فاروق أوهان - إيلونا إيسلن.. قصة قصيرة

تعرج ماريا إيلونا Maria Eeszlen Elona في تيه بشوارع مدينة بودابست هرباً من كثرة ما سمعت من البيت القـائل :
: إيلونا ربةّ البيت, تصب الخل في الزيت (1) .
بيت الشعر الذي حرّفه، ويردده شريكها، ورفيق سريرها، جبرائيل منصور فقد صار هذا البيت الشعري مثل كابوس تطرق مفرداته على جمجمة ماريا، وكأنها مطارق حداد مبتدئ لا تركز في موقع واحد على السندان، فتأتي الطرقات بأصوات خاوية، ولكنها مزمجرة كالرعد غير مصحوب بمطر .
ورغم عدم فهم إيلونا, لا لمعنى البيت ولا لموقعه في الشعر العربي, ولا موقعه في القصيدة, والحادثة, وإنما أيضا لعدم فهمها لبلاغة مفردات اللغة العربية بأي شكل مـن الأشكال, فقد جعل كل ذلك ماريا تحمل آلام آفة العرج على نفسها لتهرب كل يوم متجولة في شوارع، وأزقة بوداشت قبل أن تعود إلى البيت الذي احتله معها الشريك منذ سنتين، فيما عدا يومي عطلة نهاية الأسبوع اللذين تستغلهما في رسم جبرائيل، بشرط أن يكون صامتاً طوال الوقت . ورغم أن إيلونا تقضي ثمان ساعات في العمل كممرضة في مستشفى منطقة فيريهاج FERIHEGY – التي تستقر فيه ببيتها، لكنها تفضل قضاء أكثر من ساعتين إضافيتين ونيّف خارج البيت بحجة الذهاب للتسوق . وكم حسدت إيلونا زميلاتها اللواتي لم يصدّقن الخروج في الخامسة عصراً لكي يحشرنا أنفسهن في بيوتهن مهما صغرت، لإراحت أقدامهن من الوقوف، بل إن بعضهن يهربن قبل الموعد بنصف ساعة، أو أكثر، ولا يبالين بإغراءات الخروج إلى ناد، أو مطعم، لأن كل تلك الأمور تؤجل لمناسبة خاصة، أو إلى عطلة نهاية الأسبوع . أما إيلونا العرجاء فإنها ما أن تخرج من المستشفى حتى تفتح كيس التسوّق الشمعي، وتتجه إلى سوق لهال “LEHEL BAZAR” للخضار في منطقة لاهالتيير بدلاً من منطقة الدياكتيير DEAKTER القريبة من بيتها في شارع كاترينا قرب محطة مترو ASZTORIAأستوريا، وهي تفكرّ في المواد الغذائية, وتحمل له المسواق اليومي لتغذيه كثور – BIKA استرالي للتهجين تعرف كيف تقويه, وتنتقـي له المطيبات, ففي كل يوم تذهب إلى السوق تفكـر بـالمواد الغذائيـة الغنية بالبروتينات, والفيتامينات, لتعد مثلا حساء السـمك . أو سـلطة الفواكه, أو أكلة الككلاج KOLAGH التي يعرفها العـالم كلـه عـن “المجـر” ولا تسمع منه وهو يلتهم غذاءه, وقد برك على الطاولة كالثور إلا كلمات :
جبرائيل : شكراً , طيب, لذيذ, لذيذ يا إيلونا … إيلونا ربـة
البيـت تعجـن الطحين بالزيت .. (1)
(1) وهو تحريف للبيت الشعري القائل : رباب ربة البيت تصب الخل في
الزيت، ابتكره بطل القصة جبرائيل للتغزل بحبوبته ماريا على طريقته .
لا تفهمها إيلونا رغم تكرارها يوميا, جوابا على جملة “يو إت فـاجوت – JOETVAGYOT” .. شهية طيبة بالهنغارية, فتخرج تلك الكلمات من فمه مع ضجـيج اصطكـاك الملعقة بالأسنان, والحساء المشفوط بالشفاه, وسرعة الأنفاس المنطلقـة من أسفل معدته ببطن كالبطيخة, دلالة على شبع, لنعمة حديثـة قـد حـلّت على صاحبها, بعد جوع من قحط .. وعندما ينتهي جبرائيل يبرك على الأرض مـن جـديد ليجتر الطعام, والكلام, وهو يقوم بتنظيف أسنانه بالخيط كما أوصوه, ولكن بطريقة مقززة تنفر حتى الجرذان منه ..
كل هذا العناء تتحمله إيلونا بمحبة، ولا تتحمل تكرار جملة لا تفهمها, صارت كالطنين المزعج في ذاكرتها, حتى ولـو تحاملت على نفسها لتضيفها إلى مشكلة جهل ثورها للغة بلادها، لذلك تتعمّد ماريا العرجاء الخروج من الدار فجراً قبل الفطور وهي تتضّور من الجوع .
وينمو الجوع في داخل إيلونا كدافع غريزي، رغم أنها أعدت للثور فطوره، وحرصت على عدم إيقاظه، فشخيره أرحم من جملة : ماريا والزيت والخل، فكل همها أن ترضي الذكر الذي أحبته دون لغة تتفاهم معه ..
أما إيلونا العرجاء بالنسبة للثور فهي المرأة الثانية في حياته بعد الزوجة التي أورثته ابنهما المعاق . هذه العلّة التي ساعدت الثور على الهروب بحجة إعاقة ابنه عبر الحدود لينجو من الطاغية الذي يلاحق الأبرياء، ويصطادهم من خلال عيونه في كل حارة، وزقاق .
ولقصة الهروب دياجاتها التي رتبها الثور بعنوان تحمل اسم ابنه جهاد, ويبدأها بالقول: سوف أروي لكم عملية جهاد رقم كذا ؟ ويستغرب المنصت من عنوان الرواية، أو لمن يجالس الثور للمرّة الأولى، إذ يبدو أن الثور قد أرشف في مخيلته كل رواية للحوادث التي مرّ به تحت تسمية، وعنوان، ورقم . مثل عملية الجهاد مع اليو إن (UN) . وعملية الجهاد مع مدرسي الثانوية وهران، وهكذا .
أما عملية جهاد ابنه نفسه فتبدأ من الحكاية التي ألفها، وجعل يرويها على نفسه مئات المرّات قبل أن يجتاز الحدود لكي يقنـع بها شرطة الحدود إذا ما تعرّض لاستجواب, لكن الأمور مرّت بسلام . غير أن الحكاية دارت معه، وتعمقت بتطورها التدريجي في ذاكرته بقناعة تامة . وتبدأ الحكاية مع بدء تفكيره بالهرب من الوطن ولم يكن لدى جبرائيل وقتها حجة للسفر خارج الوطن، فانتبه لعلة ابنه، ولما كان معاقاً، وليس من دار للمعاقين تستقبل من بحالة ابنه، لعدم إتقانه أي شيء بما فيها ذهابه إلى بيت الأدب، فإن أي ملجأ لم يقبله، ورفضت قضيته في كل الملاجئ، وكافة الدوائر المعنية بالمعاقين، ولم تصادق على التماسات والده. فكان على جبرائيل أن يجد مخرجاً لسفره، خصوصاً لو تعهد بالصرف على ابنه من جيبه الخاص . وهكذا بدأ المشوار بتصديق الشهادات، وجمع الوثائق الثبوتية لتقديمها لدائرة السفر، والجنسية والهجرة .
وما أن وصل جبرائيل وابنه أنقرة واستقر لبعض الوقت حتى اكتشف أنه ضائع، وعليه إن أراد البقاء لفترة طويلة في الغربة التي اختارها، أن يجد عملاً، فعرف أن الجزائر بحاجة إلى مدرسين، وبمراجعته للسفارة الجزائرية في أنقرة عرف أن ما فعله من مغامرات للخروج مع ابنه لم يكن له داعي لأن وزارة التربية الجزائرية تتعاقد مع المدرسين وهم في بلادهم، ولم يكن بحاجة إلى كل هذا الجهد في البحث، والسفر، واختلاق حجة مرض ابنه لكي يسافر، وعاد جبرائيل من جديد لكي يتوسط، ويبرر سبب وجوده في أنقرة حتى عطفت اللجنة عليه، وقبلته بشكل استثنائي نظراً لظروف ابنه، وبهذا حصل على عقد عمل، نقله إلى الجزائر .
إن إيلونا لا تعرف لمصيرها مع ثورها قراراً, فهذا المغترب غير مستقر الـرأي، والوضع, لذلك يرفض حتى تعلم لغة بلدها, وقومها, بحجة أن هذا البلد ليس إلا محطة مؤقتة، لهذا يحمل كل أوراقه الثبوتية في جيوب مخاطة داخل ملابسه. ومع فإن ثور إيلونا جامد الـرأس، همه فقط شراء حاجيات لا لزوم لها من سوق “البولون”, للبضائع المهرّبة والمستعملة، لا لشيء إلا لكي يشعر بأنه يؤدي عمل ما كالتسوّق للبيت, كما كان يفعل في داره أيام راحة البال والعمل المتواصل في الوطن, قبل رحلة الاغتراب ..
وتلعن إيلونا العرجاء أحد أيام عطلة الأسبوع الذي أخذته فيه إلى ذلك السوق لتعرّفه عليه، لأنها ضجرت من عدم تحرّكه من البيت، فثورها يخاف من التورط في دخول الأزقة لأنه يخاف أن يتيه، فيصادف شبان البنغس “PANCKES”، ليسرقوا أوراقه الثبوتية، كما فعلوا بجليل، عندما عمدوا إلى تخديره بمادة راشة، فلما لم يجدوا ما لديه، سلبوا أوراقه، ومزقوها عندما اكتشفوا أنها لدولة مكروه رئيسها لحكامهم، وقد نجا جليل بأعجوبة، ولكن ما يزال يعاني من تأثير المادة المخدرة . إن جبرائيل لا يهمه أن يموت، ولكن ما يعانيه، أن يموت بلا اسم، ولا شاهد، فهؤلاء اللصوص سوف يمزقون كل أوراقه، ويرموها، وعندها سوف يوضع في ثلاجة المستشفى، ولا أحد يتعرف عليه، وبعدها ربما تقطع أوصاله، وتباع، أو يدفن في مقبرة المفقودين . لهذا كان يحار في فصل أوراقه الثبوتية عن بعضها، ويعتني بإخفائها بين طيات الثياب، أما اسمه ولقبه، وجنسيته فعليه في كل مرة أن يبتكر لنفسه مكان يبرر الاسم فيه، فمرة في أيقونة يعلقها في رقبته، ومرة في حزام بنطلونه، ومرة أخرى في جواربه، ولكنه في كل مرة يكتشف أن هذه الأمكنة كلها سوف تنفصل عنه لو جرده اللصوص منها، وعليه إذن ابتكار مكان داخل جسده، وجلده، وفكرّ في أن يضعها تحت السن الاصطناعي، ولكن وجود أي قطعة في الفم مهما صغر حجمها، يحيل حياته إلى جحيم، لأنها تبدو بكبر الجبال، علاوة على العذاب في نزعها كل مرة يشرب فيها الماء، أو يأكل لكي لا تبتل، لهذا غلفها بقطعة نايلون، مما زاد عذابه من جديد . وأهم ما توصل إليه في النهاية أن يعمد إلى زرع الاسم تحت الجلد، ولكنه تمنى أن يمررها في شريانه لكي تستقر في البطين الأيمن، ولا يدري لماذا الأيمن بالذات من قلبه، ومع هذا كان يتراجع في اللحظة الأخيرة، عندما يجابهه سؤال هام، وهو : كيف سيجد المحققون اسمه لو عمد إلى إخفائه تحت الجلد، أو في الدم .. ؟ وما عليه الآن سوى التفكير بنقش الاسم، والجنسية كوشم على جلده، مهما تحمّل من عذاب، وتقزز من المنظر . وفكر أكثر بشيء في أن الرسامين في ساحة فريشمارتي – VOROS MARTY TER ربما يعرفون أحد المهرة في فن النقش على الجلد . إذا لم يتقونها هم أنفسهم، وهكذا مارس جبرائيل هواية التفرّح على الرسامين من غير أن يجرأ على محاورة أحدهم، لعجزه عن استخدام مفردات اللغة المجرية، وخجله من استخدام أية لغة أخرى .. كذلك استحى من التوسط بأي من أصدقائه للمساعدة في الترجمة خشية إعطائهم فكرة مخالفة بكونه سينحدر إلى البوهمية، وهو منها، ومن أصحابها براء . ولكن بعضاً من هواجس جبرائيل هذه تلاشت بعدما تعرّف على إيلونا واستقر في بيتها .
ويقوم جبرائيل الذي نسيّ حتى كنيته مع إيلونا بعد أن أطلقت عليه ماريا كنية ثور بالمجرية “.. .. .. ..” ليصف لها كيف دخل السوق، وسلم على أصدقائه واصفاً إياهم الواحد تلو الآخر، وماذا كان يفعل وقتها، ومَن كان يتعامل مع مَن، وعلى أية بضاعة كانوا يفاصلون، وإيلونا لا تفهم من كل عباراته غير أسماء الأشخاص، ووسائل الإيضاح التي هي ما اشتراه من كل هذه الأسماء أو بعضها فيقول : جبرائيل : اليوم اشتريت هذه القمصلة الجلدية من نوع الشموا
التركي وهذا الفراء الروسي، تلبسه السيدات
الأرستقراطيات .. وسوف تلبسينه عندما نغادر إلى
أمريكا حيث بيت خالي عوديش ..
ولكنه لا يستطيع إكمال الفقرة، لعدم صدقه،فكل رسائل خاله تحثه على تسهيل هجرته بشرط أن يتزوج واحدة من بناته العانسات . فماذا يفعل بإيلونا الحبيبة إذن بعد أن صارت قطعة من فؤاده . الأفضل أن يذهب بإيلونته إلى السويد، أو أية دولة إسكندنافية فيها برد لكي ترتدي هذا الفرو الذي اشتراه لها فقط . جبرائيل : وهذا المصباح نحتاجه في سفراتنا إلى الريف، وفي
الليل نضع الفانوس في الخيمة لكي نسهر ثم ننام .
وهذه الكواة سفرية هي الأخرى لا تحتاج لأكثر من جمرة
نار لكي تكون فاعلة .
وهذه الحقيبة النسائية إنها رخيصة جداً، هي لك،، لا لا،
إنك لا تخرجين في سهرات .
وهذه عربة أطفال سوف نستخدمها عندما يلد طفلنا .
وهذا محقان لو استعصى على الطفل الخروج .
وهذه كاميرا سوف نصوره فيها .
وهذا .. وهذه .. وتلك .. و،و .. , .. وو ..
حتى تقع إيلونا في دوّامة من كثرة حركة رقبتها، وعينيها، وإلحاح جبرائيل في اجتذاب انتباهها، حتى لو اضطر للفت نظرها بتحريك رأسها بيده . لهذا كله قررت إيلونا منذ اليوم ألا تعود إلى البيت باكراً مهما كلفها الأمر، ولكنها لا تعرف أين تقضي وقتها بعد دوامها الطويل، وتصمت، لكن عقلها يعمل على أن يتوفر لديها مكان في كل يوم . أما الحجج فلا شأن لها بما ستخلقه لثورها ما دامت ستأتي مباشرة إلى المطبخ لتعد له الطعام، ويتعللان في أمسيتهما . ثم يناما . ولم تكن إيلونا حتى الرابعة والنصف عصراً من اليوم التالي ما المخطط الذي ستسير عليه، ولكنها كانت مشوشة البال، هل ستعود لتسمع ذات السيناريو من ثورها مجدداً ؟
وفي الخامسة عندما حيّت زميلاتها بكلمة : فيزونلاتاشرا – VISZONT LATASRA وقادتها أقدامها لكي تتسوق، لم تدرِ في طريق عودتها إيلونا، وهي قريبة من البيت، كيف ركبت عربة حافلة الفيلاموش – VILLAMOS الأصفر رقم 14 الذي تنتهي محطته، وتبتدء عند محطة ساحة الدياكتير القريبة من بيتها، ورغم أنها كانت منهكة وهي تصعد سلالم المترو الذي أقلها من لهلال تيير، حتى دياكتيير عائدة إلى البيت، لكنها ما أن وضعت عجيزتها على الكرسي الخشبي في الفيلاموش، وكيسها المشمع المثقل بالخضار، واللحوم والصمون الهنغاري حتى أحست براحة كبيرة، فملصت كعبي حذائها عن قدميها لكي تتنفسان بعد مددتهما . وسرعان ما سرحت في خيالاتها، حتى انتبهت أن كل الركاب قد نزلوا في محطة الموسكوفاتيير – MOSZKVA TERالوسطية في جانب بودا، ولم تعرف فيما سرحت، وكيف مضى الوقت، وهل ستكون هذه نهاية المطاف لتعود من مبكراً إلى البيت، ولم يمضِ على ركوبها الحافلة أكثر من عشرين دقيقة، لا ليس لها طاقة بعد هذا التعب أن تعود لترى ثورها بكامل نشاطه، وقد كوم البضائع أمامه، لكي ليصنفها أمامها، ويرفعها فوق الخزائن، او يكومها في كراتين بزاوية الغرفة الكبيرة التي يستخدمانها لاستقبال الضيوف، والنوم، والأكل .
هاهي قدما إيلونا تقوداها إلى حافلة فيلاموش رقم 56 الأصفر المتجهة إلى ضواحي بودا – BUDA البعيدة، وفكرت وهي ترتقي درج الحافلة لو أنها تصعد منحدر قلعة بودابست – PEST الشهيرة، لكن ماذا تفعل في القلعة هذا الوقت، وهي تحمل كيسها الثقيل إن الفار – VAR “الفاء بثلاث نقاط”، وليس كما يلفظها ثورها بالفاء . لا يمكن المجيء إليها إلا أيام عطل الأسبوع للتفرج على السياح . وزيارات كاثدرائية القديس ماثيو، لحضور عرس نمساوي، أو كونسرت، أو كورال، ومراقبة الدانوب – DUNA الذي يشطر بودا عن بشت . بجسوره المتعددة .
لكن عجيزة إيلونا ارتاحت من جديد على مقعد مشابه لمقعد الفيلاموش الأول، بينما عجز كيسها المشمع عن الاستقرار طويلاً على المقعد المقابل لأن أحد الشيوخ حدّج إيلونا بنظرة شرانية، فأزاحت الكيس جانباً لتسقطه تحت كرسيها، فركاب هذا الخط غالبهم من أهالي ضواحي بودا الجبلية، وهم ريفيون بنظر أهالي بشت وخصوصاً الذين يسكنون في نهاية الخط، فهؤلاء إذا لم يجلسوا منذ البداية فسوف يعانون من الوقوف متمايلين ذات اليمين، وذات الشمال، حسب التواء سكة الفيلاموش الحديدية في الطريق الجبلية، ففي الزحام تتماوج فيها أجساد البشر مثلما تتماوج أشلاء المواشي عند خروجها معلقة من المسلخ . غير أن إيلونا سعدت على كل حال لأن هذا الخط سيؤخرها في الرجوع، وفي حساباتها أنها لن تتأخر عن الثامنة، أما الآن فلتترك المجال لنفسها لتتمتع بمنظر الغروب عندما يخترق الفيلاموش أشجار الغابات، والشمس تصله من خلالها، وتمنت لو كان الفصل خريف لجاءت أيام العطل مع ثورها، وقد حمّلته عدة الرسم، لكي يستمتعان بالمناظر، وتمارس هي هوايتها . ورثت لحالها بتأمل، عندما علا استفسار مباغت في ذهنها، وهو : هل ستبقى إلى الخريف تتجول أيام الأسبوع ؟ ولامت نفسها من جديد فلربما يعتدل حال ثورها، أو أن ترحل معه، أو .. و .. أو .. وو .. أو .. أو .
وتاهت في الأو، واللو .. حتى تذكرت مع لو التمني أول مرّة انتبهت فيها إلى ثورها، وكانت وقتها قد خرجت يوم السبت على غير عادتها إلى مقهى الفيرشمارتي الذي لا يجلس فيه غير السياح الأجانب تاركة مكانها الذي حجزته بين الرسامين لتمارس هوايتها في يومي السبت والأحد، جالسة وراء حامل الرسم، تفرز مواهبها في هذه الساحة التي يكثر فيها الرسامون، والسياح الأجانب . ولا تعاني إيلونا من التهافت على أي واحد يقف أمامها لترسمه كما يفعل زملائها طوال الأسبوع، لأنهم يعيشون من مهنة الرسم، بينما تمارسها هي كهواية لا غير، فتجلس هنا مهوسة بتداعياتها، ولطالما لا تجذبها الوجوه، أو المباني، أو ما تلتقطه من مشاهد وتشكيلات تراها في عمق شارع فاتسي أوتسا – VACI UTCA الذي يفضي إلى ساحة الفيرشمارتي، فإن نظرها البعيد يجعلها ترى القادمين من كلية الآداب “.. .ألأجتم . ..”، أو ساحة الجمهورية، “فلسفادولاج تيير” وإذا اضطرت للتعمق تستخدم إيلونا منظار المسرح المقرّب . غير أنها عندما تمل، وقد خططت بعضاً من الاسكتشات، تقوم لتضيف مما تتخيله من رسومها، بل وتعتني بتفاصيله بدقة متناهية، وما وجودها بين هؤلاء إلا للتعرف على أخر ما توصلته الهواية من تطور في التكنيك، إضافة إلى أن وجودها هنا هو مجال للتعرف بالناس، والاحتكاك بالآخرين، والتفرج، على من يتفرج بعيداً عن الجو الخانق في بيتها السفلي، وجو عملها المزدحم بروائح اليود، والبنج، والميكروكروم، ومنظر الدماء في المستشفى . بل إن ما يتثيرها، ويجذبها كثيراً خارج سجنها، هو مراقبة الناس الذين يتفرجون على الآخرين .. وتلتقط ردود أفعالهم، وتعمد لوضع إشارات، وتخطيطات سريعة لهذه الحالات .. وكم تمنت لو أنها أديبة لكانت سجلت هذه اللحظات باعتناء، ولكي تهرب من التداعيات، تقوم إيلونا بتخطيط لمنظر أمامها بقلم الفحم، وهذه العملية أكثر ما تثير المتفرج عن غيرها لأنه بذلك يمتلك حرية المقارنة بين الأصل والرسم، لأنه المتفرج يصعب عليه الوقوف وجهاً لوجه مع الموديل الآدمي ليتفحصه بتلك الحرية، والفضولية، وإذا ما اجتذبت إيلونا جليس فإنها تكون في منتهى السعادة، لأن ما يهمها هو أن تمارس التمرين على ما تعلمته . ولو لا خوفها من احتجاج الرسامين في الصف لما استلمت نقودها من السياح، أو على الأقل لخفضت التسعيرة، أو بادلته بليلة زرقاء .
أما وقد ملّت هذا اليوم من الجلوس تحت المظلة، والمطر لا ينقطع عن الانهمار، وليس من أمل في سائح .. أو إشعاع لإشعال فتيلة الإبداع، فقد عرجت إيلونا بأدواتها لتحتمي بدفء مقهى فيرشمارتي المسمى على اسم الساحة، والتمثال العائدين لاسم الشاعر المجري الكبير ، لهذا فإن تسعيرة كافة الطلبات أغلى عن غيره من المقاهي في المنطقة .
هاهي إيلونا تنشغل من جديد في مراقبة غرباء المقهى لعلها تستلهم من سحناتهم ما يوحي لها بفكرة لوحة جديدة . بل إن ما جذبها هو سلوك ذلك الغريب الذي لا يوحي بأنه سائح عابر، وإنما بكونه زائر قد يطول وقت مكوثه وذلك ما استوضحته من علاقته بزملائه الذي يبدو أنهم يزورونه في هذا المكان بالذات، وكأنه قد اتخذ من المقهى، والمكان عنواناً دائماً، وثابتاً، فيأتي بعضهم إلى المقهى، ويذهبون، فمنهم من يحمل كتب، وآخر يحمل زهور، وثالث يحمل سلة تسوق، وتتبين إيلونا مما يحملونه، ما مهنتهم، وما يرغبونه، وربما إلى أين يذهبون . أما ما يغلف تلك اللقاءات السريعة التي لا تطول ربما حتى لتناول فنجان قهوة، فهو ذلك الود، والمحبة والحميمية المتبادلة . ولا تدري إيلونا لما ارتاحت لسلوك الغريب مع زملائه عندما يلاقوه، فقد عكس وقتها قلق، وخجل مما يدور حوله، وكأنه يخشى الوحدة، ولا يستطيع طلب أي شيء إلا بعدما يحضر أحدهم، حتى نظراته كانت كسيرة، فأحست إيلونا أنه منغلق على نفسه، وكأنه يعيش في دائرة ضيقة من الانتباه، وما أن يأتيه أحد من معارفه حتى تنشرح أساريره، ويتغير كل ما فيه، وكأنه إنسان آخر .
وطاب لإيلونا أن تسرق في يوم الاثنين ساعة زمنية من الدوام لتأتي لعلها تراه في نفس الركن . وقد تفاجأ كلاهما عندما دخلت، وأحست أنه انتبه إليها، فجلست تقرأ في مجلة، وراهنت على ما لديها من خردة لتأكل تسكرادة – CUKRASZDA “حلوة” هنغارية دافئة بالزبيب، استغلت وقت أكلها ببطئ في استراق النظر إلى ذلك الغريب، وكأنها عين فاحصة لمخرج سينمائي سيكتشف بطل فلمه الجديد، وأسفت على انتهاء قطعة الحلوة، فاضطرت إلى القيام، وترك المكان، فتصادف خروجها مع وصول أحد أصدقائه . وعادت إلى المستشفى كالمراهقة، وقد احمرت وجنتاها، لأن ذلك الغريب استاء لخروجها، ولربما لدخول صديقه أيضاً . وغابت إيلونا يومين ثم جاءت يوم الخميس فما أن رآها حتى ارتبك، وقام، ثم جلس، ثم التفت حوله، ولم تكن إيلونا متأكدة من ردود أفعاله، فذهبت إلى نفس مكانها، ولكن المكان كان مشغولاً، فقد جلست فيه نمساويتان جاءتا ربما للتسوق من بودابست الرخيصة قياساً إلى فيينا، أو لحضور حفل زفاف تقليدي لنمساوي يحلم بالإمبراطورية الغاربة .
وانقطعت سلسلة تداعيات إيلونا لأنها أحست بأن أحدهم لكزها لتقوم فتنزل في المحطة الأخيرة، وراعها منظر التلال الغربية لبودا، ومنظر الكنيسة المتهدمة على أحد التلال . ونهضت لتنزل كي تبدل العربة، وقد نسيت للحظة كيس الخضار، وما أن وضعت رجلها السليمة على حافة الدرج حتى صرخت وكأنها فقدت رضيعها، واستدارت لتعود أدراجها، ولحسن حظها أنها كانت الراكبة الأخيرة في الحافلة، وإلا لحدث صخب واحتجاج من الركاب العجائز من انكفائها المفاجئ على الصف النازل . وخافت مرّة ثانية من أن يتحرك سائق الحافلة بها ليبعدها عن مكان تبديل العربة، وعليها أن تقيس المسافة بعرجتها لتعود حاملة الكيس الذي صار أثقل من قبل، ربما لأنها استرخت أكثر من اللازم، وما أن حملت الكيس، ونزلت سحبت أنفاس نقية هبت عليها من التلال المزروعة، وقالت في نفسها لهذا لا ينتقل هؤلاء إلى وسط العاصمة، وخصوصاً بشت المشبعة بغازات الحافلات، وبخاصة ما تنفذه سيارة التربوت الكريهة .
وتمنت إيلونا أن تمهلها الحافلة العائدة دقائق لكي تستنشق هواء الريف العليل، ولكن حتى ولو تأخرت الحافلة للوقت الذي تمنته فإنها لن تستمتع بالوقوف لأن بالها سوف ينشغل بين باب الحافلة، ووقت صعود السائق في قمرية قيادة الفيلاموش، وقد خرج من كابينة السواقين، رامياً عقب سيجارته الذي يتحيف حتى على آخر نفس فيها .
ولكن لا مفرّ من الاستقرار على المقعد، وربما يكون البديل في فتح زجاج النافذة قليلا قبل التحرّك . فسحبت إيلونا نصف زجاج النافذة القريبة من المقعد لتفتحها، فهب عليها النسيم العليل ليجعل إيلونا تشعر بارتياح، والنشوة، ومن ثم الخدر فالذهاب بعيداً، ولكن إلى طفولتها هذه المرّة فقد استذكرت إيلونا ماريا اليوم الذي فازت فيه بأحسن لوحة رسمتها بين زملائها، وشدها ما لاقته من عدم انتباه صفها، بل أعلن زملائها تبرمهم، وجفائهم لها، وللمدرسة على هذا الفوز، والإطراء، لاعتقادهم بأن الفوز للحسناوات، وليس للعرجاء إيلونا، ولم يقابلوها حتى ولو بابتسامة ما، غير أن ما تلقته من مدرستها أكد بروزها ونجاحها، مما زاد من شماتة زميلاتها لها، فهربت إيلونا مسرعة إلى البيت، ولم تكن أمها قد رجعت من المعمل، على غير عادتها .. فوجدت زوج أمها الذي لا يفارق البيت، وقد انتفخ كرشه من قناني البيرة الرديئة، والبالينكه – PALINKA الرخيصة التي يعبها بالتناوب منذ الصباح الباكر، ولا يتمزمز إلا بشرائح شحم الخنزير الرخيصة الثمن . وكم كرهت إيلونا رائحة البيرة، والعرق المسكرتين اللتين تصدران عن زوج أمها، وكذلك هندامه، ولحيته التي تثير اشمئزاز إيلونا المسكينة .
وما أن احتوتها غرفتها الصغيرة، وبدأت تخلع زي المدرسة حتى فوجئت بتلصص عيون زوج أمها التي تلتهمها . فخافت، ولم يكن لديها وقت للتراجع، فقد رجع زوج أمها إلى عادته القديمة، في الاقتراب منها، وليس على إيلونا وقد أقفلت الباب بالمفتاح إلا أن تسرع بالتبديل، وتخرج لحظة انشغاله، لتنتظر أمها أمام باب الشقة، أو أمام البناية في الحديقة القريبة . وقبل أن ترتدي ملابس الرياضة المريحة كان زوج أمها قد اخترق الباب مستخدماً النسخة الثانية من المفتاح، وسقط فوق إيلونا بحمى أنفاسه المحمومة .. مما جعلها تصرخ مستغيثة بالجيران من نافذتها التي تركتها أمها مفتوحة للتهوية . وما هي إلا دقائق حتى دفع الجيران باب الشقة، وكان أحدهم قد اتصل بالشرطة . فأخذوه قبل مجيء الأم . ومن يومها لم تر إيلونا الزوج، فقد أجرت أمها مراسيم الطلاق، خوفاً على ابنتها إيلونا ماريا، وبشهادة الجيران، وسوابق الزوج التي مارسها مع الفتاة .
وتدخل إيلونا العرجاء المطبخ مباشرة بعد أن تحيي ثورها هاتفة، بكلمة مساء الخير يا عزيزي بالمجرية: يواشتيت كيفانوك – JOESTET KIVANOK، لأنها تعرف أنه سوف يجيبها بالجملة التي عانت كثيراً في تعليمه إياها، فيغمغم باختصار : يو اشتت . وسرعان ما يعود لشريط الأغاني التي استهلك وغيره، منذ أن حملهم في مشوار غربته الطويل، فيعلو صوت فريد الأطرش بكلمات أغنية سافر مع السلامة، وترجع لي بالسلامة . بينما تدندن إيلونا باللحن الذي اعتادته في المطبخ، وقد فرغت من وضع الخضراوات في مغطس غسيل الخضراوات، وقامت لتثرم البصل، وتعد الحساء، والسلطة قبل كل شيء، فقد سبق لها أن وضعت لحم البقر “المارها – MARHA ” على النار . وتعمل إيلونا الآن كأنها عشر نساء . خشية أن يأتي ثورها ليطلب منها المساعدة فيفسد عليها العمل بتفحص كل مادة، والسؤال عن أسعارها بالكيلو، والحبة، والوحدة، والدرزينة، والسلة . وهي متمالكة لقواها، ومتصالبة على أن لا تخدش مشاعره أبداً مهما أحست حتى بتثاقل الناس من لجاجته، وعدم استكانته، واعتبار الآخرين ليس أكثر من وسائل خاصة لأجوبته، أو تلاميذ يدرسهم مادة الشعر . لهذا تحاول أن تطيل وقت مكوثها في المطبخ لأكبر وقت، ولا تنزعج من كثرة التقليب الطبخة حتى تنضج، وإلا فما أن تدخل الصالة لترتاح، أو لتأخذ شيء منه، حتى يثب الثور عليها لكي يعرض لها سيرته اليومية، وأهمها البضائع التي اشتراها من سوق البولون، الذي غدا عالمه، ولا يعرف غيره في عالم بودابشت الرحب . كان ثورها يدخل عليها المطبخ الضيق في بعض المرات، ولما لم يجد انتباهاً خاصاً بما عرضه على إيلونا زيتونة كما يحلو له أن يسميها أحيانا، فقد أبطل عادة مقاطعتها عن عملها في المطبخ حفاظاً على الود والمحبة العميقين بينهما .
وما أن يجهز الطعام حتى يكون ثور إيلونا قد جهز المائدة بالطريقة التي تريدها إيلونته الزيتونية . وهو بانتظار العشاء، والغذاء، ومشتاق إلى الحساء، والخواصر . وتتناوب على مائدة العشاء عبارات، وكلمات مجرية مبتسرة، فبعد أن تصب إيلونا لثورها الحساء حتى تقدم له الكاسة، تقول له شهية طيبة “يو إت فاجوت – YOETVAGYOT بفاء ثلاثية النقاط” .. وما أن يحتسي الرشفة الأولى حتى يقول لها شهي، طيب بالمجرية فينوم، فتضحك ماريا وقد تذكرت مهمتها الشاقة عندما علمته التميز بين طيب، وحسن بالمجرية إذ أنه كان يقول كلمة حسن “سيب – SZEP ” لاستحسان الأكل التي تقال لكل شيء باستثناء الأكل، بينما تكون الكلمة المناسبة هي فينوم – FINOM . وكم أجهدت نفسها في تعليمه الفرق بين كلمة عفوا “شانيوش – SAJNOS “، وكلمة معذرة “بوجانوت – BUCSANOT بجيم ثلاثية النقاط” فلكل منها استعماله ومناسبته . ويعلو صوت ثور ماريا فجأة ليقول لها كلمة ماذا هناك، أو شكو ماكو “هوج فوج – HOGY VOGY ” فلا ترد عليه لأن سؤاله هذا ليس له معنى، وإنما هو فقط نوع من التمرن على الجملة التي تعلّمها أخيراً لا غير .
وبمجرّد انتهاء طقس العشاء، حتى يهرع ثور إيلونا للملمت الأواني بحماس غير معهود، ويتخذ من مغسلة المطبخ ساحة لغنائه، وهو يطقطق بالصحون، والأواني ليغسلها في جلبة،بينما عينه على إيلونا التي دخلت لتستحم، في المغطس المكشوف، ولا يفكر إلا في جسمها اللدن الدافئ الذي سيطويه تحته في الفراش بعد فترة وجيزة . فيهم بنشاط لإنجاز واجباته، ويفتح الفراش، وقد وضع كأسين من نبيد التوكاي TOKAYI الشهير، لكي يدفئ معدة ماريا، ويسكر رأسها الذي انتشى بكأس البالينكا الشعبي، الذي تناولته مع العشاء، ليرخي كلا الكأسين توترات ماريا الزيتونية من عناء الواجبات اليومية، وقد آن الأوان لإراحة الجسد من جهوده، وتقديم منحة لما عملته . وفي انتظارها يرخي جبرائيل الستائر، ويضع مؤشر الراديو على المحطة التي تفضلها، وفيها موسيقى هادئة، وأصوات فتيات ملائكيات، من كورلات بارتوك بيلا، التي تأتي مساءً، التي يسمعها خفيفة في الصباح الباكر عندما تستعد إيلونته الزيتونية وهي تتهيأ للخروج إلى العمل . ولم يبق له غير أن يدخل تحت الفراش ليدفئه ببعض من أنفاسه، وقد عمد لفتح أزرار جاكيت بجامته، ليظهر شعر صدره، وقد تناوم لتشعر إيلونته بأنه لا يريد منها غير هذه الواجبات، وهذه أهم خاصية تعلمها في الفتاة الغربية، ولكن ما أن تصل إيلونا إلى السرير مع رائحة البخار، والصابون، وعطرها الخاص حتى ينسى جبرائيل كل التعليمات، ويتصالب على ذاته، خصوصاً، وإنه تعمد الاستلقاء في منتصف السرير لكي يلامس جسدها شعر صدره . وبتراخي مقصود يفتح جبرائيل عينه التي تعمد أن تكون كسلى نصف مغمضة ليقبل الحبيبة إيلونا الجميلة من وجنتها كأنه يحيها تحية المساء الأخوية، وأحس بأنها أفضل ما وجده في الغربة، لعل وجودها عزاء، ودواء لكل آلامه، وعذاباته . وتسترخي إيلونا بين يديه، وكأنها سحابة مأزومة بالماء لا يعوزها سوى شرارة برق حتى ينزل مطرها . وهكذا يبدأ فصل الحب، ويدعوها لتناول كأسها معه، ويستلقيان لكي يسعدا بالهوى، والغذاء الروحي حتى يغفيا على وسادة واحدة .
وبعد ساعة من إغفاءة إيلونا باسترخاء وراحة، ينهض جبرائيل لكي يعدل وضعيتها، ويغطيها، ويقبلها في جبينها، ويتأمل سماحته، وبراءته، كأنها قديسة تتأمل شفيعها . ويذهب إلى زاوية أعدتها له بضوء خافت ليفتح كتاب الشعر الذي ينوي إكمال فيتأمل وجه إيلونته الزيتونية ويكتب . ولكن الكلمات تعييه لكثرة ما كتب من رسائل استرحام التي ما أن ينتهي من واحدة، ويرسلها، حتى يجهز الأخرى لكي يجيب على الخطاب لو أجابوه . فقضية الجهاد مع اليو إن تتخذ من وقته في كتابة الرسائل الكثير، حتى صارت سردياته الكثيرة، تتفاعل ضمن أحاديثه مع أصدقائه، خصوصاً، وإنه يستهلها بإطلاع الصديق على مسودة الرسالة التي يكتبها الآن، ومنها يتداعى إلى قضية الجهاد مع يو إن التي تبدأ من حكايته عند ركوب قطار طوروس، مروراً بعلاقته بالمدرّس الذي أسكنه في منزله الذي أجره في الجزائر . هذه القصة التي تطورت يوما بعد يوما في مهجره، لأنه كلما حكاها للغرباء, والمغتربين مثله, نمت فيها أجزاء فيها لم يتوقع الذي سمعها في اليوم السابق أنها تتبع للأحداث الأولى، لذلك ينكفئ السامع على نفسه وهو يسمع جبرائيل يجرجر أطراف القصة للمرة الألف, وسامعيه يخجلون من تذكيره بأنهم قد سمعوا الحكاية أكثر من مرة، ومع هذا فإن اعتذارهم لا يعفيهم من التعرض لجر أردان ستراتهم, أو لكمات من يديه, وهو يمثل انفعالاته في معارضة خصومه، عندما يعتريه الحماس، والانفعال .. فتتعجب إيلونا من اختلاف وضع ثورها بين واقعه اليومي الأليف، وبين وضعه لو استفز، وبخاصة لو استرجع واحدة من قضايا جهاده، ولم تستغرب حدسها حينما أطلقت عليه كنية الثور .
ويتذكر جبرائيل بألم ثوراته في وجوه أصدقائه، وبخاصة حميد المخلص، والبالغ الحميمية، عندما نصحه على عدم الإيجابة على الرد السلبي لليو إن .. فغضب هو، وثار, فما دام هو الفاقد لجواز سفره، على الكل أن يتحمله، فكيف بصديق مخلص مثل حميد، لكن جبرائيل ابتئس لطبعه في معاقبة الآخرين من جرّاء همومه, وتحمّيلهم المسـؤولية, ومناقشه لهم بمنطق الأستاذ لتلاميذه, خالقاً جواً من التعامل بين الطالب والمطلوب فالمجيب .. ويتساءل جبرائيل في واحد من أنواع الهموم، وتحت وقع الشحنة التي لا تنتهي من تبادل الرسائل مع جهات عديدة بصدق معاني الأجوبة, وأهدافها، ونوايا أصحابها, وعليه في الغد اطلاع صديقه المحامي مفيد على انفراد . لكن من الواجب أن يحدث أيضاً حميد، وجليل، وسلطان، وعامر، ووسام عن فهوى الرسالة كل على انفراد وسيوصي كل واحد فيهم بأنه هو الوحيد الذي يعرف السرّ ..
ويلقي جبرائيل نظرة عطوفة على إيلونا وهي مستغرقة في النوم، وقد تكسرت الظلال على وجهها الملائكي، وبينما رفعت شعرها إلى فوق لينتشر كالشعاع الذهبي على الوسادة، وجالت في خاطره الأوقات التي يستعين بها لسماع ما كتب لتوه، على الرغم من تأكده بأنها لم تفهم مما يقرأه أللهم غير الأسماء، والأرقام فبعد كتابة الجواب، وفي مراحل المسودات, يكون جبرائيل قد استعان بالمترجم, والناسـخ، والطابع, والحقوقي, والسياسي, وقد جاء دورها في الختام لكي يقرأ بصوت عال الرسالة ليختم بها حلقة المستشارين، وكأنه يريد من إيلونا أن تعرف سِره دون أن تسأله, وتبقى هي كأنها منشغلة, أو متشاغلة لا تسمع, تتصنع مشاهدة التلفزيون, أو التلهي باللوحة التي ترسمها، أو بأكلة حسوية تطبخها له, رغم ضعف معرفتها بالإنجليزية ..
وفي متون الرسائل تتكرر النداءات, والإرشادات بأنه أحسن من كتب الشعر, وأبلغ من صاغ لغة رسائله, وأصلب إنسان تعرض لنكاية من سلطة، تغرباً, ونفياً, وتشريداً, وخراباً لعائلته, فها هو يعيش مغترباً عن ولده المعاق الذي سحبته منه زوجته وقد تركته بتحريض من أهلها الذين بعضهم من أزلام السلطة, فتفبرك لها حجة قانونية لتركه, على كون جبرائيل مصاب بفصام عصبي, أما المدرسين الذين عمل معهم مغترباً، منهم من يشاكسه، ويندد به وبطبيعته, ومنهم من قام بتحشيد العامة من المتطرفين لرميه بالرصاص, وسرقة جواز سفره .
لهذا يحار جبرائيل في أي شيء يكتب، ويتعب عندما يقرر كتابة الشعر، فتجافيه المعاني، والأبيات فيعود لينام إلى جانب إيلونا الرائعة الجمال، الكاملة المشاعر، وكأنها منحوتة من منحوتات مملكة الحضر، صورها العرب القدامى كإحدى إلهات الشمس التي تشرق أبداً على الحضر الخصبة بلا مغيب، لأن شمس الجمال لا تغرب مثلما تفعل شمس السماء . ولكن النوم هو الآخر يجافي جبرائيل في بعض الليالي، وكأنه متحالف مع خصومه، لهذا يعمد مباشرة للنوم بعد دروس الحب، وبمجرد أن تغفو إيلونا الساحرة على وسادة اللذة ويغطيها، يتظاهر جبرائيل بالجلوس برهة أمام المصباح، ثم يذهب ليغتسل، ومن ثم يعود إلى الفراش فإذا ما تصادف وأن فتحت إيلونا عينها، لتعرف الوقت، يشير لها بأصابع كفه بساعتين أكثر من الوقت الحقيقي .
وفي الصباح تنهض إيلونا على رؤوس أصابعها، وتعود لواجباتها اليومية من جديد . وبعد انتهاء الدوام اليومي تبدل إيلونا خطتها لليوم السابق، فقد يتصادف أن تدخل مكتب البريد الذي يقفل أبوابه في السابعة والنصف، وهناك ستمضي ساعتين لتنتقل من صف دور إلى آخر . وتقضي وقتها متأملة في وجوه الناس تارة، وهي ساهمة حتى أن بعضهم عندما تتفرّس في وجهه بلا ردود أفعال، ينفعل . وكثيراً ما تقترب منها سيدة كانت إيلونا قد أطالت النظر إليها من الدور المجاور، وهي منفعلة، ومستفسرة عن سبب أطالت إيلونا النظر في وجهها، فما غايتها ؟ وتستغرب إيلونا من هذه المرأة، فتقوم من غير جواب لتحويل وجهة نظرها إلى الطرف الآخر من الدور، لتقابل الدور الذي على الجهة الثانية . ولربما كانت تلك المرأة، أو آخرين عندما تفرست في وجوههم إيلونا يستطلعون قسماتها، وردود أفعالها التي تكون في واد، وما يستجيبون إليه في واد آخر . إذ يبدو أنها تقوم بتأشير، ومحاورة الآخر في تخيلاتها الذهنية التي يأخذها السهوم إليها، ولما لا يجد الناس استجابة إيلونا يهملونها ناظرين إلى زملاءهم في نفس دورهم المجاور لدور إيلونا . أما إيلونا فإنها وبعد تمرّس خاص قامت بلا تعمد واضح أن تبدل زاوية نظرها ودرجة تركيزها إلى هيبة من يجتذبها الخارجية في بدايات نوبات سهومها، غير أنها لا تستطيع السيطرة على شدّة انفعالها، وتفرسها في الوجوه فيما بعد . أما أكثر ما تخشاه إيلونا أثناء وقوفها في صف الدور فهو الوصول إلى نهاية الدور، فتكون وجهاً لوجه مع موظفة البريد مباشرة، لأنها لو قامت بتبديل الدور من غير ما سبب فإنها سوف تثير فضول العجائز، ولهذا اصطنعت إيلونا جمل جاهزة للاعتذار أمام الموظفة، تدور حول نسيانها لشيء ما : كالعنوان، أو اسم المرسل إليه، ونوع المغلف، وحجمه، وهكذا مما يتيح لها المبرر للخروج من الدور، والذهاب إلى منصة الكتابة لتبقى هناك تُشاغل نفسها، وهي تنظر إلى أطول صف دور ستأتي بتثاقل إليه، وهكذا الأمر حتى ينتهي دوام البريد .
ويأخذها سهومها في هذا اليوم إلى وجه العجوز إيغور – IGHOR ، وحركات يديه المرتعشة، وهو يفتش معها على قطتها التي تصورت أنها دخلت في شقته المقابلة لشقة والدتها، والعجوز إيغور يتعمد مماطلتها في البحث على القطة التي لم تدخل أصلا إلى شقته، ويشير إلى أنها في المطبخ، أو تحت السير، كل ذلك لكي يلتصق بإيلونا، ويشم رائحتها الغامرة بتفتح زهرة يانعة . من غير أن يقوم بأي لمس عامد، لكن إيلونا تكون وقتها قد انتبهت لجو غريب لا تستطيع المواصلة معه، خصوصاً، وإنها خبرت بعض هذه الأجواء مما حصل لها مع زوج أمها . فتعتذر بسرعة، ويظل هو يناديها، ويعتذر، ويرجوها للبقاء مدة أطول، فالقطة ما تزال مختبئة في مكان ما في شقته . وتعجب لهذا النوع من الناس، وخاصة أن العجوز إيغور لم يكن ليدنو منها أكثر من اللزوم، لكن ما كان يرهقها، هو الحالة التي يصير إليها من توتر، وسهوم، وحركات لا إرادية يغطي عليها بافتعال حجة لجلب شيء ما للقطة، فيتوارى وراء باب، أو ستار، ويخرج من المكان مأزوم، أو مرتاح، فإيلونا لم تكن وقتها لتقدّر ماذا يفعله الكبار بينهم، وبين أنفسهم .
وتجفل إيلونا لأن أحدهم في الدور قد صار خلفها، وموظفة شباك البريد تستعجلها، فترتبك، وتخرج من الدور مباشرة إلى الخارج، ولا تعود إلى هذا البريد ثانية، إلا لو اضطرّت . ومن حسن حظها، أن يكون الوقت مقارب للسابعة، والنصف، فتأخذ طريقها إلى البيت لكي تقوم بواجباتها، ابتداء من دخول المطبخ، وحتى الاستيقاظ باكراً للذهاب إلى العمل .
أما يوم جبرائيل ثور إيلونا فيبدأ عندما يسمع خطواتها في الابتعاد عن باب الدار، فلا يقوى على النوم بعدها، وهو قد فهم مع الأيام سبب إصرار إيلونا على افتعال خفة الحركة، وتحاشيها إصدار أية أصوات، لأن استيقاظه سوف يؤخرها بلا طائل، وتكون إيلونا في الصباح متوترة، مشدودة الأعصاب، لا للشيء إلا لأنها لا تريد أن تظهر أمام زميلاتها بأنها متأخرة، مهملة، ورغم تظاهرها بالهدوء، وضبط النفس إلآ أن ما يصدر عنها من حركات انفعالية تشي بتوترها، على عكس ما عُرف عنها من هدوء، وطول بال . لهذا أيقن جبرائيل بأن أهم ما عليه في الصباح، هو الركون إلى السرير، والتناوم، كما تعلم عدم مضايقتها في دخول المطبخ، رغم أنه يمكن أن يكون مفيداً في مساعدتها، لكن إيلونا ممن يفضلون تدبر أمور بنفسهم، وكل تدخل يؤخر المخططات التي رسمتها في مخيلتها لتنفيذ مشاريعها، وكثيراً ما تحس إيلونا هي الأخرى بتناوم جبرائيل، فلا تكلمه، وكأنه تفاهم اعتاد عليه كلاهما، فقدرت بذلك احترامه لمشاعرها، كما تفعل هي . وقبل أن تخرج تذهب لتطبع قبلة على جبينه، يكون قد انتظرها ثور إيلونا وكأنها واحد من الآمال التي تلهيه في غربته، وهي أيضاً قبلة الإشارة لخروجها النهائي من الدار .
ويقوم جبرائيل إلى الطاولة المعدة، حليب طازج، وبيض، وقطعة لحم مقلية، وخبز هنغاري ممتاز، وإلى جانبه عصير، وكمبوت، وهناك غلاية الشاي التي تعودت إيلونا إعدادها على الطريقة العراقية، لكثرة استعماله لها، وترديده أغنية خدري الشاي خدري. ويشرب جبرائيل عصير الخوخ أولاً، ثم يقوم ببعض التمارين الرياضية، بالسبرنك الذي اشتراه من سوق البولون . ثم يدخل إلى الحمام ليأخذ دوشه الحمام الساخن، فيهدأ بعد أن نظف ما علق بجسمه من إفرازات الليل، وممارسة الحب مع إيلونا اللذيذة . ويعود من الحمام إلى الصالة، وغرفة النوم، ومناشف الحمام تلف بعض أجزاء من جسمه غير مكترث لأن إيلونا كانت قد فتحت مواسير المياه التدفئة منذ أفاقت، فلا خوف من نزلة برد تخشاه إيلونا على ثورها الحبيب .
وبعد أن يكتفي جبرائيل من سماع الموسيقى الهادئة التي كانت إيلونا قد استمعت إليها قبل خروجها من المنزل، وقد غدت الموسيقى في المذياع الآن أكثر انتعاشاً بعد أن وضح نور الصباح، فبدلاً من الكورالات الملائكية، وموسيقى الفلوت، والأوركسترا الهادئة، تنطلق بعد الثامنة أصوات الفتيات الرقيقات على الأغاني الشعبية الهنغارية التي طور قسم كبير منها بارتوك بيلا – BARTOK BELLA في سمفونياته . لكن جبرائيل ولا شعورياً يعمد لوضع شريط لواحدة من الأغاني التي يفضلها من المقام المطوّر لناظم الغزالي، وقد شده الحنين إلى واقعه الذي افتقده كثيراً . وباستعجاله لوضع شريط ناظم الغزالي يكون المقطع في الأغنية قد وصل إلى كلمة “وقاروا” .. لأغنية عيرتني بالشيب، وهو وقار، ليتها عيرت بما هو عار . فيقوم ليعيدها مالاً من انتظار الإعادة، بينما يتباهى بسوالفه التي ابيضت قليلاً، ويتحسس آثار قبلات إيلونا الثلاثينية عليها .
ويستعد جبرائيل للخروج بعد قضاء وقت ممتع في طقس الفطور، وغسل كل ما موجود من أواني اتسخت، ينظر في كل لحظة إلى ساعته، وكأنه على موعد رسمي للدوام في عمل وظيفي .. ففي الوقت الذي تخاف إيلونا على هروب الوقت منها، يكون هو حريص على مروره بسرعة، ويتمنى أن تتحرك عقارب الساعة فجأة لكي تستقر على الثامنة، والنصف لأن سوق البولون، يفتح أبوابه في التاسعة والنصف، فإذا ما خرج جبرائيل إلى المترو، وانتظر هناك سيكون قد ابتدأ الرحلة في التاسعة، ونصف ساعة في قطار المترو رقم “114” يكون في نفس الحي للسوق،ولا يحتاج إلا إلى عشر دقائق سيراً على الأقدام لكي يدخل السوق، باعتباره أول الزائرين، لأنه لا يفضل الدخول مع الباعة، لأن وجوده معهم لا معنى خاص له .. بينما سيستقبله كل واحد على انفراد أمام كشكه، بشكل مختلف، وسيقضي مع من يطيل الحديث معه فترة تساعده على التأمل، وتسجية الوقت، فيسلم على من تعرّف عليهم، بلغات مختلفة بين الروسية، والإنجليزية، والمجرية التي لا يعرف من كلها غير نتف، بل جمل مبتورة . بينما يكون هو مصر بين هذه المفردات المبتورة أن يتكلم بالكلدانية القحة، مبرراً فعله هذا بالقول : بأن مكلميه لا يعرفون غير لغتهم، وهو لا يجيد غير لغة أجداده، فما الفرق في أن يتكلم هذه، أو تلك لأن كلا الطرفين سوف يستعين بالإشارات، لغة التعبير العالمية، فتسير أموره معهم على أحسن حال . متحاشياً الكلام بالعربية خشية أن ينحاز ضده بعض المعبأين ضد العرب، وربما يتصوره الكثير منهم بأنه عبرياً، لترادف كثير من المفردات بين اللغتين الكلدانية، والعبرية، خصوصاً ممن لا يتقن غير لغة بلاده . فيعمد جبرائيل بالسلام على من يشك في تحيزه بالقول : جبرائيل : شلامه إليووخن . “السلام عليكم” .
فيجيبه التاجر من إحدى الجنسيات المجاورة للمجر كالروماني، أو البولندي، أو اليوغسلافي، وغير المجاورة في أقصى الشرق مثل الصيني، والفيتنامي، وحتى الببنغالي بمجرية مكسرة بالقول . يونا بود كيفانوج “صباح الخير أيها الصديق” . بينما يقلّب جبرائيل الأحزمة، والسجاير، والأدوات الكهربائية، وأدوات السيارات، والمعاطف، والملابس الداخلية، والمأكولات، والكريستال . وعندما ينتهي من ملء الكيس المشمع الذي اشتره له إيلونا، فهو كيس كبير من النايلون المشمع يستعمله كبار السن في تسوقهم الثقيل . يقوم جبرائيل بحمل أغراضه، إلى المترو ثم إلى البيت، وبعد أن يضع الكيس في ركن الصالون يستريح قليلاً على السرير . ثم يقوم ليزور المقهى الذي اعتاد أن يصرف فيه نقوده في السوق السوداء، ومنها ينعطف إلى ركنه في مقهى الفيرشمارتي حيث لقاء الأحباء من أصدقاء الوطن في الغربة . ويأتيه بعضهم ممن يدرسون الدراسات العليا، فيجلسون معه : ثم يأتي حميد الذي عاش معه في الجزائر، وكانت بينهما علاقة حميمة، وهو الذي ساعده على الوصول إلى المجر، أو بالأحرى أن جبرائيل فكر في المجر فقط لوجود حميد الصديق الأصيل هنا، فقد كانا يتزاوران في الجزائر، وبخاصة أيام الضيق الذي عانى منها جبرائيل، ومنها المحاصرات التي جرت له، واستقر في بيت حميد لفترة قصيرة بعد أن طرد من البيت الذي كان هو قد أجره . هاهو يلتقي حميد اليوم على موعد أسبوعي ثابت، فحميد يسكن في ضواحي بودابشت من جهة بودا، وهذا يعني أن عليه أن يبدل أكثر من واسطة نقل بين مترو، وفيلاموش، وتروللي . ويعتذر حميد بعد مضي خمس دقائق فقط على جلوسه متذرعاً بضرورة ذهابه قبل موعد خروج الصغار من المدرسة، فذكرى زوجته تتأخر في العمل ولا بد من أحد في البيت لكي يغذيهم، وفي الحقيقة أن أبا عمر يخشى أن تطول جلسته، ويتكلّف جبرائيل في استضافته ككل مرّة . وما أن يخرج حميد حتى يتقابل مع جليل، فيدير له ظهره لأنهما متخاصمان حول الحزب، أثر مجادلة حامية بينهما استفزه فيها جليل، وعيره على ارتهانه، وأمور إبداعه لدى الحزب، وكأنه موظف، بينما يمكن لحميد أن يكون روائياً عظيماً لو وفر لنفس الوقت الذي يضيعه في اجتماعات لا طائل وراءها، وفي استلام وتسلم رفاق من خلية إلى أخرى في دوّامة عبثية تدور، ومعها التائهين في هذه الغربة، وليس من حركة تغير إلا الاغتناء بإعادة التعاليم، والقراءات، كقصص جبرائيل، والنقاش حول كل مؤلف يعاد طبعه لآل أليتش وأحفاده . وقد تركهما جبرائيل كما فضلا فلكل منهما وجهة نظره، وقناعته، وهو يتقبل كل هذه الأمور على علاتها لأنها من تداعيات الغربة، ومن ضرائب المنفى القسري، رغم عدم قناعة جبرائيل برأي جليل .. فالفكر والالتزام لا يعلقان على شماعة أخطاء الآخرين، ولكنه يؤيد جليل في جزئية اهتمام المبدع بإبداعه وما ينجزه من إبداع سيكون ميراث له ولحزبه أيضاً . ويعجب جبرائيل بشخصية جليل في أشياء أخرى، ومنها طريقة لفظه لكلمة كابتشينو التي تعلمها من جليل، فيطلب هو الآخر قهوة الكاباتشينو التي يكرهها، ويحار كيف يشربها جليل من غير الكريمة، لكن جبرائيل يطلبها لأن لفظها يعجبه، وهو اللفظ الوحيد الذي أتقنه في المشروبات، أما تعلّق جليل بالنساء بشكل مدمّر، فلا يروق لجبرائيل كثيراً رغم أنه مرّ بأوقات حرمان عصيبة حتى التقط بعضهما هو وإيلونا ماريا .
ويدخل جليل محيا جبرائيل بأسلوبه المميز في التغني بالإناث، فلا تمر من جانبه نادلة، إلا ويكون قد قرصها في إليتها برقة، فتضحك هذه مفتعلة قفزة جافلة، ربما لتثير من لا ينتبه إليها ممن حطت عينها عليهم . ولا يبدأ حديث جليل إلى وقد أوصى على قهوته المفضلة من خلطة الكباتشينو التي تعرفها النادلات، ليس فيها كريمة كثيرة، وبقليل من الكونياك، ومن دون سكر، وهو السكري، معللا تقليل السكر بتقليل شهوته للنساء، ولكن عيونه تتراقص هنا، وهناك للاصطياد، حتى تلك التي تمر وراء زجاج النوافذ في الشارع، فكم من مرة ينهض وهو في منتصف جملة، ومن غير اعتذار، ليركض مسرعاً، رغم دهشة جبرائيل، وبطئ فهمه لسبب هذا الهروب، وبعد أربع دقائق لا غيرها، يأتي جليل متضاحكاً، فيشير من غير استئذان، بأنه قد ضمن الليلة المتبقية من هذا الأسبوع بلا رفيقة سرير . وكثيرا ما اقترح جليل على جبرائيل أن ينتهز فرصة غياب إيلونا الصباحي، فيستضيف الفتيات الحسناوات على بالينكا، أو كونياك، وليكن ما يكن، لكن جواب جبرائيل في كل مرّة يشير إلى أنه لم يكن ليستجيب إلى نداءات جليل حتى قبل أن يتعرف على إيلونا، فكل . أو غالب هؤلاء لسن سوى غانيات في ثياب محبات، يصطدن عابري السبيل، مما يجعل جليل يضحك حتى تفاجئه أزمة الربو التي يعاني منها من شدة مادة المخدّر التي رشها عليه اللصوص أثناء سرقته، فيختنق، وكأنه سيغمى عليه، لكنه سرعان ما يجد البخاخ، وبرشة واحدة يعود إلى طبيعته، فيطبطب جبرائيل على ظهر جليل مرتبكاً من العيون المتلصصة لزوار المقهى، وفي باله أن كل ما يصيب جليل هو من سعاره المجنون في ملاحقة النساء، وإذا ما نصحه هو سرعان ما يصب جليل جام غضبه على الحزب الذي طرده، وكان سبباً في تيهه في المنافي .
وعندما يزور جبرائيل أحد الأصدقاء يصر على إهداء ما لا لزوم للزائر بهذا الغرض, ومن الإحراج يضطر الزائر قبول بضاعته صاغراً، فيحار هذا هل هي هدية ؟ أم أن فاتورة الشراء سوف تقدم له لاحقاً ؟ لكن جبرائيل لا يبدي أياً من هذه التصرفات, وإنما يبدو أن تصرفه في وهب الهدية لزائره ربما للدلالة على كرمه, أو ربما للتفاخر بالعّز الذي يعيشه, وهو ما زال قائماً على قديمه غير محتاج لمعونـة أحد, ويتفاخر ثور إيلونا كثيراً بأنه قد اشترى بضائعه تلك بأسعار رخيصة, بل وقد قام أكثر من مّرة بالدعاية لهذا السوق, وصحب معه غيره من المغتربين الفقراء لهذا السوق, لكن تجربة هؤلاء وغيرهم باءت بالفشل لأنهم تعرضوا للابتزاز, لحصولهم على بضائع مقلدة, وأخرى مسروقة .. وفي كثير من المرات يعمد جبرائيل إلى أخذ أياً من تعرف عليهم من أصدقاء، أصدقائه “حميد، وجليل، وعامر، وسلطان” إلى بيته ليتعرف معه على الحاجيات التي اشتراها، وفي كل مرّة يقدم جبرائيل للصديق ما لا يعجبه رغم احتجاج هذا الصديق وتمنعه . لكن إلحاح جبرائيل هو الذي يخصم المعادلة . وبين كل هذه الأمور يكون جبرائيل قد تعرض لكثير من الحكايات التي سبق أن مارس سردها على من تعرّف عليهم، ومنها قصته مع قسم الدراسات العليا في كلية الآداب، وتقديمه في قسم الدراسات الشرقية، وهو ينتظر الموافقة على فكرة شعر المعلقات قبل الإسلام، وبعده، وفي حقيقة الأمر، أن جبرائيل وإمعاناً في تغير الموضوع، يجنح خياله إلى حكايات وهمية، مثل حكاية الدراسات العليا، ليس إلا لتعميق استماع الصديق له، وجذب انتباهه .
إن ذهاب جبرائيل إلى البيت قبل مجيء إيلونا، بصحبة الصديق أو بغيرها هو لكي يرتب الحاجيات التي اشتراها لهذا اليوم قبل مجيئها، فقد كوم ما اشتراه اليوم في الصالة – غرفة النوم . وبعد إلحاح جبرائيل الكثير وهو يرتب كل حاجة، وسرده للحيثيات، في شراء هذه الحاجة، أو تلك، وكيفية شرائها مما يجعل الضيف يمل من الورطة التي وقع فيها، ويهرب متعللاً بموعد فات الصديق أن يذكره لجبرائيل .
ورغم أن إيلونا لا تريد معرفة الكثير من أسرار ثورها، غير أن ما تلقفه من بين نتف الكلام بينه وبين أصدقائه . جعلها كل هذا أن ترسم خريطة عامة لطباع وصفات ثورها، وهي تخجل أن تسأل أحد منهم، ولا من وسيلة تفاهم لغوية بينها وبينه تمهد لفرش أرضية عامة بينهما، ولكن ما تعرفه أنه يملك نقوداً بعملة صعبة، وحساب ببنك نمساوي . وتعرف أن جبرائيل لا يبخل عليها أبداً، وفي نهاية كل أسبوع يناولها ما تجود به يده من الفورنتات – FORENT المجرية، عند موعد تصريفه الأسبوعي في السوق السوداء، بحجة شراء غذاء معين، لأنها تمانع دائماً في مشاركته لها في المصرف اليومي، وتعتبره جزء من واجباتها تجاهه، تعويضاً لجلوسه كموديل ترسمه، وهذا كفيل فقط أن تسدي له خدمة كهذه بدلاً من النقود، خصوصاً وإن اللوحات كنوز سوف تعتني بها لاحقاً . ولكن جواب جبرائيل يكون بالنفي فهو لا يردي العيش معها من غير مقابل، بينما تصرّ بعناد على أنها مدينة له، وهكذا بقيت المسألة من غير حل، كل يريد تقديم أقصى ما لديه إلى الآخر، فليس لإيلونا على جبرائيل شيء، بل هي ممتنة له بالكثير، وهي تعرف بهذا أن جبرائيل قد عرف خلفية حياتها هي من خلال المعايشة معها، وربما يكون ما جمعه من أصدقائه عنها، الذين لا يبخلون بإعطائه ما يتيسر لهم من معلومات كثير جداً، ومنهم حميد الودود الذي حاول في يوم من الأيام، ومن دون أية مقدمات، أو استفسار من جانبها أن يحدثها عن جبرائيل، فأنصتت له إيلونا عند بداية تعرفها على جبرائيل فقام حميد بوصف جوانب من شخصية جبرائيل، لكي يقرب إلى إيلونا صورة الرجل الشرقي، وخصوصاً وإن جبرائيل يعتبر أنموذجاً غير معتاد، فأشار حميد إلى ضرورة مراعاة إيلونا لجبرائيل عندما تراه ساهماً، فهو حتى عندما يجلس مع أصدقائه يكون مهموماً فيواسوه, ويجيبون على كثرة أسـئلته, وإعادته للقصص, ابتداء من سيرة هجرته, وركوبه قطار “طوروس” الذي ركبه عند الحدود مع “قامشلي”, حتى رحلته مع الأمم المتحدة . وأخبر حميد إيلونا بأن لا تستغرب من حالة جبرائيل، وهو يتعرف على كل صديق جديد، فإن مادته الأولية هي أن يطلع هذا منذ التعارف الأول على مراسلاته , حول وضعه, مع أهله في أمريكا, أو مشاكله التي علقها في رقبة لجنة حقوق الإنسان, لا لشيء إلا ليأخذ رأيه فيها, رغم أن أي من الآراء لم يفده، ولم يستعن به، فجبرائيل يقع في الأخطاء نفسها لأنه يسأل, ولا ينصت للجواب, والرأي .. وقبل أن تستفسر إيلونا عن معنى ذلك ضرب حميد لها مثالاً بقوله : عندما فقد جبرائيل جواز سفره بدأت معاناته من خلال مطاردة بينه وبين المتطرفين, فحميد هو الوحيد الذي حضر الحالة وعايشها، بحكم وجوده في إحدى ضواحي الجزائر العاصمة، عندما لجأ إليه جبرائيل ليحتمي بداره .. وقضى لديه أسبوعين كان فيها خائفاً، منكمشاً على نفسه، حتى استيقظ حميد في أحد الأيام ولم يجد جبرائيل، فدار العاصمة كلها عليه، ولم يجد له من أثر، لعل جبرائيل كان خائفاً على مصيره بعد رحيل حميد وعائلته إلى المجر بعد أيام، وسيصبح هو بلا من يلتجأ إليه ففضل أن يذهب في صبيحة انقضاء الأسبوعين ليطرق باب لجنة حقوق الإنسان فرع الجزائر . وهذه الحكاية كان جبرائيل قد كررها كثيراً حتى حفظها الكل، ليس عن طريق قراءتهم لرسائله التي تتضمن الحادثة في كل مرّة بشكل، وإنما عندما يستغل وجود شخص جديد لم يتعرف على مجريات حياة جبرائيل، ويحس جبرائيل من جانبه، بأنه ملزم بأن يبوح للصديق الجدي بحقيقة أمره، إذ ربما يكون قد سمع الحكاية من طرف معاد آخر .. فلماذا لا ينوره بالحقائق، بدلاً من أن يسمعها لاحقاً من غيره، وبصورة مشوهة، فينبري جبرائيل إلى جليل، أو حميد، أو آخر، ويقول له بصوت مسموع، هل عرفت بأنني تلقيت آخر رسالة من اليو إن اليوم، ويبدأ بالسرد، ومن هنا يشّد الشخص لكي يوقعه في بوتقة الحكاية، ودوّامتها . ويضيف حميد بقوله، ولو أحس جبرائيل بصمت الآخرين، وعدم رغبتهم في المتابعة، فإن لديه نوع آخر من الرسائل تأتيه من أصدقاء المهجـر, هذا يعده بالجنـة الأمريكية, وذلك يصف له الجنة السويدية, وذلك بالحب, .. أو المال .. ورابع ببرقة ثهمد … فتختلط على جبرائيل الأمور كأنها أضغاث أحلام, ويطلب النصح من الأصدقاء، ولكثرة اقتراحاتهم، وتكرراها هي الأخرى، يحملها جبرائيل معه إلى الدار فيضطـرب رأسه كل مّرة في اليقظة, والحلم, ويهرب من الفراش إلى سلسلة ألعابه الرياضية, ينفس فيها غيضه . ويرجو حميد إيلونا أن تتحمل جبرائيل، وتعالج ما لديه من معاناة . فجبرائيل شاعر لو عرف استغلال محنته جيداً، ووظفها لكتابة القصائد، لكان أبدع كثيراً، وأصدر عدة دواوين شعرية، هكذا أشار حميد في ختام حديثه لإيلونا، ولم يكن يريد أن يعطيها انطباعه الخاص الذي يتضمن علاقة جبرائيل بالشعر، فشعره لا يعدو عن تعلق الزيت في أواني الطبخ, والخل بالمخلل، لأنها تذكره بغريزة الأكل فقط . وحمد حميد ربه أن إيلونا الحساسة، والفنانة التشكيلية، لو ألمت بلغة جبرائيل لعرفت أنه لا يعدو عن متشاعر .. فهي حتى الآن لا تفهـم من كل تأريخه, وذاته وأهله, إلا هذا البيت : رباب ربة البيت… إلى آخره، الذي يظل يلوكه مراراً, كطاحونة تجعجع بلا طحـن, يبلـع الفـراغ ويضخّمـه مّـرات، ومّرات ..
ويبدو أن إيلونا قد أوغلت في عادة التيه بشكل مدمن، بحيث لم تعد تحسب مسبقاً في أي اتجاه ستسير، وأية واسطة سوف تستخدم، فصارت العادة لا تفارقها ما دامت حالها لم تتغير مع جبرائيل ففي إحدى المرّات تركب إيلونا مترو الأنفاق نيجش – NEGYES رقم أربعة” وتبقى فيه حتى نهاية المنطقة في إحدى ضواحي بشت، حيث محلات التسوق بالجملة التي تدعى شُغر .. فتتسوق، وقد اعترتها نفس حالة ثورها في شراء ما لا تحتاج إليه، وفجأة يبرز لها وجه حميد صديق جبرائيل، وهي تدخل إحدى حالات سهومها لكي يروي لها عن حياة جبرائيل في الجزائر، فيقول حميد : عندما وصل جبرائيل إلى الجزائر، كان قد وقّع عقداً بالعمل مع السفارة الجزائرية في أنقرة . ولأول مرّة عندما نزل في الجزائر العاصمة شده منظر البحر، فظل أيام كثيرة يخاف الاقتراب من الساحل لأن الطائرة وهي تهبط به كانت تتوسط المساء والبحر بشكل متوحد، وفي حالة من العدمية الكاملة أحس جبرائيل بفقدان الذات، والانفراد بينه وبين الماء أكثر من السماء، فهاله منظر البحر، والشعور الداخلي الذي انتابه، وخاف جبرائيل أن يسقط في العدم، ويتلاشى مثل شرارة، أو نيزك، أو مثل النبي يونس حينما سقط من المركب في فم الحوت . ويوماً بعد يوم اعتاد البحر، وتعود على المأكولات البحرية، وصار الآن يشتاق كثيراً للأسماك البحرية، ويجد أن أسماك الدانوب لا نكهة لها مهما أضاف لها ملح الطعام . اما البحر فقد كان ملاذ جبرائيل عندما تيهته الظروف في الجزائر، ولم تكن سواحل البحر في العصمة غير الملاذ الآمن له في حالات هروبه، فسحره البحر بسعته، ولا نهايته، وزرقته، وعمقه نهاراً، وهيبته، وجلاله ليلاً ..
وما أن انتهت إجراءات الالتحاق بالوظيفة، والدوام، توسط بأحد المدرسين لكي يؤجر له بيت بثلاث غرف لاستقبال عائلته التي ستلحق بهن مما أثار استغراب من لم يعرف هذا الخبر، ولأن جبرائيل لم يكن ليشعر بأن العادة لدى المنتدبين أن يضغطوا مصاريفهم إلى أقصى حد كي يوفروا لهم ما يدخرونه عند العودة إلى الوطن، أو الذهاب أبعد لو لم تتيسر ظروف العودة، أو اضطروا للهجرة، والتغرب . وعندما عجز جبرائيل عن إقناع أهل زوجته بالسماح لها بالمجيء . ومن خلال كل الترجيبات بأن يخرج معها محرم، فلم يستجيبوا، مما اضطره، وبتوسل خاص، وبنوع من التراضي بلسان زوجته بأن يرسل ابنه لكي يأتي بالوالدة – زوجته، إذ لربما يقوم ابنه مقام المحرم إياه، ولكن لم يجر أي من هذا، لأن أهل الزوجة ما أن وجدوا أن ابنتهم استقرت مع ولدها، عمدوا إلى إجراءات التطليق، من جانب واحد بعد إقناعها بلا جدوى الهروب وراء رجل معتوه، وملحد . وهكذا وما أن عجز جبرائيل عن استقدام عائلته، استجاب لنداءات أصدقائه، فاضطر لتأجير غرفة لزميله عبد التوّاب الملحاح، سرعان ما امتلأت الغرفة بالزوار، وبعضهم صار مقيماً، فاحتلوا الحمام، والمطبخ بضوضائهم، وصراخهم، كل هذا ولم يستبطن جبرائيل أي دهاء، وحيل، ومخططات أخفاها عبد التوّاب، لأن هذا ما زال يظهر المسكنة حتى الآن، ولكنه يسرع في احتلال المنزل مكان بعد الآخر، مما يحيط الغرف، ما عدا غرفتي جبرائيل الباقيتين، وفي هذا الحصار، وهذا الاحتلال المتعمّد، لا يجد جبرائيل حوله من منجد، فليس من مجال للحديث في هذا الموضوع، لأن جبرائيل محاط من كل الجهات بمن يدافع عن الزميل عبد التوّاب، وبمجرد أن يبدأ بلفظة ما عن حال البيت، ترى كل من يسمعه ينبري للدفاع قبل حتى معرفة ما الكلام الذي سيقوله جبرائيل، ولم يكن في حسبانه ما سيطرأ لو اتخذ أي موقف، أو مجرد التفات للأمر من منطلق المشروعية في مزوالة حق من حقوق المغترب المتعاقد، وفي منزله الذي أجره هو بنفسه ضمن عقد موثق في المحاكم . لهذا لم ينم جبرائيل لياليه مفكراً في كيفية إخراج الدخيل، وقد أوصد جبرائيل باب غرفته عليه، كما حرص على إقفال باب الغرفة الثانية، وهو يسمع ضوضاء، وحركة الضيوف، والمقيمين خارج الغرفة : ضحك، وقهقهات، ودعاء، ولعب ورق، ونرد، وصراخ، وسباب . حتى يصاب بالصداع، والدوار، ويغفو مجهداً بعين، والعين الآخر مرصودة على الباب الذي يخيله بين لحظة، وأخرى يهتز كأن أحداً يريد اقتلاعه . وما من وسيلة، أو معين . وهكذا التجأ جبرائيل إليّ .. هكذا تحدث حميد مشيراً إلى خوف جبرائيل من ترك البيت ليلاً لكي لا يعود فيرى الدخلاء، وقد كسروا الباب واحتلوا غرفته، أو على الأقل الغرفة الثانية، وعندما يعود جبرائيل إلى البيت متأخراً لا يجد له مكان في المرور إلى باب غرفته، بل إن الرجال يزاحمونه بلحائهم، وهمهماتهم، وكأنه يدخل بين طابور ناكر، ونكير، أو طابور شرطة سرية لطاغية محتل . وفي هذه الحالة عليه أن يقضي الليل كله من غير معاودة الحمام للاغتسال، وقضاء حاجاته . ولم يكن لجبرائيل غيري أنا، ولكني بعيد عنه، وليس في مهنة قريبة من مهنته . وليس من وسيلة مناسبة في الوصول إلى مدرسة جبرائيل، ومساعدته، بالإضافة إلى أن عقد زوجتي قد انتهى، ونحن على وشك الرحيل إلى المجر بناء على وجود أخت زوجتي هناك . كل هذا يرويه حميد وإيلونا تنسج في محيلتها أبعاد لوحات تحاول أن تشكلها، وما يتراءى لها من تكوين شخصية جبرائيل، ثورها المحبب . وتسمع حميد يقول : ورغم أنني أعرف المدرّس عبد التواب حق المعرفة من الوطن، لكنني فوجئت بموقفه الرافض على طلباتي المتكررة في أن أقابله في سبيل حل المعضلة التي خلقها هو من جانب واحد، وأتحدث معه بروية حول العرفان، والجميل، ومساعدة أبناء الجلدة الواحدة لبعضهم البعض، إلا أن عبد التواب بدأ بعد هذا التآمر على جبرائيل لإخراجه هو من المنزل، فأظهر تزلفاً لصاحب الدار كلما جاء لتحصيل الإيجار الشهري . وقد انطلق من أهم عقدة، وركيزة، ومفصل هو استغلال الوضع الطائفي لجبرائيل . وبدأت خيوط المؤامرة تتشابك ببعض . خصوصاً، وإن هناك ظواهر تعرض لها وافدون عرب من نفس طوائف الجزائر بحجة تعميمهم للعلمانية، وإفسادهم لعقول الطلبة مثل الجامعية الدكتورة سيما رعامي أستاذة الأدب المقارن، ولو لا غيابها في سفرة أكاديمية إلى أوروبا لكانت احترقت مع محتويات شقتها، بين الوثاق والدراسات القيمة . وكذلك ما تعرض له الفنان المسرحي الموهوب لولة عبد القهار . أما وهذا هو الوضع فإن أمر جبرائيل سيكون أسهل بكثير من وضع هؤلاء، فلاحقه المكفرون، وهرب للاحتماء في البداية إلى بيتي، ثم هرب من بيتي إلى لجنة حقوق الإنسان وإلا لكان في عداد الموتى، أو المفقودين، أو الرهائن، أو من أصحاب العاهات . وبعد مداولات كان من الممكن أن تستقبله أية دولة شمالية غير بلده، ولكن سوء طالعه جعلهم يسفرونه على حسابه، بحجة أن لديه نقود، وأنه ليس بحاجة للجوء فاختار النمسا مرغماً، لأنها قريبة من المجر، ولكن أمور جبرائيل تعقدت في النمسا أيضاً، وفي غضون شهرين، وجد نفسه في المجر، وكنت قد سبقته إليها بشهر على الأقل، فوجدنا بعضنا من جديد .
وكأن هاجس ركوب متروات الأنفاق، قد صار كالحمى . والهاجس أكثر من النوم والدوام، والرسم ففي إحدى المرّات تركب إيلونا مترو الأنفاق الصغير المبتدئ من ساحة الفيرشمارتي ونزلت في ساحة الأبطال، ولا تدري إيلونا لماذا لم تواصل الرحيل، والتيه مع المترو حتى نهاية الخط، والاستغراق كلية، فقد خرجت، وجلست تتأمل أبطال الأمة الهنغارية، في تماثيلهم الشامخة هناك، على خيولهم القوية فتتخيل جبرائيل مثل أتيلا الجبار فارسها، الذي طالما كانت ترغبه بأن يكون مثل أتيلا – ATILA ، وهي طفلة تعاني من العرج، والصبيان يعرونها بعلتها، ويتحاشاها الشبان، فيميلون إلى أبشع واحدة في الصف بينما يتركونها لا لشيء إلا لأنها تعرج قليلاً . وفي طريق عودتها من ساحة الأبطال تتذكر إيلونا آخر مرّة ركبت هي وجبرائيل، وأحد الطلاب الذي استعان بها بجيرائيل لكي يدله على كلية الدراسات الشرقية عندما كان مقرها في شارع إليزابيث – ERSZBETH على طريق ساحة الأبطال، وكان عليهم أن يستقلوا نفس المترو من ساحة الفيرشمارتي، فأخذ جبرائيل يتكلم فجأة بالكلدانية ولعلمها بأن الصديق لا يفهم إلا اللغة العربية التي اعتادت على بعض مفرداتها، استغربت من حال جبرائيل الذي كان قد انبرى يتحدث، وكأنه يخاطب نفسه، ولكن بصفة المحدث لسامعه . وعندما نزلوا من المترو وانزووا في ركن جبرائيل المحبب في مقهى الفيرشمارتي . وجدوا سلطان، فحدثه جبرائيل ، وفهمت من ترجمة سلطان الآنية لها بما حصل لثورها في المترو إذ أنه أحس بأنه مراقب, من قبل أحد جلاوزة سفارة بلاده، وأن كلامه سوف يسمع, وينقل عنه مخابراتيا، بين أجهزة السلطة التي خربت علاقاته بزوجته, وأهلها فهربت منه إلى الوطن والدعايات عنه سواء من سـفارة السلطة, أو الجهة التي انتمى إليها هؤلاء يتهمونه بـالهروب, مع المعارضة, والمعارضة تتهمه بالتواطؤ مع السلطة في إرسال زوجته, وانهما هو وزوجته جاسوسين، وكل ما حصل معهما، وبينهما ليس إلا تمثيل، وسوف يعودان في وقت قريب متى ما حصل على اللجوء في دولة شمالية .. فتضحك إيلونا، ويضحك معها سلطان، والطالب الجديد من كل تصورات جبرائيل وأشاعوا جواً من المرح أزال خوف جبرائيل إلى حين .
وفي كثير من المرّات يطول الوقت بجبرائيل، وهو في انتظار إيلونا فيقوم بشرب الحساء المتبقي من الليلة السابقة . ثم يمارس إعادة كتابة رسالته المليون للأمم المتحدة، ويظل يقرأها بصوت عال كأنما يترافع أمام منصة القضاء التي يتصورها إنسانية جداً، كيف لا ؟ وهي منصة الدفاع عن حقوق الإنسان . كل هذا الوقت يمر .. وهو يعرف أن إيلونا لن تعود قبل السابعة والنصف، وهناك متسع للوقت في القيلولة بوجه خاص التي لا يمكن لجبرائيل أن يفرط بها، فهي ملجأه للأحلام السعيدة . يحلم بمرافعة عن الجزائر، وأخرى عن ضياع جواز السفر، وثالثة عن ذهابه إلى أمريكا .
ومع هذا فالنهار طويل جداً، خصوصاً لو كان جبرائيل من غير شيء يشغله، والحقيقة أن ما يشغله، هو أن يكون هناك منصت له، لكي تنشط ذاكرته، وينطلق بها من مواقف الغدر، والجبن، والتنكر التي صبت عليه بالذات . ولكنه وهو في وحدته يتوقع في كل لحظة أن يطرق الباب عليه ليزوره أحدهم، حتى ولو كانوا قد زاروه في المقهى لتوهم . ربما حميد، أو عامر، أو مفيد، أو سلطان، أو وسام .. ولهذا يقوم بإعادة ترتيب الأغراض من جديد، ويصنفها، ويرفع بعضها ليستقر مع البعض الآخر فوق الخزائن، ببنما يكون قد علا صوته إما بترديد أغنية، أو حوار بينه وبين أحد من يتخيلهم من أصدقائه، أو أعدائه الذين أوصلوه إلى هذا المصير، ومرّات، يتلو قوائم صرف الحسابات التي جرت منذ جاء إلى بودابست، وأوجهها، ولكنه لا يعلن حتى لنفسه ما تبقى له في البنك مما وفرّه في الجزائر .
وللمذياع دور ثانوي في ساعات النهار لأن جبرائيل يملّ كثرة الندوات، والأخبار التي لا يفهمها، فيستخدم الجهاز كمسجل لإعادة تدوير الأغاني التي جلبها معه، : أمل حياتي لأم كلثوم، لأن الأغنية تعيد الأمل مئات المرّات، بل بآلاف آلاف من المرّات . ومع هذا فالوقت بطيء وعليه أن يفعل شيئاً، عليه إذن بلعبة الشطرنج، أو النرد، لكي يلعب مع الآخر في داخل، تماماً كلعبة الحديث أمام المرآة . كل هذه الفعاليات يقوم بها وهو يستذكر حافظته من الشعر العربي القديم، فينطلق في قراءة بعض الأبيات من عنترة، وأخرى من زهير بن أبي سلمى، وأمرؤ القيس . يكون قبلها في انتظار أصدقاء لا على التعيين .
وما أن تعود إيلونا حتى تبدأ ورشة العمل في المطبخ لتحضير الأكل، والعشاء في التاسعة ثم فعالية الاستحمام، وتليها فعاليات ممارسة الحب، ونوم إيلونا .. ثم فعالية ملّ منها وهي إتمام ما يسميه ديوان شعر، لم يستسغه أحد من أصدقائه حتى الآن . وفي يوم الجمعة قبل سماع خبر هجرتهما إلى السويد تأملت إيلونا في طريق عودتها من تيهها البودابشتي ما كان لها في أول لقاء مع جبرائيل عندما ذهبت إلى المقهى، فجلست في مكانها المعهود، وتبادلت وجبرائيل النظرات، فتذكرت بحدسها الفني فجأة أن جبرائيل كان يحوم حولها، وينظر إلى الرسوم التي أنجزتها من غير أن ينبس بكلمة، فتصورته أخرس، وكئيب، لكنه لم يجذبها وقتها، ولم تنتبه له، لكنها عرفت فيما بعد أن ما كان يجذبه إلى الرسم، والوقوف متفرجاً على الرسامين، أنه كان يبحث عن أحد ينقش له اسمه، وجنسيته كوشم على جسده . ولم يستطع التعبير عن هذه الفكرة حتى بعد أن تعارفا بوقت طويل، عندما شاهدا أحد الهيبيس الموشومين .. كان جبرائيل كما ذكر لها يخجل من الفكرة لكي لا يساء فهمه من قبل أقرب المقربين له، حتى ولو كان حميد، أو جليل، أما الآن فلا حاجة له بالنقوش، والوشم ما دامت إيلونا بجانبه .
وفي المقهى ذاته كان لا بد من أن يبادر أحدهما بالتقرب إلى الآخر .. وشدّ إيلونا إلى المبادرة، والتعارف عدا الانتباه، والرغبة العاطفية، والاعجاب أن لهذا الغريب ملامح تحتاج إلى دراسة في الرسم، خصوصاً وأنه يمرّ في حالات متعددة، تنعكس على تعابير وجهه .. سهوم .. ثم خجل .. ثم استحياء .. ثم تورد خدود .. ثم حديث عادي، أو ودي .. فغضب .. فهياج . ثم يكون بشوش رائق وسمح . كل هذا يمر ربما خلال ربع، أو نصف ساعة .
قامت إيلونا أخيراً من مكانها، واتجهت إلى طاولة جبرائيل، وفي ذهنها أنه لا يتكلم أية لغة، نتيجة لملاحظاتها السابقة، فأشرت له بطلب الجلوس، فنهض باستحياء ممزوج بالبشاشة، وأجلسها بلطف، وهو يتلفت، ومن حسن حظهما أن أحداً من أصدقائه لم يكن قد وصل بعد، وعليهما أن يسرعا في التعارف، والانتقال إلى مكان آخر بعيداً عن كل العيون . هذا ما اعتمل في داخل كل منهما .. ولم تحتج إيلونا إلى وقت طويل أن توضّح له بأنها رسامة، وتريد رسمه فدعته للذهاب إلى الساحة لترسمه، ومن ثم إلى البيت . وبعد اللقاء الأول اتفقا على يجلس جبرائيل أمامها ليكون موديلها الدائمي، ولقد تحقق لها ما كانت تصبو إليه وتحقق له ما يحتاجه، ولما أصبحا في فرشهما أفاقا كعروسين لأن جبرائيل عرف إيلونا لم تعاشر رجل قبل، وهو الآن عريس في يوم صبحيته بحق، فقام ليقبلها من جبينها، ورغم هذا كله، فقد عجز جبرائيل عن افهامها برغبته في أن ينقش اسمه على جلده .
وابتدأت إيلونا بدراسة وجهه، ثم بملابسه، ثم بعد أن مارسا الحب بدأت ترسم تضاريس جسده، ودرست عضلاته بتشريحها الكامل، حتى قررا أن ينتقلا نهائياً إلى بيتها، وبعد أن عرفته على سوق البولون، وكثرة شرائه لكثير من الملابس، اقترحت عليه الاستعانة بملابس سوق البولون التي يجلبها، لكي يلبسها في كل مرّة، ويغدو في زي مخالف، ومنها أزياء البولون، وأزياء الغجر، وأزياء البدو، وأزياء العثمانيين، والصيني، والفيتنامي .. وهكذا استثمرا الحب من جهة، وعادات جبرائيل في شراء ما لا لزوم له من جهة ثانية . كانت الملابس التي يلبسها أزياء يتنكر بها، عليه أن يرى في نهاية الأسبوع لوحة مكتملة تعرضها إيلونا في السوق للبيع، وأراد جبرائيل أن يشير إليها بأن تغير ملامحه لكي لا يتعرف عليه أحد ممن يعرفونه من غير أصدقائه الحميمين، فتوسط بحميد، مبعداً جليل عن التوسط لكي لا يفسد الجو، ويسطو ربما على إيلونا العطشى من حرمان طويل . ولكن الجلوس في البيت بات مملاً فلماذا لا ترسمه مع الطبيعة خارج المنزل، في الريف، على بحيرة فلانسيا القريبة من بودابست، وعلى جبل هاروش هدج – HAROM CSUCS HEGH “جبل القمم الثلاث” . أو بين الأشجار .
وقد تعود جبرائيل على التحرر من الملابس في البيت، خصوصاً أثناء جلوسه كموديل، مما يتيح الفرصة لإيلونا من أن تتفرس في ثنايا جسده اللدن كقماش ناصع لم تؤثر فيه حتى السمنة ناعم الملس، متين البنيان . وغالباً ما تحب إيلونا أن ترسم الخطوط العامة للجسد، ومن بعدها تعمد لملء التفاصيل . وتبدأ بالرأس فيسحرها الشعر الكستنائي فتقوم في كل مرّة لتعبث في تصفيفه . تلك التصفيفة التي يتعب جبرائيل في ترتيبها أمام المرآة، فتعيد إيلونا ترتيبها بعبثية أمام المرآة بدورها . وعندما تملت العينان لمع بريقهما بعمق رهيب، فعذبها ما تخفيه هاتين العينين من ألق، وقلق، وتأزم وتمنت أن تغور في أعماق تلك النفس التي لم تدخلها من خلال الكلام الجميل . أما الأكف ناعمة ملساء، والصدر رائع الشعر مثل حقل ربيعي ثم البطن، ثم قطعة حمراء وضعتها أسفل البطن تحاشياً من الوقوع في الهوى، وهي تمارس هوايتها، ولكنها لا تخفي فضول في كل مرة من اختلاس نظرة للقطعة الحمراء وحركة منتظمة تحتها، كأنها نبضات قلب متسارعة . واتفقا على إقامة معرض للرسوم في صور متسلسلة بعنوان ممثل من الشرق في أدوار البطولة المنهزمة، يكتب جبرائيل تحت كل لوحة بيت شعري بالحروف العربية، ويترجمها شاندور إيفاني – SANDOR IVANI إلى المجرية، أستاذ جبرائيل المرشح للدراسات العليا، وتكون بذلك ضربة الموسم .
ويوماً بعد يوم تتعلّق إيلونا العرجاء بمحبوبها، وتزول عنها علامات التعّجب عندمـا تـراه منهمك وراء موجـات الأثـير ليتابع أخبار الوطن في إذاعاته المتعـددة, فهنـا أغنيـة سـمعتها عـلى لسانه, وفي شريط تسجيل, تكرر مثل جملة “الزيت, والخل” حفظت منها “أنا وأنت”, و”يم العباية”, أو “أنساك دكلام”, أو “يامسـافر”, أو “زورونـي كل سنة مّرة ..
ويقوم جبرائيل في كثير من المرّات عن الطاولة فيمسك آلة العود الذي رافقه مع الأشرطة، وقام الأستاذين وسام، وعامر بتدريبه عليه، لكنه لم يلتزم بما علماه وبخاصة عدم إيمانه بالنوتة، فيدندن على أوتار العود المتراخية من شدة العزف, وإهمال شدها, فتخرج الأصوات كالخربشات الناشزة, لأضلاف حيوان يحفر له غار في صخر, ولا تقترب الموسـيقى حـتى من أبجدية التلوين, ويبدو وهو يمسك العود كأنه مفـترس يحـمل فخذ عجل يستعد لأكله .
وما أن يأتي يوم الاثنين بعد أن قضيا يومين على بحيرة فلانسيا القريبة من بودا، وبعد القيلولة التي يقضيها جبرائيل بانتظار إيلونا يطرق الباب، ويعجب جبرائيل من سرعة عودة إيلونا، ومن طرقها إذ لا بد أن يكون هناك عائق يجعلها تخرج المفتاح لتفتح الباب، وهي على رؤوس أصابعها خشية أن توقظه، ولكن جبرائيل ما أن فتح الباب، حتى فوجئ بساعي البريد يناوله رسالة عرف من غلافها أنها من اليو إن . فما أن أصبح لوحده حتى فتحها، وطار من الفرح لأنهم وافقوا أخيراً على سحبه إلى دولة شمالية، شمالية، عليا، سوف تمنحه أخيراً جواز سفر يخلصه من كل المتاعب . فطوى الرسالة وصار يحسب الأيام التي ستغيب إيلونا عنه حتى يجتمع شملهما من جديد بعد أن يجري لها معاملة جمع الشمل، وعليه الآن قبل أن يفعل أي شيء أن يحرك إجراءات زفافهما الذي أجله، بل جمدّه لكي يقدمه هدية هامة لإيلونته الوردية . فقام، وخرج إلى المقهى لكي يلاقي المحامي مفيد لكي يستعجل الاجراءت، على جليل أن يقوم بحجز قاعة للمناسبة طالباً كتمان السرّ على إيلونا حتى اليوم الموعود .


* منقول عن الناقد العراقي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى