتضاه: الوحدة والتنوع !
في الحالتين ثمة التنافس في كيفية إراقة الدماء، أي كيف يمكن مطاوعة الخطأ الجليل، وكيف أجيزَ للخطأ المفخَّم أن يستقطب نفوساً ورؤوساً، ودائماً باسم القانون أو الشرع أو الدستور!
فالبشرية في جل ما عرِفت به قولاً وفعلاً،، وفي وهم الاسم الجامع المانع لها، تراوحت بين إقدامها، على ما اعتبرته صواباً والتخطيط من خلاله، وإحجامها عما اعتبرته خطأ وعنف المردود فيهما، وفي الأشخاص الذين زعموا تمثيلها في جهات مختلفة، وإلى يومنا هذا، ومثَّلوها بصيغ نظُم مختلفة، كانت ولما تزل في مذبح هاتين المفردتين، المفهومين: الوحدة والتنوع !
إذ باسم الوحدة" في كل شيء طبعاً " شرّع لشن حروب داخلية وخارجية، ونصِبت أوثان لهذا الغرض، وبرّرت عمليات قتل، هي مذابح مبارَكة قديماً وحديثاً، بحيث ينعدم الزمن القابل للتقطيع " زمن أفضل من زمن "، فليس من زمن، ولا في أي مجموعة بشرية، أو جماعة، أو مذهب، أو طريقة، أو ملة، إلا ويقدَّم نماذج مرعبة دالة على استبداد الوحدة: باسم وحدة الأمة، مورست صور لا تحصى من العسف والإكراهات وعبر اللجوء إلى ما هو ديني ودنيوي، فلا كانت السماء في يوم ما حامل احتواء لعنف البشرية المرسومة في " ظلالها " وتحقيق سلام حتى للفئة الأصغر الموصولة بها بتوجهات دينية أو عقائدية معينة، ولا كانت الأرض وخاصية " الدنيوة " أو الدهرية بفالحة في تجنيب أي مجموعة بشرية من عنف متناسل هنا وهناك.
وباسم التنوع " في كل شيء طبعاً بالمقابل "، لم تُدَّخر قوى نظرية وعملية رداً على وحدة مزعومة، أو مفخخة، أو شعاراتية، أو مضلّلة ومضلَّلة، لممارسة أبشع صور القتل ومن ثم الإقصاءات لما هو مضاد، إذ على أرضية التنوع، أزيحت جماعات وثقافات بشرية، لأن ثمة خطأ يدعى إليه، واعتباره حقيقة مطلقة، من خلال سيل من الكتابات ومؤتمرات وندوات سياسية واجتماعية وفكرية، وحتى على مستوى الإبداع، كان ممثليه نصيب وافر من ضخ العنف.
فثمة ما يتجاوز النطاق المضروب حول أي منهما، وثما ما يخفى داخل كل منهما .
ولو أننا توقفنا قليلاً عند مفهوم " وحدة الجنس البشري " لرأينا فظائع تُرتكب من خلال تسييد جماعة على أخرى، بوصفها الأتم أصولاً، الأعرق، الأنقى دماء، ولقد مضى الذين رأوا فيما أرَّخوا له وقد أرخوا لتخيلاتهم والمتاح أو المباح لهم من القوة، بأفكارهم المعلنة والمشتغَل بها إلى تأكيد بدايات بشرية لدعم فكرة " الوحدة " تلك ليس في مقدور أي جهة تأكيد ذلك، لأن المعيش اليومي نفسه حاضر على هذا الوهم المدعى إليه والعنف الممارَس باسمها.
من الوحدة " الجنسية "، إلى الوحدة الدينية، إلى الوحدة السياسية، فالوحدة الثقافية، ثم الوحدة الاقتصادية، فالاجتماعية والعقلية...الخ، وكلها تلتقي في بعضها بعضاً، وليس لأنها تردمن موقع التقديم والتأخير، أجيزَ للعنف أن يكون سيد الأحكام، وأن يكون الخطأ هو " جينومه ":
فذوو الدين هم أكثر من يعبّرون عن انقساماتهم في تقديم دين على آخر، وما يترتب عليه من إقدام الأصح على الاستبداد في الخارج عن جادة الصواب، كما يُزعَم، حتى داخل الدين الواحد، وللفقهاء القدح المعلى في ترتيب أو توضيب أو تهذيب ما يلزم لهذا العنف الناتج عما توصلوا إليه، وما ينبغي البدء به: تمجيد أخطائهم، والسعي ما أمكن إلى الدفاع عنه وردع المخالف.
وللسياسيين صولاتهم وجولاتهم داخل شعوبهم وعلى حدود دولهم وباسم سلطات مشرْعَنة، في تكتيل شعوبها، وتركيبها بما يتجاوب وما توضَّعوا عليه قانونياً.
وليس للعاملين في الحقل الفلسفي أو الفكري، امتياز في الصواب وليس الخطأ، فهم فيما انطلقوا إليه أو منه، كان لهم مشاريعهم، كما تُسمى، في تبيان ما اعتقدوه ويعتقدونه الصواب بالنسبة إلى مختلف القيم البشرية، ومفهوم العقل البشري في المقدمة، والتفضيل بين اللغات، أي ما من شأنه إنزال العقاب في " الأدنى " فكانت الميتافيزيقا التي لم تفارق أذهانهم، بنابضها الانقسامي والجهوي صورة طبق الأصل عن انتماءاتهم إلى لغاتهم وثقافاتهم و" أصولهم " المنعتقدية، أي ما يعطي للخطأ رصيداً إضافياً، بصدد أصول البشر وأديانهم وفردوسهم ولغاته...الخ.
كان للعلم نفسه وفي مسلك علمائه هذه الحضورات المتتالية في رصد الملاحظات والظواهر، وفي استقراءاتهم تلك التي لا نهاية لها، ولم يفلح إلا بإنتاج المزيد من أدوات القتل إلى جانب التشريع للمعتبر اكتشافاً علمياً لا يدحَض، فلا إقليدس كان مخلص البشرية بحسابه، ولا آينشتاين معاصرنا بالقادر على تقديم المغاير جهة المردود القيمي، إن الأدوات العائدة إلى الحرب، وفي أيامنا هذه خير " ضمان " للخطأ الذي يجد أنصاراً ومقاومين أشداء باسمه .
وحتى على مستوى الشعراء " حثالة البروليتاريا الأدبية "، نجدهم فيما تخيلوه واحتووه واحتموا به، في تعبيرهم الرمزي، الدلالي والتخيلي عما يجري في نفوسهم ومن حولهم، وقد أعطوا مداً للخطأ ذاك، وهم يغذّون كلاً من الوحدة والتنوع من خلال عنف المأثور الإبداعي فيهم، أي في مللهم ونحلهم حتى داخل الأمة الواحدة، وفي النظرة إلى الآخرين، إن نُظِر في أمر نشأتهم .
ولو أننا دفعنا بالمفهومين المنهوبين: الوحدة والتنوع إلى الأمام، لرأينا أن كل ما يُعَد وحدة، وبالمقابل، ما يعتبَر تنوعاً، يكاد يتساوى مع الآخر، لأن ليس من تاريخ محدد إلا ويشهد على أكثر تنافس، من تجاذب، من احتراب شغال بالعنف الدرامي المستدامي، بينهما، إلى درجة أن كلاً منهما يعمل على تخوم الآخر، أو يستلف منه، أو يحل محله أحياناً، ويغيّبه، ليعطي اسمه تلك العلامة الفارقة والمارقة في آن: الشعب وحدة، هكذا قيل ويقال، سوى أن نظرة عابرة في أساسيات هذه الوحدة ترينا بشاعة المتحصّل، أي ناحية العنف المعمول في الداخل، وما يبقي للعنف هذا دورات لا تنقطع وتجديد صوره وألوانه وطعومه وروائحه، أي ما يكون تنوعاً ليس من قبيل التفاهم أو الاتفاق والتحول إلى السلم والعيش بوئام، وإنما لدعم الخطأ الآخر، والذي ينجم عما لا يُتَّفق عليه: ليس من وحدة شعب، إلا في أذهان سياسييه ومنظريه، إن من جهة المنتمين إليه، وكيف يؤرَّخ لـ" أصوله "، وإن من جهة الخارجين عن نسبه والمنتمين إلى سواه وما يجري في متن العلاقات بينهما، وكيف يقحَم في الموضوع: الأصل وصفائه !
هذا ما ينطبق على الأمة، القومية، الدولة الواحدة، اللغة الواحدة، وما في بطانتها من جمهرة أخطاء تعتمل على أرضية من التفكيكات الموجودة ضمناً، بوصلتها الخطأ المفتَتن به .
أترانا قادرين على رد هذا الخطأ وقد أصبح فولكلورياً، وقد تجذر في النفوس والرؤوس، وصار له أنساب وألقاب، ومحاولة التحرّر منه ولو بصورة نسبية، لنحسن التعبير عن أنفسنا ونحن أقل عنفاً، ووقوداً لحروب ما أظن أن الجاري فينا وفيما نراه مقروءاً ومتلفزاً بوهم، أي بمفارق بما كان يعمَل به منذ آلاف السنين، عما كان يُسمى بـ" العصر البدائي "، وأكلة لحوم البشر ، إذ إن هؤلاء، فيما لو قيمناهم وقارناهم بنظرائهم راهناً، لفاقوهم قيمة ومقداراً، إذ كانوا يضفون قيمة على لحم أعدائهم، فيلتهمونه ليزدادوا قوة، أما حديثاً، فثمة موتى عن قتل القتل بصور شتى، حيث تتفسخ جثث، أو تنتهك حرمتها، وتترَك في العراء، وينفّر منها، أكثر من كونها" حيوانية " أي ما يعود بنا إلى ما استهللنا به، أي في حضورنا المستمر ضحايا، وليس من أمل، أي أمل بأننا في الأفق المنظور، سوف نشهد التئام جراحنا، ونعترف بخطأنا الجسيم في الحالتين !


إبراهيم محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى