عبد القادر وساط - ابن علي يخطب في نُحاة البصرة

جاء في كتاب ( كشف الظنون ) للشيباني:
لما سمعَ ابنُ علي بأن نُحاةَ البصرة صاروا ينتقدونه في المربد، ويَدفعون الناسَ إلى التمرد عليه، دعا أحدَ أصفيائه وقال له:
- هؤلاء نحاةُ البصرة، قد شربوا كأسَ الجهالة وركبوا مركب الضلالة، وعزموا على إشعال نار الفتنة، فما ترى في أمرهم؟
فأجابه الرجل :
- يا ابن علي، رحم الله الشاعرَ عبدَ قيس بن خفاف، الذي قال:
و إذا أتَتْك منَ العدُوّ قوارصٌ = فاقرصْ كذاك و لا تقلْ لمْ أفْعَلِ
فأطرق ابنُ علي قليلا ثم قال لجليسه:
- لقد أتتني - شهدَ الله - قوارصُ كثيرة من نحاة البصرة. وأنا لا أردّ على القرص بالقرص ولكنني آليتُ على نفسي ألا يغمض لي جفن ولا يهدأ لي بال، إلا إذا رأيتهم في هذا المجلس يرسفون في الأغلال، فإنهم يتسمون منذ غابر الأزمان بالشقاق والعصيان.
ثم إن طاغية تنجداد أصدرَ الأمرَ إلى رجاله، في مختلف الأنحاء، باعتقال أولئك النحاة، في أقرب الأوقات، فلم تمض أسابيع حتى جيء بهم إليه وهم يمشون في القيود. وكان فيهم عبدالله بن أبي إسحاق الحضرمي وعيسى بن عمر الثقفي وأبو عمرو بن العلاء والخليل بن أحمد والأخفش الأكبر وسيبويه واليزيدي وأبو زيد الأنصاري وقطرب وأبو عمر الجرمي والمازني ويونس بن حبيب. فلما مثلوا بين يدي الطاغية، رأوا خصومَهمْ نحاةَ الكوفة جالسين على الأرائك، وسط المجلس وهم في أحسن حال. وكان فيهم أبو جعفر بن سعدان وأبو جعفر الرؤاسي وأبو الحسن علي بن حمزة الكسائي وأبو زكريا الفراء ويعقوب بن السكيت وأبو العباس ثعلب. ولما وقف المعتقلون البصريون وسط المجلس، تفرسَ فيهم ابنُ علي طويلا، ثم وقف واتكأ على عصاه وخاطبهم قائلا:
- يا نحاة البصرة، إني رأيتُ هذا النحو لا يَصلح إلا بما صَلحَ به أولُه: لِينٌ في غير ضعف وشدة في غير عنف. وأنتم أحدثتمْ في لغة العرَب أحداثاً لم تُسبَقوا إليها: تَشدَّدتمْ في السماع، فلم تكونوا تأخذون إلا عن جفاة الأعراب، في أطراف الجزيرة العربية. وبالغتم في التحري عن الشاهد السليم، وزعمتم أن أكثركم من قيس وتميم، الذين بقوا على عربيتهم، متحمسين لها، متشددين في الدفاع عنها، وحقّرتمْ نُحاةَ الكوفة ووصفتموهم بأنهم من عرب اليمن، الذين لا يطمئن إلى لغتهم أحد، لعدم خلوص العربية فيهم، ولأنهم خالطوا الأحباشَ والهنود، وتزوجوا منهم، فامتزج الكلام العربي لديهم بغير العربي. وعبتم على نحاة الكوفة كذلك أنهم أسسوا نحْوَهمْ على القياس، وتساهلوا في الرواية واعتدّوا بكل مسموع، فلم يفرقوا بين غثّ وسمين. وافتخرتم بأن البصرة تقع في الجنوب الغربي من العراق، على طرف البادية، في صقع عاش في الحرية البدوية، ولم يمتد إليه نفوذٌ أجنبي يُغَيّرُ من طبيعته. وقلتم إن البصرة هي أدنى مدن العراق من العرب الأقحاح، في البوادي العربية، وزعمتم أن عدم اختلاط أهلها بدم أجنبي قد جعلها تحافظ على سليقتها العربية. وحططتم من شأن الكوفة لأنها شديدة النأي عن الجزيرة العربية، إذْ تَفصل بينهما صحراءُ السماوة، المترامية الأطراف، وهو ما جعل نُحاتَها يستصعبون الرحيلَ إلى الجزيرة العربية، كي يسمعوا الكلام العربي الخالص والفصيح. ولعمري إن كلامكم هذا لباطل. فهذا شيخنا أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي الكوفي، الجالس قبالتكم، يشهد على أكاذيبكم. فقد طاف زمناً طويلاً ببادية نجد والحجاز، وأقام بالبصرة مدة غير يسيرة، في زمن شيخكم الخليل بن أحمد .
وزعمتم أن أهل الكوفة إنما قرّبهم الخلفاء العباسيون لرد الجميل إليهم بسبب مواقفهم القديمة المعروفة، فعَزّت الكوفة عندئذ بعد ذلّ وهوان، وصار نُحاتُها يشار إليهم بالبنان ويحظون بالقرب من السلطان. ونسيتم أن معاوية قد فعلَ الشيء نفسه مع البصريين، بعد أن حفظ لهم جميلَ تأييدهم للأمويين.
وعبتم كذلك على أهل الكوفة أنهم لم يكونوا يتجاوبون مع أمور النحو في أوله، وأنهم انصرفوا عنه إلى رواية الأخبار والأشعار. فإياي وهذه الأكاذيب، فإني لا أوتى بقائل بها إلا رميتُ به في سجن الكثيب. وإياي ودعوة " العنصر العربي البصري الخالص"، فإني لا آخذ داعيا بها إلا نكلتُ به. واعلموا أني آليتُ على نفسي أن آخذ المصيبَ منكم في النحو بذنب المخطئ، وأن أجالدكم مجالدة العارف بما جُبلتم عليه. فاتقوا الله فينا وفي أنفسكم واحذروا مزالقَ الفتنة، فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة. واعلموا أني لا أعِدُ إلا وفيت، ولا أهمّ إلا أمضيت.
قال الشيباني، مؤلفُ الكتاب:
ثم إن ابنَ علي عاد فجلس على سريره الأخضر. وإن هي إلا لحظة، حتى وقف من جديد وخاطبَ نحاة البصرة بقوله:
- وقد نسيتُ أمراً آخر، وما أنسانيه إلا الشيطانُ أن أذكره. ألَا فاعلموا أني أمرتُ باعتقال كل شاعر يتخذ البصريون من شعره الشواهدَ النحوية. وقد بدأتُ بأولئك الذين استغل سيبويه أشعارهم لإثبات أباطيله. وهكذا أمرتُ باعتقال عدي بن زيد العبادي، بسبب بيته الشعري
أكلَّ امرئ تَحْسبين امرءاً = و ناراً تَوَقّدُ بالليل نارا ؟
وأمرت باعتقال جران العود، الذي قال:
يا ليتني و أنتِ يا لميسُ = ببلدة ليس بها أنيسُ
وباعتقال النجاشي الذي قال:
فلستُ بآتيهِ و لا أستطيعهُ = و لٰكِ اسْقني إنْ كان ماؤكَ ذا فَضْل
وباعتقال هشام، أخي الشاعر ذي الرمة، بسبب بيته:
هي الشفاءُ لدائي إن ظفرتُ بها = و ليس منها شفاء الداء مبذولُ
وباعتقال ذي الرمة نفسه، لأنه صاحب البيت التالي:
ديارَ مَيّة إذْ ميٌّ تُساعفنا = و لا يَرى مثلها عُرْبٌ و لا عَجَمُ
وباعتقال العُجير السلولي الذي قال:
إذا متُّ كان الناسُ نصفان شامتٌ = و آخرُ مُثْنٍ بالذي كنتُ أصنعُ
وسوف يُنقل شعراءُ الشواهد هؤلاء إلى سجن الكثيب. وإني لأرجو أن تطول هذه اللائحة، حتى لا يبقى شاعر واحد طليق من بين أولئك الذين ينظمون لكم الشواهد. وأيْم الله إنّ فيهم لأسْرى كثيرةً، فليحذرْ كل واحد منهم أنْ يكون منْ أسراي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى