عبداللطيف الزكري - الهارب.. قصة قصيرة

يهرب الزمن، كأنه الذئب يمرح في الفلوات، أو كأنه نعامة تغمس رأسها في الرمال، لا خوفا من خطر محدق، بل رغبة في مواراة الحقائق إلى الأبد، إنه يفعل هذا ليقول« إنني لم أكن». رأيت الزمن هاربا هذا الصباح في إهاب رجل مغبر، تتغضن التجاعيد في وجهه، ويغطي بياض الثلج هامته، كأنه صلف. «- ما الذي تريده مني ؟» يقول الزمن، وهو يسرع الخطى في شارع باستور بطنجة العجيبة، الشارع الذي يسميه أهل هذه المدينة: ( البوليفار). كنت متيقنا، أن الزمن يخطر في البوليفار لتحقيق هروب أخير لا عودة بعده، وهو يفعل ذلك نكاية في المؤرخين، الذين يطاردونه منذ زمن بعيد، كأنه عدو عنيد، هو ليس عدوا فحسب، هو غول يلتهم كل شيئ، كل شيئ بما فيها أوراق المؤرخين. لم يعد للزمن من رغبة في شيئ غير الهروب. وأنا أراه يفعل ذلك، هذا الصباح، في ناصية البوليفار، قريبا من زنقة الشياطين، تيقنت أن الزمن قد أرخى الحبل على الغارب، وأنه إنما يفعل ذلك ليقلد السكارى المترنحين تحت قبضة النسيان، كأن النسيان علاج أو بلسم يشفي من غوائل الحياة، أراه الآن، وهو يتخفى كالسارق- سارق النار الذي اختطف الشعلة، بوهجها، من الآلهة، ومدها للبشر، راغبا في إضاءة الفضاءات المعتمة حيثما وجدت، بما فيها هذه الناصية من البوليفار، وهذه الزنقة التي تمرق فيها الشياطين مروق المخلوقات العجيبة في أرض الله الرحيبة. لم يكن يهمني الزمن الهارب، فليهرب إذا شاء، لكن همي كله، كان في أن أنزع من يدي الزمن ما قبضتا عليه، ولقد كانت تقبضان بقوة على بقايا العتمة المدلهمة، من الليل الطويل الذي ران في البوليفار، فهذا الشارع هو شاهدي الأول والأخير على شبابي وعنفواني، وشبابي قد انساب وانساح كما ينساب وينساح الماء في شقوق الأرض العطشى، وأنا الآن، شيخ أعيته سنون الكفاح، ولم يعد لي من سلاح غير الرؤية الآنية التي تلابس الأشياء في ظهورها، لأني أمني النفس بما تبقى من متع لي في هذه الحياة، والحياة- حياتي أقصد- قطارَ ليلي، مسافر منذ دخولي هذا العالم البشري الهائل والآهل بالغرائب والعجائب. ولدت ليلا، وكل أسرار قدري كتبت في ألواح هذا الليل. وها هو الزمن الهارب، قد كور ألواح الليل هاته في قبضته القوية، وسار متنكرا في البوليفار، كأنه مخمور وما هو بمخمور، أو كأنه ذئب يمرح في الفلوات، فيعوي متى شاء، ويصمت متى شاء. ولغرابة هذه المشيئة وغموضها، صرت أترنح كالسكران، وما أنا بسكران، فقد نمت ما يكفي من النوم والرقاد والسبات، وإذ صحوت، وجدت ذاتي أمشي كما يمشي الولهان، المشبوب بالوجد. وإني أحب الحياة وأحب أن أعرف ما في هذه الحياة، وهي كلها تستحق الحب لئلا يغطي النسيان كل شيئ بعد أن يبسط جناحيه الكبيرين، ويخرج ذيله الطويل. أحب الحياة-حياتي وأرى لزاما علي العودة إلى الوراء وزيارة الأماكن الحميمة، وإراقة دفقات الضوء، ومناوشة الظلال والعتمات، للظفر بالسر المكين. وإذ أرى الهارب يتخفى، كأنه يتوجس المطاردة، لم أتبعه كما يريد، بل مددت شباكي للسيطرة عليه، كما يلقي البحارة بالشباك عند الاصطياد، وما كان لي أن أفعل غير ذلك، فهو عنيد، وأنا ذو حرص شديد، وكلانا في شد وجذب، كما لو كنا نتصارع. إيه ! إنه صراع وأي صراع، فمعاركة الزمن لا تكون إلا باجتياز المحن، وأي محنة أعظم من محنة المطاردة، كأنها مكابدة في البقاء. احتدمت معركتنا، فانهالت على ذاكرتي صور البوليفار، في السبعينات، وهو يعج كل مساء بالمشائين، كأنهم يذهبون إلى فراديس طنجة. بشر يتكلمون لغات بابل، يجاورون بعضهم، كأنهم يقتسمون الأماسي قسمة عادلة أو غير عادلة، كل بحسب ما يملك، وطيور الدوري تشع وهجا، وهي تحلق في أسراب من شجرة إلى شجرة، ريثما يأمرها الحادي بالرقاد في الأوكار المعتادة، ولا تني تغرد وتزقزق وتغني وتشدو في موسيقى زرقاء كالبحر، الذي يتراءى في مرمى نظر. احتفالية مسائية، تسم طنجة الخارجة للتو من دوليتها، وبقايا الدولية تلهج بها الألسنة العابرة للبوليفار كل مساء. أستعيد هذا وأستخلص منه شريطا مفتولا كأجساد المصارعين، أمده بطول البوليفار، آملا ألا يخطئه الهارب، فيقع حيث يجب أن يقع. ميمون المجنون يذرع الشارع، ويلهج بأمازيغية الريف، لاعنا الشحاذ الذي سرق منه درهمه الوحيد، الوحيد الذي أسعفه به طنجاوي قديم، ليبتاع به ( كوميرة فرنسية). كارلي الأحمق، بلا هوادة، يصرخ وينادي أهل طنجة للحاق بمن رحل إلى جبل طارق أو إلى أوروبا. الفقيه باسكيط، يهذي بكلمات إسبانية كأنه يقذف من فمه قذائف نسيها فرانكو هنا أو هناك. أما الكسالى فقد ارتخوا على سور المعكازين ارتخاء يعيد للجسد المهدوم عافيته، يأكلون البوكاديو لإقامة الأود، وحمام هادل يحوم في الفضاء كأنه يرقب سماء المدينة، فيما النوارس الكثيرة تحلق فوق مرسى طنجة، وباخرة ابن بطوطة تطلق صفيرتها، كيما يلتحق بها الخدم لمزاولة الخدمة إياها. حياة هادرة كأمواج البحر. الهارب يخفف الخطو كأنه يتحين الاختفاء التام. الزمن الظاهر يحلج صوف الزمن الغابر، وليس ثمة فيما يحلجه غير صوف مندوف بالبياض الشهي. أتمشى هذا الصباح حيث اعتدت أن أتمشى منذ إحالتي على المعاش، وبقائي لوحدي في الدار، لا تؤنسني إلا الولية الطيبة، التي لا تكف عن البكاء والعويل والهذيان بشأن أبنائنا الراحلين إلى أوروبا. أمشي وحدي. فكرت أن آخذ وجبة الفطور، هذا اليوم، في مقهى كريستينا. من كرسي بالداخل أو الخارج، أنظر إلى البحر. أتملى الزرقة العذبة، وأمني النفس بتحسن الحال والأحوال. أرى المارين قلائل، ككل أصباح آحاد طنجة. جلست في داخل المقهى، وجدت ركنا فارغا، فانزويت فيه. طلبت، كالعادة، كأس قهوة بالحليب، مع خبزة صغيرة قمحية مفعمة بالجبن البلدي مخللة بزيت الزيتون. كان صياح البط، في مسبح نافورة القنصلية الفرنسية، عاليا، يتردد صداه في ساحة فرنسا التي تطل عليها مقهى كريستينا، وبقدر ما ازدردت فطوري، فكرت للحظات خلتها طويلة مديدة كالبيات الشتوي، أن الهارب قد وقع، أو أني سأظفر به في العشية، فمساءات البوليفار، لما تزل مائزة، صحيح، سبق لي مرارا أن رزت الزمن فوجدته كالإسفنجة المغموسة في العسل، حلو طازج ساخن..لا أشبع منه أبدا. وقبل أن ينتصف النهار ويفلت مني الهارب، استويت واقفا. نقدت النادل وانصرفت. وأي انصراف هو إن لم يكن عملا آخر، ربطت نفسي به رباط الكفاح، كأني حامل السلاح، ولا سلاح في يدي غير الكلمات. عن لي أن أشرك معي شريكا آخر يساعدني في الظفر بالهارب. بعد تفكير عميق لم أجد افضل من مفضل الحضري، فهو مثلي أحيل على المعاش، ولطالما اشتغل في علوم الفيزياء ودرسها لأجيال من الطلبة، فهو وحده من يستطيع تكوين فرقة عمل معي، نشتغل سويا للإيقاع بالهارب، ونقيده بقيود متينة تسمح له بالحركة التي نشاء. هل نستطيع فعلا هذا؟ سأتصل بالمفضل وأحبب له فكرة الإمساك بالزمن، فهو طالما حلم مثلي بإنجاز مشروع العمر. لعله هذا مشروع العمر: القبض على الزمن. وإلا أضحت حياتنا كالقبض على الريح.

تعليقات

قصة ( الهارب ) هي في حد ذاتها طريقة ناجعة لمواجهة التاريخ والقبض على الزمن..
هنيئا لك السي عبد اللطيف، ومزيدا من السرود المكتشفة للذات عبر كتابة تفاصيل المنسي .
 
أعلى