منار فتح الباب - رائحة الأشجار.. قصة قصيرة

الفتاة لا تريد الأب أمامها لأن ضجيج الشارع يبدأ في الطنين بأذنها بينما يتحدث هو إليها فلا تصغى إليه فيغضب ويثور.. وحينما ينظر إليها لا يكمل القمر استدارته وتغلفه الغيوم.
من كثرة ما هاجمها هاجس الموت صارت تنظر في المرآة كثيراً ولا تدرى أهو أبوها أم كائن آخر ربما تجسد في حلم ما أو ظهر في قصيدة كتبتها فجراً وهى تمزق بعض شعرها وتقتلعه من جذوره.
تعيش قصائدها ويختلط الفجر بالمساء كل يوم ويتكرر كابوسها بسقوط ثلاثتهم في بالوعة مظلمة مستديرة وموتهم غرقاً.
"لأننا ثلاثة فلابد أنها مستديرة ومخيفة".. هكذا رددت الفتاة ولم يسمعها حفيف الشجر قبل انسياب أوراقه متموجة في الهواء متفتتة دون أن يثلمها الندى.
يستيقظ فجأة برأس كبير وجسد اقل.. من شدة ما حملق في موج البحر العام الماضي صار هكذا، ولم يعد له ظل.. يستيقظ فجأة كل يوم وهو لا يدرى أن الفجر زال، ولم يشعر بالمطر الذى تهاطل ليلة أمس كانت قطراته تشبه أثداء القطة الصامتة التي تكرر تسللها من النافذة المستطيلة المكسورة وتدحرجها نحو فراش الفتاة.
عند انسكاب القهوة كان يستيقظ ثم يتأمل أوراقه وهى تتطاير من فوق مكتبه.. خطواته الهادئة في طريقها نحو همسات الفتاة والأم عن مشاهد البحر وحكايات الفتاة العاطفية ثم تصمتان.
تغمض الأم عينيها وتمضى الفتاة للغوص في مهدها وقد تجمد جسدها، فيختلط الحلم بالموت والطنين الغامض.. تنام صباحاً وتمتلك الشوارع والليل بين حناياها، فتظهر جميلة في حلم الأم داخل مركبة أسطورية لزفاف مستحيل يجرها فيل من اليمين وفرس من اليسار.
"كان لابد للكون من يمين ويسار حتى أستطيع أن أفتح عيني وأرى الحلم".. يتعالى فيه أثاث الزوجية حتى يلمس عنق السماء ثم يسقط، وتنبعث ضحكات ساخرة مجهولة، وتقفز حشرات بطونها تشبه ظهورها وتتناثر أطراف فراشات ملونة وبذور زهور تشبه شعر امرأة متقصف.
تبتسم الفتاة وتبدو كأنها تبكي متألمة وتسيل الدموع من عيني الفيل سميكة كقشور الأسماك ويتعالى خرطومه منثنياً عدة مرات بينما تهطل الدموع أمطاراً زرقاء غزيرة من عيني الفرس وينحني ظهرها إلى الأبد، وتجف السماء.
توقفت الأمطار هذا العام، وازدادت الأرض في حديقة منزلهم عمقاً، وظل القمر يظهر في النهار، يدور زاحفاً نحو ظلال أرجوانية مريبة ثم يختفي فجأة.
كانت، بعد كل عام، تجمع بطاقات الزواج المذهبة ثم تمضى تلملم بعض قصاصات الطريق المهملة هائمة تقهقه محنية الظهر تبحث عن أمها ومنزلها.
"لو كنت تركتها نائمة لعثرت عليها الآن"..
مطأطأة الرأس.. تهزه بين الفنية والأخرى، مرتعدة الجسد، تلوح لها النافذة المكسورة، فتقترب ثم تغيب عن الوعي قليلاً فتبتعد وتتجمع من حول ساقيها – وقد بدتا كفرعي شجرة – حفر مستديرة.
لا تنظر الأم إلى الأب كثيراً لكنها ظلت تحدثه عن السماء التي تغطي ابنتها كي تحميها من الخوف والمجهول، لكن الليل كان يلون السماء كل يوم ويهبط نحو تربة الحلم وفراش الفتاة، ويسكت الحديث.
اجتمع الأب والأم في الغروب عند قطرة مطر وحيدة التصقت بالأرض كي تدفئها، يبحثان عن ابنتهم بعد ثلاثة أيام من غيابها.. ربما هبطت تحت أرض الحديقة الظامئة، ولهذا بدت مبتلة اليوم فقط بعد أن امتصت خلايا جسدها كما بدت الأشجار أكثر ازدهاراً.
الآن، اصعدي بجسد كبير ورأس أصغر.. لم تسمع الأرض ولا قطرة المطر شيئاً..
ارتفعت ظلال رمادية ثلاثة، فعلقت بين السماء والأرض ثم دهسها قمر لم يشاهد الناس مثله من قبل، على حين تعالى ترتيل ونشيج وغمغمة تشبه الحفيف.. وظهرت جثة قطة تفوح منها رائحة أشجار على ناصية المنزل(*).



* من مجموعة ( القطار لا يصل إلى البحر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية، 2000)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى