خالد بابكر ابوعاقلة - مأذون الموتى -زغاريد فوق الأكفان

ذهب الى قبره في ذلك المساء .. كان القمر يصعد شيئا فشيئا في الافق .. كان بعض الناس مازالوا جالسين بعد أن صلوا المغرب في طرف زاوية المقبرة .. هذا القبر الملطخ بالخيانة والخداع .. حوله نمت بعض الشجيرات كما نمت في بعض ممرات القبور .. والده أصر على صنع قفص الدرابزين هذا قبل ان يختل عقله ويغرق في بحر الجنون .. كانت كتابة الشواهد مازالت واضحة وتبرق في ضوء القمر .. ولكنه عندما حدق في القبر مليا رأى التراب الذي كان مرتفعا قد انهال وهبط وكاد القبر ان يتسطح ثم لاحظ التراب يتقلب ويفور ويتأرجح .. فأحس بدموع حارة ممتلئة بالاحزان والخيبة تجري على وجنتيه وتهبط الى صدره وشعر بنفسه يشهق شهقات متتابعة كأنما روحه ستغادر جسده ثم احس بصوته يخرج بطيئا من حلقومه ثم سمع صوته يتحول الى عويل مكتوم ثم سمع حشرجات صوته المأساوية وهو يقول " الكلاب . الذئاب " .. كانت هذه هي المرة قبل الاخيرة التي يزور فيها قبر اخيه الذي مزقه لغم تماما بعد شهر واحد من خطوبته وتم نقله بطائرة مع كثير من الجرحي الى السلاح الطبي حيث بقي لمدة أسبوع يحاول الأطباء انقاذه بالعمليات الجراحية الى ان لفظ في يوم الجمعة السادسة صباحا انفاسه وفاضت روحه البريئة الى بارئها .. تذكر وسط دموعه واحساسه بالكآبة كيف جاء ذلك الشيخ بعد يومين من الدفن ليعقد قران أخيه الميت الذي شبع جراحا وتمزيقا الى درجة فقدان العينين تماما على واحدة من الحور العين كأنما لا يوجد من يقوم بتلك العملية في العالم الآخر .. عقد لاخيه المكفن بدموعه والآمه على إمرأة مجهولة لم يرها احد .. ولم يسمع صوتها ابن ادم .. إمرأة بلا أب ولا أم ولا أخ .. بلا ملامح ولا تفاصيل ولا ماض ولا مستقبل .. كانت إمرأة في مكان ما من هذا الكون الفسيح الذي تضل فيه الافهام وتحير فيه الاذهان ولولا اتساعه وغموضه لما شعر معذب بالعزاء ولما صبر على السراء والضراء .. عندما فرغ الشيخ المبتسم دائما من عقد قرانه الوهمي أشار لبعض النسوة المحجبات من ذوات الحواجب المزججة والوجوه الناعمة المتخمة المطلية ( بالكريمات ) فاطلقن زغاريد مأساوية طويلة كأنها شفرة سرية مع عالم الاموات والهياكل العظمية ثم أشار لبعض الاتباع المتحفزين فاخرجوا الحلوى من أكياس معهم وشرعوا في توزيعها مهنئين كأنما العريس موجود ومعه الاصدقاء والاصحاب وكأنما العروس مازالت غريرة في ( الكوفير ) تنتظر العريس ليحضر بالسيارة المزينة ليأخذها لتلك الليلة الرومانسية التي لا تنسي ولا تعود حينما تذهب .. عندما انطلقت الزغاريد من اولئك الساحرات المخدوعات اجهشت والدة مختار بالبكاء واصبحت تصيح " عرس .. عرس " ولكن زوجها المكلوم الذي كان مايزال على شاطئ بحر النسيان صاح فيها ان تسكت .. كان عقد القران لميت بلغم يؤلمه ويعذبه ويفتح امامه جحيم الاسئلة وصواعق الاجابات المستحيلة العبثية .. أما كان من الافضل أن تقرأ على روح إبنه الممزقة آيات وآيات من الذكر الحكيم .. ماذا سيستفيد من زواج لا يحضره هو نفسه ولا تحضره معه والدته ولا يتبادل فيه مع اصدقائه الابتسامات والامنيات المستقبلية .. كان يساعد في توزيع حلوى زواج مختار الذي تبقت له سنة واحدة للتخرج .. وينظر للشيخ بجنون .. وينظر لزوجته التي كانت تختنق بدموعها نظرة حانية مستسلمة لاقدار الدين واقدار السلطة واقدار المهووسين الذين استطاعوا في غفلة من الزمن والناس ان يلوحوا بالسيوف وان (يتمكنوا) حتى من الحور العين في عالم الغيب وان يقوموا بتزويجهن ممن يشاءون من موتى الاختلافات السياسية والحزبية وأن يصبحوا وكلاء لهن في عالم البشر وعالم الحروب والالغام .. هل كان هذا الشيخ المتعجل الذي لا يستحي من ربه والذي يفتح جروح الآباء والامهات بهذا الشكل الفظيع يظن ان مختارا لن يدافع عن وطن اجداده واهله وتاريخ بلاده الا بهذا الثمن المبخوس الوهمي المضحك ؟ لماذا يكون الطريق الى ( الحور العين ) هو الموت فوق انفجارات الالغام وليس الانتصار في معركة ؟ هل حصل احدكم على ( حور عين ) بعد معركة انتصار ؟ ذهب مختار وهو في ريعان الشباب مع هؤلاء ومات دفاعا عنهم فلم يكرموا مثواه بمجد انساني يخلد ذكراه وانما جعلوا من موته شهوة جسد فان ممزق ورغبة دنيا لم يطل بها الزمان حتى ترتوي وتشبع .. كثيرون ماتوا في الحروب منذ ان خلق الله الدنيا و الناس والسلاح فاقام الناس لهم الانصاب التذكارية كجنود مجهولين وأبطال معروفين عند ذويهم ولكن لم يصل هوس الناس الى هذا الحد الذي وصل اليه هذا الشيخ المسكين وزمرته في عقد قران موتى حروب على نساء موتى مثلهم في عالم هلامي لا احد ترحل فيه او كتب عنه كتابة مشاهد او متابع .. كان الشيخ يأكل الحلوى بنهم وينظر الى النساء اللائي أحسسن بأجواء الاعراس ويبتسم ويحثهن على مزيد من تلك الزغاريد الوحشية المدمرة وعندما وضع القلم في جيبه بعد ان كتب العقد سأله عبد المنعم الذي انزلق لسانه من هول المأساة .. اسم العروس منو يا شيخنا ؟ .. ولكن الشيخ جفل الى الوراء كأنما طعنه احدهم بدبوس في صدره ونظر الى عبد المنعم نظرة قاتلة مليئة بالاحتقار وقال له " هؤلاء النسوة بلا اسماء" قال له عبد المنعم بلا اسماء ؟ هل هناك عقد بلا اسماء .. حدجه الشيخ بنظرته القاسية حينما أحس ان هذا النقاش يمكن ان يتوج بجريمة قتل وأن هذا الفتى الحزين المكروب الذي تظهر على جلد وجهه آثار الدموع والنكبات والاسئلة الكبيرة يمكن ان يكون متأثرا بالمعارضة العلمانية او الشيوعيين فاشار اشارة خفيفة خفية بيده فظهرت مجموعة من الرجال كأنهم ( بودي قارد ) وبينما واصل الشيخ الابتسام والتحديج في النسوة المتبذلات ومضغ الحلوى بنشوته الاولى كان الرجال يقولون لعبد المنعم " في شنو ياحلو ؟ ما تخلي الشيخ يشوف شغلو .." فرد عليه عبد المنعم دون أن يقصد أي شئ محدد " ولكن الشيخ دا شغلو شنو ؟ " احدهم أطلق ضحكة مكتومة واحدهم ابتسم وهو يحدق في الحواجب الرقيقة التي تنم عن استرخاء مبكر وعن نداءات مكشوفة للقبول بالاعمال الفاضحة . واحدهم لم تتغير ملامح وجهه المتجهمة ولكنه فتح فمه وقال بهدوء شديد " دا مالك خازن الجنان .. لو داير (جقة ) من الحور العين بجيبا ليك ." " مالك خازن الجنان ؟. بتين بقى كده ؟ " فقال الرجل بنفس الهدوء " بقوا دا وناسو " وعندما حدق عبد المنعم ناحية الشيخ بجلبابه الابيض ولحيته الكثيفة الموخوطة وشاله المدلدل في صدره رأه يهز رأسه ويبتسم وأسنانه بيضاء كبيرة كاسنان ( امبعولو ) وعيونه الضيقة الحارقة كقدود في جلد قديم وراى عنقه معروقا مسودا كأنه شبح من اشباح العهد الفكتوري يختفي بفرائسه وعرائسه المقتولة في اقبية البيوت واحس عبد المنعم براسه يلف ويدور كأنه مربوط في طائرة انتنوف وبأن طامة كبرى ستهبط فوق رأسه وعندما زالت الغشاوة في زمن لا يعرف كميته رأى الشيخ جالسا مكفكفا وامامه في الطربيزة صينية ( استينلساستيل ) كبيرة فيها مجموعة من أطباق الصيني الغريقة الدسمة وفي المنتصف (ضلعة) كبيرة مكتظة محمرة والبخار الشهواني يتلوى فوقها كأنه من لغم وما ان قطع الشيخ قطعة من ( الضلعة) بكلتا يديه حتى صاح عبد المنعم وهو بين اليقظة والمنام وبين ان يكون انسانا عاديا يقبل موت اخيه وانسانا اخر يتمنى موت البشرية جمعاء فقال " يا مالك خازن الجنان .. انا عاوز اموت . انا عاوز جقة "
في لحظة من لحظات الليل الباردة في اكتوبر نصبت خيمة كبيرة تتدلى منها الشمعدانات وأضواء (الزقزاق ) وبريق ( الشلالات الضوئية ) ورصت كراسي حمراء ومقاعد وثيرة مبطنة بالحرير ولها حواف من الفرو الناعم ووضعت كوشة العروس في المدخل وبعد دقائق توقفت عربة مزينة بالورود والرياحين وفاحت عطورها الخيالية وملأت الافق وعزفت فرقة من نساء يلبسن الابيض الناصع الحانا كلاسيكية من الستينات ونزل مختار من السيارة متورد الوجه .. متوهج الجبين .. في عينيه فرح غامر غلاب .. وهو يتأبط عروسه .. كانت من اجمل مخلوقات الله .. شخص من عالم بعيد خلف المجرة .. مرسلة الشعر .. مكحولة العينين باهداب طويلة كظل شجرة .. وفمها ناعم كالتفاح الاحمر .. كانت مثله معطرة بالرياحين مكسوة بالورود فوقها هالات من جنات النعيم .. حدق عبد المنعم في اخيه وفرك عينيه وهز رأسه بعنف واراد ان يجهش بالبكاء .. لم تكن العروس سوى (سامية ) خطيبة مختار التي كان يريد الزواج منها قبل ان يقذف به اللغم في الهواء .. انها سامية التي تسكن في الحي المجاور .. كانت في حالة استرخاء ملائكي وهي تتأبط ذراعه بعد ان جاء بها من كوفير ( سونيا واخواتها ) في العباسية .. وكانت تحي اهلها واهل زوجها بكل ترحاب ومودة.. بحث عبد المنعم عن الشيخ الذي يعقد قران الموتى ولكنه لم يجده وبحث عن نساء الزغاريد فلم يعثر لهن على اثر وبحث عن الرجال الذين كانوا موكلين بحمايته وخطر بباله انه كان يحلم وان ذلك الشيخ كان في الدار الاخرة ولكن ما الذي ذهب به الى هناك ؟ .. هذا هو العالم الحقيقي .. العالم النقي .. عالم الاعراس والافراح والاحبة .. ان اخاه لم يمت انما مات ذاك الشيخ الملعون .. وبعد لحظات ظهر القمر فوق الخيمة .. منيرا باهرا عظيما وفوقه (كيوبيد ) يحمل سهمه الابدي .. واحس بان اخاه يعلو من الارض كانه ملاءة خفيفة ومعه عروسه التي أحبها منذ ان دخل الجامعة تتأبط يده كما كانا .. واحس بهما يقولان معا للجميع .. وداعا وداعا وداعا .. نحن ذاهبان معا .. سنعيش في مكان اخر .. لا تبكوا علينا .. نحن معا .. لن يحدث شئ . وبعد هنيهة تبددا في الفضاء .. وسكت صوت الموسيقى .. وران على الكون هدوء عظيم .. الهدوء الذي يسبق العاصفة .
تحولت الشجيرات الصغيرة التي أطلت برأسها مع المطر الاخير الى اشجار باسقة وارفة تتدلى اغصانها على قبر مختار .. وكان قفص الدرابزين على حاله ابيض نظيفا واسم مختار واضحا مكتوبا بماء الذهب لأن والدته تزوره كل اسبوع وتقيل بقربه وتنام في ظل الاشجار .. وكان القمر يقترب في كل ليلة وينام على الاغصان .. في المرة الاخيرة اقترب عبد المنعم من القبر مساء .. ورأى في زاوية الصلاة رجلين يتحدثان ويشربان القهوة ويضحكان باستهتار.. واحس بحركة في القبر وسمع اصواتا تنادي وبعض الناس كأنهم في سوق ينادون على بضائعهم .. ان الموتى احياء في القبور .. وفجأة سمع صوتا يقول له .. " كيف حالك يا عبد المنعم " ولكن العبرات خنقته فلم يستطع الرد وسمع الصوت الملائكي الهادئ الذي يتحدث من عوالم الغيوب والغموض السرمدي يقول " نحن احياء .. نحن احياء يا عبد المنعم " ولكن العبرات جعلته يعول من جديد .. فابتعد قليلا من القبر الذي بللته الدموع .. وشعر بساقيه يقودانه نحو الباب.. وما ان وصله حتى أحس باقدام خفيفة تتبعه .. وعندما التفت سريعا راى الشيخ مأذون الموتى بعينيه المقددتين واسنانه الشرهة ينظر اليه وجها لوجه .. في يده فنجان قهوة مازال البخار يتصاعد منه .. نظر لعبد المنعم وقال له " بتعمل هنا في شنو ؟ قال له مرتجفا والدموع تغرق عينيه .
" جيت ازور اخوي "
" شوف يازول . داير اقول ليك حاجة واحدة . افهما كويس . تاني ما اشوفك هنا . والناس الراقدا دي كلها فطايس ساكت . ما في عذاب قبر . ولا في قيامة . ولا يحزنون . يلا انكشح .. "
بعد أيام قتل عبد المنعم بطلق ناري في رأسه من بندقية بالخطأ في احد اعراس الموتى ودفن بالقرب من اخيه وها هي والدتهما بعد وفاة والدهما تأتي كل اسبوع لتجلس قربهما وتقيل معهما وتنام في ظل الاشجار.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى