هشام ناجح - في رحاب الرشيد

بينما أنا سائر في بغداد وكلي شوق لمجالسة الرشيد ، لم تسعفني النوبات بالدخول من باب البصرة ، فكان لزاما على بغلتي أن تقرع الأظلاف معلنة دخول الغريب من باب خرسان . لم أفكر أن الأمر صار ليحيا ، وعيون البرامكة متوهجة بغضب النزوات ... الشريط المبلط ينعش بروائح التوابل والقماش ،ونسمات الكافور تبشر بموت وشيك على مشارف بني العباس
كانت عيون الحرص ترقب الخطوات ، تترصد النوايا ، وكبير العسس يحملق بعين جبارة ترعب الفؤاد ويزهر الدم في البدن كسرعة البرق. تقدم مني بخطوات الواثق من أمره ، فنزلت عن مطيتي متلعثما لأحييه تحية تليق بمقامه ومع استواء قامتي بادرني بالكلام :
ـ السلام على ضيفنا نراك قد ضربت في كبد الإبل لبلوغ الزوراء . نزلت أهلا وحللت سهلا .وقد يطول مقام المرء إذا عفت يده عن البطش وعينه عن الفحش .
ـ وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته ، لقد نال منا المسير وحاصرنا الظمأ والسغب لكن الرغبة مبلغ العلم وعصمة الأمر ، وإني لأقطع حبل الود بيني وبين نفسي حتى أبلغ الحلم سعيا والرشد عضدا .
ـ اذن سلني حاجتك أيها الضيف .
ـ حاجتي إلى الرشيد كحاجتي إلى الماء والهواء .
ـ إني لأراك في خرف من الأمر وهذيان من السحر.
لم يكد يكمل كلامه حتى استنفر بوقفة اجلال لشخص يمر في موكب ما رأيت أعظم منه ولا أجل منه .فقلت في نفسي :" قد يكون من علية القوم "
تداولا في أمري .ولم يشأ إلا أن قادني إليه في رحاب جنة من كساء أخضر تفوح منها روائح أزكى وتنمقها فسيفساء أبهى ، فأدركت أنني في رحاب الرشيد فقال :
ـ لاداع للبوح بأسرارك أيها الضيف ، فوجهك يكشف عن مكنون الرسالة .
ـ نزعة البحث القويم وذروة السؤال الجاثم تتأبطني يامولاي وأحببت أن أدرك المقاصد ويغادرني سهاد المآقي .
ـ لافرق بين سطوة الخلافة وحمق الانتظار وإن العهد الذي بيننا وبين أنفسنا يستوي كنعمة الموت مع نية الخلود .
ـ العزة والسؤدد لكم يامولاي إني أسمع أنكم تحجون عاما وتغزون عاما .
ـ الحج مقصد وغاية وحسنه إخفاؤه ، فيأخذنا الوفاء إلى عرفات لنحشر اليوم قبل الغد .
يتدخل الوزير يحيا فيقول :
ـ أذن لنا يامولاي أن نسأل ضيفنا عن تراب القدم وموطن النسب ؟
قال :
ـ حقا ماترى ياوزيرنا .
قلت :
ـ إن الشمس تغرب في عين حمئة فثمة تنقضي عجائب النهار الجلي الكاشف وتلوح الظلمة كأنها كانون يتضرع قدرا منذ سالف العهد .
يضحك الرشيد حتى تظهر نواجده ومشيرا إلى جمعه :
ـ إ نه من مغرب رجراجة ، قوم قدموا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهم حسنو العشرة وطيبو الأعراف ، وقد كانت لنا اسوة حسنة في رسول الله يوم دعا لهم بالخير والبركات .
ـ بارك الله فيكم يامولاي إن سفري أضناني وأضنى مطيتي وإنها ترجو الحباء وتمتنع عن العلف إلا من يدي وتلك حكمة أخرى يامولاي .
ـ عجل بها فالحكمة روية وطوية تهيل التراب وتسفو الريح إلى مآوي الحق فيصبح العمل عرفا ومحجا وإني لأراك في بهاء السعي ورونق الحكي.
ـ يحكى يامولاي في سالف العهد أن ملكا من ملوك النصارى حفظك الله من مذلة الشوائب ونزوة العواقب ، كان له وزير يتخذه عضدا ومن أبنائه قادة فأصاب الملك داء في جلده أقرب إلى البرص حيث عافته النفوس وتكدرت منه الزوج واحتار فيه الأطباء والحكماء ، وكان عليه أن يقطع سفرا طويلا ليستحم في إحدى البرك النائية في قمم جبال سامقة ، فتاه عن الركب وكان ذلك مقصودا فأخذ الوزير ملكه وزوجه وقال في نفسه : " إنه هالك لامحالة من الحر البغيض والوحوش الضواري " لكن الأقدار شاءت فكانت بغلته من تدرك قوام الطريق حتى عاد سالما معافى . وأحببت أن أقول لمولاي قد أنست لبغلتي فحيوان صديق خير من صديق حيوان .
ضحك الرشيد واغتاظ الوزير يحيا فاتحا فاه بابتسامة ثعلبية وصفق الرشيد وأتى رجل في كامل زينته منحنيا أمامه فقال له :
"أكرم ضيفنا الليلة وليستمر لقاؤنا في الغد إن شاء الله حتى لانضنيه فالسفر شاق والمقصد يانع والصبر درب غائر لايدركه إلا من استطاع لذلك سبيلا ."
تمددت على السرير الواطئ القريب من الأرض فتسألني والدتي :" من هو هذا الرشيد الذي كنت تتحدث إليه هل هو سيدي عبد الرحمان المجذوب ؟"
انطفأضوء الإنارة ولم يستقبلني الرشيد في الغد .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى