مصطفى مدثر - كوب شعيـر

mustafamudathirs.jpg


لا بأس عليك البتة أمام المرآة، والوالدة تغدو وتروح وهي تردد برتابة الصباح: يا ولدي الماسورة! يا ولدي الماسورة! الماسورة في هذه اللحظة كأنها شعيرة دموية في نسيج مجهول. لا أثر لها عليك إذ أنت، لا بأس عليك، شابٌ يتهندم ويدور حول نفسه دون أن يعرف بالضبط النقطة التي دار من أجلها ثم يرش من قارورة العطر الفارغة تحت إبطيه!

تفعل هذا كلما خرجت بحثاً عن أفكار.

نعم إقترب قليلاً من المرآة وقلها بلا مواربة: أبحث عن وحي!

أدمنت صيد الوحي يا صاح فأنت تبحث عن أفكار لا معادل لها في كلام الناس وفي هذا أنت لا كاتب سيناريو، لا صحفي، لا .. لست كسائر الذين يكتبون أو يفعلون بأفكارهم الأفاعيل. تبحث عن أفكار لم ولن يتم تسويقها.

تقف أمام المرآة كأنك على وشك اللحاق بحفل ما أحداثه بدأت تدور. وغالباً ما لا يكون الأمر كذلك فأنت غير مكترثٍ لدوران الأحداث أو عدمه. فحفل متخيل هو في عظمة حفل حقيقي إن لم يتفوق عليه فتفحص قميصك البيجي حائل اللون بحثاً عن بقعٍ جديدة.

ولا بأس كذلك بهن!

ثلاث شعرات بيض على فودك وللزمن أغراضه الصغيرة!

عندما تخرج، بعد برهةٍ، إرخ قليلاًً ذلك الحبل الذي يلجم صيد الأمس من أفكار. دعها تركض كالحملان. بس تأكد أن سياج مخزونك اللغوي مغلق بإحكام فللغة ذئابها.


***

ها أنت تنسرب عبر طرقات المدينة التي لوعها الصيف. البشر في مثل هذه الساعة من الظهيرة يود واحدهم لو يلتقط ظله الساقط تحت قدميه تمرغه الأبواق والضجيج. الساعات تتكتك للأمل في تنفس الصعداء عند أنسام المساء. وبعض البلل قد يفيد! فهاهم الناس يشدون خراطيم المياه ليرشوا واجهات المحلات التي تهدلت داخلها أجساد النساء بأشواق مبهمة.

خذ النساء أو الباعة المعروقين أو خذهم معاً على محمل بحثك عن أفكار.

هذا البائع لا علاقة لنظرة عينيه الغائمتين برحلة المقص إلى أعلى حيث يكتمل إنفصال قطعة القماش التي طلبتها هذه المرأة. غيوم عينيه لا يفسرها هذا الحر وحده، فهناك دائماً باعة مسكونين برغباتٍ مستحيلة وهناك أيضاً نساءٌ يتمددن على هامشٍ وثيرٍ توفره ريادة الأسواق ويفصحن عن لغةٍ بكماء تنتصب لها حروف الدلال. نساءٌ بعيونٍ غائمةٍ أيضاً. فخذ أنت ما يوحى إليك ولا تكترث للغو!

إدلف داخل هذا الدكان واستمع لما يدور بين أُنثى بديعةٍ وبائعٍ مصاب بعضال التمني:

- ضعي منه كل مساء.

- في أي لحظة بالضبط؟

- قبل أن تنامي (غلقي الأبواب وقولي هيت لك)

- أخاف!

- لا تخافي ( لن يرانا، أقصد، لن يراك أحد)

- أخاف أنسى أن أضعه (فخاطري يتوه في لحمة الرجال، زحمة الرجال بحثاً عنه. أحتك في ركضي بأجسادٍ تمور).

عفارم عليك! فما بين الأقواس إنما هو أنت تتفادى تلصص اللغة وحياً.

إنسرب الآن فالبائع يشير للافتة لا توجد وظائف شاغرة من باب الإستعاذة منك.

أعرف أن المظنون عندك أن لا تشتري هذه الانثى ما عرضه عليها البائع لكنني أسمع صوت الآلة الحاسبة يسجل إنتصاره على نسيانها المزعوم. إنه حتى لم يتوقف عند شامة صغيرة بين عينيها ليرى إن كانت "نساية" حقاً بل إنتقل الى جيبها مؤثراً أن يبطل نزوته الصغيرة، أن يظل أسير سياقٍ لغوي أجوف ومكتمل، كما يحلو لك أن تقول.

إنسرب بينهما شفيفاً كطيفٍ ألمعي وأخرج من حيث خرج ذلك الكلب الذي اقتحم الدكان هرباً من حر الطريق فإشتركت في زجره كل أصوات النهار. تخرج وراء الكلب فيظن السابلة أنك أنت الذي طرده من المحل لكن الكلب الذي لا يهابك يقع في المياه التي دلقها الرجال، قريباً منك بما يكفي لكي تكتشف أن نظرته إليك محرجةً لك بشكل ما.

***

الرجال لا يدركون أن إسرافهم في إهراق الماء يرّقّم إسرافهم في تمعن المارة واللغو في خلجاتهم فكأن خجل النساء العابرات الذي هو السبب، بالمناسبة، في إلتفاف أجسادهن، منشأهُ الرجم بالأفكار الذي يتعرضن له:

أحدهم: هل رأيت هذي؟

الآخر يتابع أردافها دون أن يرد.

أحدهم: لقد عملت فيّ عملية. أرأيت مشيتها؟

الآخر كأنه يخاطب المرأة نفسها: أعرفها جيداً!

وبعيد إبتعادهما عنها، يباشران تحسساً غريباً في ذلك الموضع كأنها حمى الدريس أصابتهما بغتةً.

- لكنك مواجه بمشكلة فعملية صيد الأفكار هذه تتطلب تسجيلاً لوقائع.

- لا علاقة لي بالوقائع!

- كيف تسجل الأفكار التي تزعم أنها مبرَّأةً من مفردات الحديث!

- قد ينفعني جهاز يمكن حمله في الجيب أو لبسه في المعصم. جهاز يتعرف على الفكرة في إهابها الكيميائي ويفك شفرتها. هنالك شواهد على بشر مثلي تعاملوا مع أفكار خارج جميع سياقات اللغة.

- الأنبياء مثلأ؟

- .....

- عموماً لا تقلق فالبشرية تحرز من أجلك تقدماً سريعاً وفي كل المجالات؟

***

لا تقلق وواصل توهانك في الأزقة والحواري وأدلف إلى الأنادي حيث هناك فرصة عظيمة للإلتقاء بأفكار لا تنكر اللغة التي تخرج فيها فحسب بل تهتكها وتمزقها إرباً.

إجلس إليها تلك المرأة مفرطة البدانة، الجاز بت عبد الماجد. تسل من ثنايا تابعةٍ لفخذها زجاجات العرق أو تلقي بعقب سيجارتها لمخمورٍ ألح عليها. هي إما مشعلةٌ سيجارة أو قاذفةٌ لها بعيداً وفي أي إتجاه.

- هوي يا الجاز! يوماً ما ستحرقين حفيدك النائم جنبك. ألا ترينه؟

فيعلق أحدهم وهو يكابد لذعة الكأس الذي شربه:

- الجاز وشمس الصيف! الجاز كمان بيولع سجاير يا إخوانا؟

الزجاجات التي تبيعها الجاز قيل إنها أصلاً تتوغل في ثناياها فارغةً ليتكثف داخلها شيئٌ من الجاز نفسها.

- سمٌ هاري! كما يصفه شاربوه في مفارقةٍ طريفة.

والجاز تجيب على كل الاسئلة بالصمت. لا أذكر سؤالاً واحداً وجد إجابةً عندها! فهي إن هزت رأسها إيجاباً بصقت على الفور وبدا عليها إعياء كأنه دنو الأجل. الجاز تصمت لأن الكلام يقوم بهتكه الرواد أو ربما هي مثلك تتصيد الأفكارأو ترصد النوايا. وفي مسألة النوايا فهي مثل صائد "جداد الوادي" في حكاية ما، ألقى بالنبلة جانباً وأخذ يلتقط بيديه ما شاء من الدجاج. فالنوايا وافرة ومبذولة.

أما تكشيرات وإيماءات الجاز الغامضة والتي هي وليدة تربصها بنفسها فيحسبها العابرون من زبائنها موجهة لهم فيخرجون مسرعين تاركين وراءهم إمتعاضهم ضمن المشاعر والنوايا التي تترك عادة في مثل هذه البيوت.

ولا يفوتك أن الجاز، ترصد أيضاً، المداولات المفضية الى نصف زجاجةٍ آخر، وخيبات الأمل والقسمات الضيزى وترعى قطيعاً من الشهوات، خضراوات يكبرن تحت تحرشات عيون السكارى الحمراوات. وتعلم أنك تأتي هنا بنيةٍ ما مختلفة بل تكاد تسألك هل فهمت ما يقصد هذا أو ذاك من الرواد. كأنها نصبتك مراقباً ثانٍ غير معلن لإندايتها لكن هذه الوظيفة غير المعلنة لا تعفيك من سؤالها عن ثمن الكباية:

- يا الجاز يا اخي هي دي آخر كباية ولا شنو؟

تنظر إليك كأنها تنفي عنك صفة المماحكة ثم يبدو لك أنها لم تكن تحادثك أصلاً. تأخذها منك إنتباهةٌ لقادمٍ جديد.

***

حل المساءُ وأنت لايص في النابض من أرجاء المدينة والحر يقذف بجزيئات سائل الجاز الزعاف في منعرجات دماغك. تتحسس جيبك لازال هنالك نصف للساعات القادمة ثم فجأةً ومن زرقة السماء من شقوق الأرض يخرج الرجل الذي وعد والدتك بوظيفةٍ لك. فماذا أنت فاعل؟ أنت لا تصلح الآن لمقابلة مخدم محتمل. إختبئ خلف كوب شعير فأصحاب الأعمال تتعذر عليهم الرؤيا خلال كوب شعير.

***

الشجن وحده هو الذي يدعوك للتماسك حتى لا تسقط من على ذلك السور الذي يفصل النيل عن أطراف المدينة المتطفلة على مشهده. الشجن وربما إنتظار لحظةٍ تالية يضمن فيها القلب خفقاته الصاخبة. سورٌ ماكنٌ وقصير بناه الغزاةُ يغري بالركض فوقهُ في المكان الذي يغفر فيه الأبيض للأزرقِ إقتحامه وتتعالى "الطوابي". ها هي بوابة نادي الفنانين. مكانٌ مناسبٌ لولوج أول المساء. أما كانت بداية السهرة دائماً على شاطئ النيل؟ كان مجيئك الى هذا النادي أمراً غير وارد في تسكعاتك السابقة إلى أن علمت منه، دون أن يقصد هو، أن هناك مكان به أفكار لا علاقةَ لها باللغة. كنت قد سألته: يا خي أنا بفتش على مكان فيه أفكار متحررة من اللغة. وكان قد سألك: هل تكتب القصة؟ هل تقول شعراً؟ وعندما إنبريت له في حديثٍ طويل ليس فيه إجابة على سؤاليه قال لك جرب الموسيقى! وأردف على غير عادته في الكلام: الموسيقى شئٌ مختلف. ما معنى صول لا سي دو؟ معناها فكرة / حالة شعورية.

- فكرة / حالة شعورية؟

- فكرة! .. فكرة بس .. ما في كلام! حالة!

ورغم أنك تخشى أن يكون قد أفرط في الشرب مما قد يعني عجزه كعازف من إحراز عدّاد تلك الليلة، إلا أنك تصيح:

- هذا هو المكان!

إبدأ بتأكيد فرادة المكان. هنالك موظف مسئول عن دفتر قيد عقودات الفنانين لكنك تكاد تقطع بأن قلمه يرتبك يومياً من وطء صيحات الكمان. وهنالك خفيرٌ تَحَوّل بفعل قهقهات الأكورديون الى شبحٍ أدمن التمايل على همس اللحون. قدرٌ عالٍ من ذهاب الرتابة وخمرٌ سريٌ ينسرب في المكان. ثم يصرعك حديث خاطفٌ حول مفتاح. تصور مفتاح! أو يأخذك إثنان يشتجران في مذهب الدوزنة. وفوق هذا يمكن أن تندلع موسيقى في أي لحظة فتسقط اللغة أمام مشاعر لا وصف لحيويتها. تسقط فلا يسمع منها أكثر من طنطنات متعاقد شرب مقلباً من فنان!

- لكنه عمل مرهق في النهاية. العزف أعني!

يقول لك هذا ثم يضع الآلة في جرابها ليخرج بدلاً عنها فتيلاً يمده لك. مشكلته أنه لا يدري ما تقصد أنت بالضبط. يسألك: عاوز؟ ثم تجحظ عيناه: شكلك كده كنت عند الجاز الليلة.

وقبل أن تؤكد صحة تخمينه ذلك يسألك متقمصاً ذلك الكائن الآخر جامع العدادات:

- عملت شنو؟

فكأن وتراً مشدوداً إنقطع!

تطرق وتقول: لا شئ! ثم تسأله بغتةً لتخرج من فكرة العداد:

- قلت لي أسرار الغناء تتآلف هنا قبل أن تنطلق الى الحواري؟

فيرخي جفنيه ليسمع صهيل الحافلة تلم العازفين في بطنها لتنطلق خلف عربة المغني والحافلةُ لغةٌ في التواصل.

***

عندما تمكن من ظهر الحائط، انتبه لأن الماسورة التي تسلق عليها ازدادت هسيساً. تذكر الوالدة تغدو وتروح وهي تردد في رتابة الصباح: يا ولدي الماسورة. وقبل أن ينزل من الحائط داخل المنزل سمعها واقفةً في ظلام الحوش تسأله:

- بسم الله! ياولد انت وين من الصباح؟ طالع الحيطة مالك؟

ولكي يخفي "خلعته" إحتمى بعبارته المفضلة:

- كنت افتش!

ضحكت وسألته:

- تفتش شنو؟ انزل تعال.

نزل منزعجاً فهو لا يرضى أن يسخر كائن من كان من مسألة بحثه هذه. غير أن امه كانت في مزاج الفرح فقالت له:

- مبروك!

تطلع إلها متسائلاً. فواصلت قولها:

- الراجل قال لاقاك في السوق واتفق معاك على الوظيفة.

قفز الى ذهنه على الفور كوب الشعير! كانا كوبين إذن أو ربما نخبين. الله يجازيك يا الجاز!

هتف وهو يتقافز مبتعداً عنها كطفل حردان:

- موارك؟ أنا أمسك موارك في مطعم؟ أنت تتمني لي شغل زي ده؟

أجابته بهدوء: نعم ثم أضافت إضافةً مبهمة وصاعقة:

- ح تمسك موارك ملونة لكي نرتاح من حكاية افتش هذه!

سألها وبنود إتفاقه مع الرجل تتصاعد من بين جزيئات سائل الجاز الزعاف:

- ماذا تعنين بموارك ملونة؟

لم ترد عليه لفظاً بل أشرق في عينيها بريق غريب أقوى من الرجاء وأشد ألقاً من الأمل الأكيد.

أحس بأن دأب النهار ورهقه لم يجودا عليه بمثل ما جاد به ذلك البريق من حجج لا حاجة لها بالكلام. فأطرق يجذب خيوط البدايات الجديدة ويتفحصها بعناية ليجد أنها هي الأخرى ملونة، تماماً كالموارك في مطعم ذلك الرجل.



* sudan4all

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى