عبد المنعم الجزولي - الواطي

كنت صغيرا جدا. لم أعرف بعد أسرار الحياة ولم أفك الكثير من طلاسمها والتي اعتقد جازماً أن بعضها يستعصم حتى على إفهام الكبار.

وجدت الباب الخلفي مفتوحا. وهو أمر نادر جداً. بل يمكن القول بأنه مستحيل.

فلم استطع مقاومة الرغبة العنيفة في الحصول على تفاحة، من شجرة التفاح المنتصبة في الجانب الغربي من المنزل. ولعلها كانت شجرة التفاح الوحيدة في المدينة كلها. وكنا لأجل الحصول على ثمارها - المحرمة بالقطع علينا- نتسلق سور منزل (أولاد بربر) رغم ما في ذلك من مخاطر قد تكسر رجل أحدنا، هذا إذا نجانا الله من السلك الشائك، المنصوب أعلى السور. ثم بعد ذلك علينا أن نتجاوز محنة "الواطي" كما كنا نسمى كلب حمدنا الله الذي جاء به خصيصا لحراسة الشجرة إياها.

في هذا الوقت بالذات يكون الواطي نائما. كنا نعرف مواعيد نومه، ومواعيد طعامه، وحتى مواعيده الغرامية. ثم وأن حدث أن كان صاحياً، ففي هذا الوقت يكون حتماً مربوطاً إلى سلسلته الحديدية. كان كلباً شرساً، لهذا يعمد صاحبه إلى ربطه بالنهار وإطلاقه ليلاً لحماية الدار من اللصوص.

انتابتني رعشة مخيفة وأنا أتخيل مذاق التفاحة في فمي. ولربما كان بإمكاني الحصول على تفاحة أخرى قبل أن أطلق للريح ساقي فراراً.

تسللت بخفة مطلوبة في مثل هذه الحالات. وسرت وقد اكتسى جسدي بشيء أشبه بالحمى. أو لعلها الحمى وأنا لا أدري. كنت قد اغتسلت بالعرق تماماً، وأنا أخطو بمحاذاة الديوان. كان باب الديوان مغلقا كالعادة، إعلانا بان صاحب الدار لم يعد من السوق بعد. الشجرة تقع مباشرة خلف الديوان. وعلى ابتداء أن اجتاز الفراندا الخلفية، والتي عادة ما تكون خالية. فأسرعت في خطوي مؤملاً اختصار الوقت الذي سأقضيه في بيت الجن هذا.

على غير ما توقعت...

سمعت صوت بكاء خافت كبكاء الأطفال. كنت عند عامود مدخل الفراندا. تسمرت في مكاني. ورغم الجهد الذى بذلته للعثور على أرجلي، فقد باءت كل محاولاتي بالفشل. ربما أن الله قد خلقني بلا أرجل وأنا لا أدري. ربما.

كان يشاع أن حمدنا الله يقدم طفلاً كغداء لكلبه كل يوم!
لم نعرف من أين يأتي بالأطفال ربما من مدينة أخرى.

حدثنا "حيدر البليد" انه شاهد عربة لوري كبيرة تقف أمام الدار ليلاً، وأن أطفالاً كثيرين قد أُنزلوا منها وهم مكتوفون بالحبال والجنازير، وزج بهم داخل البيت وهم يبكون. صدقناه طبعا فحيدر هو الوحيد فينا الذي يبقى في الشارع حتى وقت متأخر من الليل، يقضى معظم الوقت سعياً بين البيت ودكان صالح اليماني حيث تجلس أمه تبيع الطعمية. ولكن هل يتناول الواطي وجبته اليومية في مثل هذا الوقت. بالقطع لا. فنحن نعرف موعد غدائه بالدقة.

حانت منى التفاتة غريزية. كان الواطي ينام تحت الشجرة.

إذن فمن يأكل من!

هل حمدنا الله نفسه هو الذي يأكل الأطفال؟

قال الدسوقى ولد الشول بنت بربر أنه كل ليلة يسمع بكاءً كبكاء الأطفال وأنيناً ينبعث من وراء الحائط الذي ينتصب بين البيتين. وصدقناه بالطبع فكل الدلائل تشير إلى صدقه. أنا نفسي خيل إليّ أنني قد سمعت شيئاً كالأنين حين مات الجاك الترزي واضطررنا إلى النوم في الحوش الوراني في بيت العزاء الملاصق من الناحية الثانية لبيت حمدنا الله

رغم خطورة الموقف. ورغم أن المطلوب في مثل هذه الحالة بالذات ألا ألوي على شيء، إلا أن حب الاستطلاع كان قاتلاً. كان البكاء غريباً على مسامعي، ليس بكاء. أقرب إلى الضحك هو أو هو خليط بينهما. أصبح فضولي بحجم الفضيحة. لابد أن أرى الطفل الذي يأكله الرجل. فهي سانحة لن تتكرر مرة أخرى. كل ما هو مطلوب منى أن أتقدم نصف خطوة ثم أمد رأسي من خلف العامود و...أرى كل شئ دون أن يراني حمدنا الله. ثم حتى لو رآني، فهو منهمك بالقطع في آكل الطفل الذي أمامه ولن يضيع وجبته المضمونة بالسعي وراء وجبة سريعة العدو مثلي.

تقدمت مقدار شبر أو نحو ذلك. لم أقو على بذل مزيد من التقدم. مددت رأسي، وكان البكاء قد تحول إلى شيء غير مفهوم بالنسبة لي، لعله أنين أو ما شابه.

ولكن!

الرجل في السوق يبيع ويشترى. أنا متأكد من هذا. ولن يعود قبل المغرب. فمن يأكل من؟

هل فتحية بنت المخزنجى، زوجته، هي التي تأكل الأطفال؟ غير معقول طبعا! فتحية الظريفة والتي تعاملني بكل الحب والرقة لا يمكن طبعا أن تأكل الأطفال وإلا لأكلتني أنا شخصياً منذ زمان بعيد. كانت أمي ترسلني لأجلب شيئاً من بيتها، فكانت تمسك عنى الواطي وتقربني إليها وتضمني وتقبلني وتجلسني فوق ركبتيها العاريتين. نعم كانت تفعل أشياء غريبة بعض الشيء. كأن تفرك ذكرى بيديها أو شيء من هذا القبيل، وكنت أنا في المقابل أمسح فخذيها السوداوين تعجبا من لونهما الغريب واستدارتهما المدهشة. ولكنني لم أنطق بكلمة من ذلك، لأنها دائما كانت تعطيني قطعة من الحلوى بل وأحياناً تعطيني قطعة فاكهة غريبة المنظر ولكنها لذيذة الطعم. من يهتم بالمنظر؟ الطعم هو الأهم.

تشجعت قليلاً. إن كانت هي فتحية فيمكنني الادعاء بان أمي أرسلتني لاستلاف بعض الملح أو الكسبرة. مددت عنقي قليلاً فلم تطل نهاية العمود. كنت قد رأيت جانبا من الفراندا وبدا الصوت واضحاً. صوت فتحية نفسها في أنين متواصل. تشجعت عند ذلك وتقدمت قليلا. رأيت جانباً من السرير المفروش في الفراندا. بل وسمعت صريراً مزعجا ينبعث منه. هل فتحية بخير أم أنها مريضة.

طاف بذهني خاطر غريب. بنت المخزنجى وزوجها لم ينجبا أطفالاً. وبيتهما هو البيت الوحيد في الحي الذي يخلو من الأطفال. ربما حصل أهل الدار على طفل أخيراً؟ واجتاحني شوق عميم لرؤية الطفل. هل هو أبيض اللون قبيح المنظر مثل أبيه، أم أن لونه أسود وجميلاً مثل أمه.

تشجعت أكثر وتقدمت نصف خطوة. كانت كافية لكي أكون تماماً بمحاذاة عامود الفراندا. إن هي إلا حركة صغيرة من عنقي ويستبين كل شئ. مددت عنقي بهدوء. وكان الأنين قد بدأ يستحيل إلى شيءٍ غير مفهوم تتخلله استجداءات غير مفهومة هي الأخرى وزاد طين الفهم بلة أننى فوجئت بمؤخرة حمدنا الله العارية البيضاء بياضاً أقرب إلى الاحمرار، تماما في مواجهتي بينما بدت أفخاذ فتحية هي الأخرى عارية وسوداء ومصقولة أمام ناظري. ولم أفهم ماذا يدور بالضبط. هل يحاول الرجل قتلها أم هو يحاول أكلها؟ لعله قد استنفذ مخزونه من الأطفال فقرر أكل زوجته. ثم ماذا يتعين علي إن فعل؟

أحسست بأنفاس حارة تلسع مؤخرتي. فانتبهت فجأة.

كان فم الواطي ملتصقا تماما بسروالي القصير من الخلف. وقد كشر عن أنيابه ربما استعدادا لأكلي. كان موعد غدائه قد حان دون أن انتبه.


واشنطون
مارس2007

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى