عبد القادر وساط - رسالة من سجين الرجز إلى أحمد بوزفور

أشكرك خالص الشكر على رغبتك الصادقة في تدبير هروبي من سجن الكثيب على ظهر بغلة. فذلك آمنُ وأجلبُ للسلامة من عملية هروب هوليوودية، تُستخدم فيها المروحيات التي تحط على سطح السجن، وعلى متنها رجال الكوماندو الأشداء، الذين يضعون الأقنعة ويحملون بنادقهم الرشاشة، كما يحدث في السينما.
نعم يا صديقي العزيز، أؤكد لك أن الهروبَ على ظهر بغلة يتلاءم أكثر مع طبيعتي. وما أتمناه هو أن أستطيع الثباتَ على ظهرها، حين تبلغ السرعةَ القصوى المسموح بها في تلك المسالك الجبلية. وأنت تعرف، يا سي أحمد، أن هناك أشخاصا كثيرين قتلتهم البغال. وقد ذكر بعضَهم أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، في كتابه ( القول في البغال). فمنهم ربيعة بن أبي الصلت، وهو أخو أمية بن أبي الصلت. ومنهم خالد بن عثمان بن عفان، والمنذر بن الزبير بن العوام ومحمد بن هارون، أخو سهل بن هارون. ومنهم الشاعر البَرْدَخْت، واسمُه - كما لا يخفى عليك - علي بن خالد. وكان قد تعرض بالهجاء لجرير بن عطية، فقال جرير: " منْ هذا الهاجي؟"، قالوا له: " البردخت "، قال: " وما البردخت ؟"، قالوا: " هو الفارغ "، فقال: " ما كنتُ لأشغلَ نفسي بفراغه!"، وعموماً فلائحة الذين قتلتهم البغال طويلة، وما أنا بعديم التروي، حتى أفكر في إضافة اسمي إليها.
أما ركوب البغال، في حد ذاته، فأمر مرغوب فيه. وهذا مروان بن أبي حفصة، وهو شاعر نحبه و نعجب بشعره، كان يحب ركوبَ هذه الدواب.
وقد هجاه الجمّاز يوما بحبه للبغال وببرودة شعره فقال:
اجتمعَ الناسُ و صاحوا: الحريقْ = بباب عثمان و سُوقِ الرقيقْ
فجاء مروان على بغلة = و أنشد الشعرَ فأطْفا الحريقْ
ولعلك ترى معي أن الجماز قد بالغ كثيرا في هذا الهجاء، وأن شعر مروان ليس بالشعر الذي يُقرأ على الحريق فيطفئه من شدة برده!
ولكن لنعد إلى مسألة الهروب من سجن ابن علي، على ظهر بغلة. فقد اتفق العارفون والمجربون على أن ركوب البغلة أفضل من ركوب البغل، لأنها أعدل وسيرها أقصد، كما يقول القدماء. وقد قال أحد الشعراء:
عليك بالبغلة دون البغلِ = فإنها جامعةٌ للشملِ
مرْكب قاضٍ و إمامِ عدْلِ = و تاجرٍ و سيد و كهل
وقال آخر :
إذا حملتُ بزّتي على عدَسْ
على الّتي بين الحمار و الفرسْ
فما أبالي من غزا و منْ جلسْ
وقال عمر بن أبي ربيعة في امرأة على ظهر بغلة:
هي الشمسُ تَسري بها بغلةٌ = و ما خلْتُ شمساً بليلْ تَسيرْ
وما أتمناه - يا سي أحمد - هو أن تكون البغلة التي أهرب عليها من الكثيب بغلة زرزورية بحق، كما وعدتَني، وألا تكون كبغلة أبي دلامة، التي هجاها بقصيدة لامية لا مثيل لها في التراث العربي. فمما جاء في وصفه لعيوبها:
... و منْ فَرْط الحران و منْ جماحٍ = و من ضعف الأسافل و الأعالي
و من فتْقٍ بها في البطن ضخمٍ = و من عُقّالها و منِ انفتال
و منْ عقْد اللسان و منْ بياضٍ = بناظرها و منْ حَلّ الحبالِ
تقطّع جلْدُها جرَباً و حَكّاً = إذا هُزلتْ و في غير الهُزالِ
و تلقي سرجها أبدا شماساً = و تَسقط في الوحول و في الرمال
إذا استَعْجَلْتَها عثرتْ و بالتْ = و قامت ساعةً عند المبال
وهي قصيدة طويلة وطريفة كما تعلم. ومع ذلك فإن البغلة تبقى أفضل من البغل مهما كان. فالبغل، كما يؤكد شيخنا الجاحظ، كثير التلون. وفي ذلك يقول الشاعر (البصري ) ابن حازم الباهلي:
ما لي رأيتك لا تدوم على المودة للرجالِ = خُلقٌ جديد كلّ يوم مثل أخلاق البغالِ
ووصف الشاعر دعبل الخزاعي بغلا رديئا فقال:
حُملتُ على أعرجٍ حارنٍ = فلا للركوب و لا للثمنْ
وقال أحدهم في ذمّ البغل: " عظيم الغرمول ،كبير الرأس، عقيم الصلب، قبيح الصوت، بطيء الحُضْر، مهياف إلى الماء، متلون الأخلاق كثير العلل، فاجر البائع، قتّال لراكبه، شديد العداوة لرائضه، حَرون عند الحاجة..."
فابعث لأخيك بغلة زرزورية شهباء مثل تلك التي ذكرها عمر بن أبي ربيعة حين خاطبَ عائشة بنت طلحة بقوله:
يا ربة البغلة الشهباء هلْ لكمُ = في عاشق دنف لا ترهقي حرجا
واعلم أني في الانتظار.
والسلام عليك ورحمة الله.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى