جمال الدين علي - سر موؤود.. قصة قصيرة

الأفكار الشريرة تطّن في رأسه كذبابة مزعجة; لم تفلح الريح التي صفقت النافذة في طردها. يفصله عن تجرع طعم المرارة غصة وقفت في حلقه. كلمات أمه المواسية ( أنسها يا ولدي; غدا سأجد لك أجمل منها). تزيد من حنقه على الدنيا.
لماذا تفعل الحياة هكذا معي؟ يتساءل و الأحاديث القديمة التي كان يسمعها وهو صغير; أشباح كائنات هلامية تطل برأسها في الغرفة المظلمة تسخر منه وتمد له لسانها. يتنابز مع الأولاد في الشارع; ولا يجدون غير ( ولد أمه) كلمة تشعره بالضآلة و الخزي والعار. أطلقوا عليه الألقاب ( ولد الرسالة ولد أمه). أحدهم تجرأ ونفض نميمة الكبار التي علقت بذهنه وصرخ في وجهه حينما أوجعته اللكمة التي سددها له ( أمشي يا ولد الحكومة). سأل أمه عن مكان أبيه وكانت الحرب الهلامية التي لا يعرف أحد من أين بدأت ومتى تنتهى هي الكائن الوحيد الذي يربك عقل طفل ويجعله لا يكف عن السؤال.
فتح عينيه على الدنيا وجد المرأة التي وهبت نفسها لإنتزاع صرخة الحياة من أرحام النساء أمه وأبيه وعائلته الكبيرة. لم تبخل عليه و انغمست بروح ربيعية مزهرة في واجب ظنته مقدسا. بعاطفة الأمومة الأصيلة و التي استحلبتها من ضروع المهنة الرحيمة احتوته حتى أتاها الخريف. كبر السر وانتفخ وخشيت أن ينفجر يوما في وجهها. ماذا ستفعل حيال إسكات أوجاعها وهي التي تدربت على تخليص النساء من وجع الولادة.
ذات عاصفة سرت رائحة الشائعة في بطن البيوت كالنار وانتشرت عبر الطرقات والأزقة حتى وصلت إليه.
( أمي يقول الأولاد بأني ولد حرام).
هل تخبره بكل شيء و تعري نفسها و تفضحها أمامه؟
ماء السر يفور في فمها و بذرة العشق القديم التي دفنتها في قلبها ذات نزوة; تطقطق توشك أن تمد يدها ترفع غطاء الأحداث وتطل برأسها للضوء للهواء.
تعود بها الذكريات لتلك الليلة البعيدة التي قدمت فيها للحي تحمله كلطخة. القصة الملفقة التي انطلت على الجميع لن تستطيع أن تقنعه بها الآن. الحرب الخنثى صارت الأب لكل الأبناء مجهولي النسب. تنكمش على نفسها و تشعر بذلك الخوف الذي ينتزع قلبها ويطمره في الثلج. وهبته اسمها و عمرها لتجني ثمار الستر المحفوفة بأشواك العار. جذور العوائل ذات الأصول المعروفة التي تمددت في باطن تربة خصبة خلال أعوام جعلت محاولاتها تبدو فعلا عبثيا.
تريد إسكات وجعها القديم ولا تقدر. خيبتها كبرت أصبح لها صوت غليظ; لحية; شارب وعضلات مفتولة. حينما تضيق فرص النجاة يصبح خرم الإبرة فسحة أمل بقدر الحياة. والقشة طوق نجاة بحجم سفينة ضخمة. ولكن ماذا تصنع عندما تشد سواعد الأقدار أطراف الدنيا بكل قوتها و تضيق رحابة منفذ الهرب من المصير وتصبح بعرض عنق زجاجة هي امتداد الشارع الذي يفصل بيتها عن الحي الذي نبت ذات طفرة عمرانية خضبت كفي المدينة. في ذلك البيت المنقوش على أحدث طراز ذهبت خاطبة الود لابنها الوحيد. في خضم بهجتها وهي تتطلع بوجه العروس نسيت ما قدمت من أجله و تلجلج الطلب على لسانها وهي تمد يدها تصافح الأب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى