محمد المصطفى موسى - فضل المرجي .. وذَنَب "الخواجية"

"١"
آآآه.. فلتت من بين شفتيه المطبقتين .. من دون أن تدرك وقعها أي أُذن تسترق السمع في هذا المكان المحتشد بالأجساد والوجوه. تلاشت كما ظلت الأشياء تخرج للوجود ثم تنزوي عن الأعين منذ بدء الخليقة . قلب بصره فيما يليه من الوجوه التي تراصت أمامه بذلك القدر المزعج من الزحام الذي ظل يميز مترو أنفاق لندن المائج بخلق الله في تلك الساعة المبكرة من مساءات المدينة . لسببٍ ما ظلت قدماه تسوقانه بإصرار نحو المقطورة الأخيرة للقطار المتوجه لأقصى شمال لندن حيث تقبع شقته الضيقة بضاحية برنت كروس . ثمة أشياء عدة - في حقيقة الأمر - ظلت تجتذب الطاهر حيماد إلى موقعه المعتاد بمؤخرة القطار .. كان في مقدمتها بالطبع كثرة المقاعد الخالية نسبياً بذلك الموقع القصي على الأقدام المتعبة بفعل ساعات العمل الطويلة المنهكة. فليس هناك ما هو أيسر على الأجساد المُثقلة بالنهك من إختصار كل شئ بالقفز نحو باب أول مقطورة بمقدمة القطار بلا إكتراث لما اكتظت به من الركاب . أربعة أسابيع انقضت وهو يملأ حدقتيه من وجه تلك الفتاة التي اعتادت على الجلوس بمقعد المنتصف من صف المقاعد المقابل لموقعه . أسابيع أربعة .. التقت فيها عيناه بعينيها في مناسبات عدة ما زالت تحتفر بأغوار ذاكرته التي كانت تختزن التفاصيل كما يختزن البخيل كنزاً من المال . كان بينهما تعارفاً صامتاً وثقته الأيام بتتابعها الذي يبدد الوحشة الملازمة لوجه الغريب كما يبدد ماء الصنبور أثر المساحيق من خدي فتاة ما فلا يترك منه شيئاً . كانت فارعة الطول ، حسنة القوام ، لها وجه حلو مستدير تصطرع فيه ملامح سكسونية بائنة فضحتها العينان الخضراوان الواسعتان والأنف الحاد النهايات.. مع ملامح إِفريقية تبدت بجلاء في شفتيها المائلتين إلى الغلظة دون الاقتراب من مشارف الغلو... "أب من أرتيريا و أم إنجليزية من ميدلسبرة على الأرجح .. أو .. آآآ.. أم سمراء مهاجرة من إحدى جزر الكاريبي وأب أسكتلندي من نواحي بيلزهيل حيث يمتاز الناس بالأنوف الحادة والدفء الرحيب الذي يجعل من الغريب واحداً من أهل القرية " .. هكذا ظلت خواطره تتدحرج في رحلتها المستديمة من مرتفعات الشك إلى أودية شتيتة من اليقين دون نهاية حاسمة ..كعادته أفلح في استدراج أفكاره نحو منطقة وسطى .. أب أبيض وأم سمراء أو العكس.. أليس في هذا ما يكفي ؟ .. فأوصد بذلك باباً من الريح المربكة لطالما عصفت بذهنه عند مخاض البدايات . البدايات نفسها كلمة لم تكن من واحدة من مفردات قاموسه المفضلة . ذلك أن رفيقه المتشائم في رحلة العبور من شواطئ الموت للحياة.. "محمدو ود الرقيّق" لطالما اغتال أحلامه في مهدها الأول وهو يذكره بأن اللاجئين الذين يعتاشون على أموال الضمان الإجتماعي الزهيدة مثله حُرم عليهم شيئان في لندن .. العمل و مباهج الحياة .. "أنا وأنت ما زلنا مدونين في دفاتر هذه المدينة بقلم الرصاص".. طاردت ذهنه عبارة "محمدو" هذه حتى كرهت نفسه قلم الرصاص وسيرة الورق و الوراقين . قاده استهتاره العريق لتجاهل تحذيرات صديقه القلق .. فعرفت قدماه خطى مبكرة نحو نوادي الليل في نواحي كيلبرن قبل أن يغريه مزيدٌ من التجاسر على التقدم نحو نظيراتها في تشلسي ونايتس بريدج . هناك أدرك بوعي مرتجع سذاجة مخيلته حين كان صبياً وهو يتصنت لحكايا جده فضل المرجي ود عثمان عن نساء الخواجات في مجلسه المحتشد بالمستمعين بقرية " الله كريم " الواقعة بمواجهتها الضيقة على طريق الاسفلت المتمدد بين مدينتي الخرطوم و الأُبيض . لابد أن جده الذي كان يعمل لبعض الوقت كخفير مخزن بالفندق الكبير في خرطوم الأربعينيات بعهدها الامبريالي المجيد قد اختلق جل أساطيره التي تقول أن كل امرأة بيضاء ما هي إلا جنية تمشي على أقدام إنسية .. كل واحدة منهن لها ذيل يكاد يلامس الأرض لو تُركت الأشياء على طبائعها ولكن فيهن من يفلحن بإخفائه خلف التنانير الضيقة ليبدو كل شئ على غير حقيقته .. لذا فكلهن ماكرات .. مراوغات و متوحشات و قادرات على فعل ما يردن بلا وازع.
عليه الآن أن يكنس من عقله القروي ذرات الأتربة التي طالما رقدت في خلاياه لتحول دون توهجه بحقائق لم تغمره بوهجها اللألأ إلا عندما تنسمت رئتاه هواء العالم المتحضر. نساء الخواجات كسائر نساء الأرض فيهن الساذجة والغافلة والماكرة واللعوب .. البدينة والنحيفة .. ممتلئة الساقين و رقيقتاها .. هاهو يحطم نظرية جده الموغلة في الخرافة وهو يصادق منهن من يشاء بالرغم من لكنته الإنجليزية المضحكة وقاموسه المتواضع من الكلمات المصفدة في أغلال مثقلة بالركاكة . كان كل ما تركه من ماضٍ سحيق بقرية " الله كريم" لا يتعدى عنده أن يكون كذبة كبرى عليه الآن أن يمزق دفاترها المملؤة بالتخرصات والأوهام . حسناً فعل حين ابتعد عن صديقه " محمدو" الذي مازال يحلم بعودته الظافرة إلى
" الله كريم " ممنياً نفسه بالإقتران ببنت عمته " نفيسة" . صدق من قال أن صحبة ذوي الأحلام الساذجة لا تبعث على شئ سوى الفشل وخيبة الخسران . قطعت رنة من هاتفها المحمول عليه خلوته الطويلة مع ما نازعه من خواطر . استبانت أذناه عبارة " لندن زوو " وسط سيل من الكلام اختلط وقعه مع صرير عجلات المترو على قضبانه الحديدية .. الساعة العاشرة من صباح السبت .. آآآآ .. هو يوم الغد إذن ؟ .. لسببٍ ما ظل السبت عنده أحب يومٍ من أيام الله السبعة . لا مندوحة إذن من أن يكمن برمحه المتربص بحديقة حيوانات المدينة بذاك الصباح ليجندل هذا الغزال برمية من رمياته التي لا تخطئ الهدف . وعندما لاح رصيف محطة كامدين تاون من النافذة.. نهضت هي نحو باب المقطورة متحاشية على - غير عادتها - إصطياده بنظراتها الجريئة الساذجة .. فألهب تجاهلها الغامض في نفسه المتوثبة شعلة متقدة من التصميم والرغبة.. و الرجاء..

"٢ "
السماء ما زالت تكوم سحبها حول الشمس دون أن تحجب عن أرض المدينة ضوءاً غازل بوهجه أعين مرتادي حديقة الحيوانات . المقاعد ممتلئة عن آخرها بالرجال والنساء والأطفال .. الايسكريم و شطائر الهوت دوغ يستدرجون المارة نحو منافذ البيع بالعربات الجائلة بين حدائق ممتدة وأسوار مرتفعة حُبست خلفها زواحف وقوارض ووحوش كاسرة . رمق ساعته بحنق وهو يرى عقاربها تقترب من الثانية عشرة .. سرعان ما أيقن أنه يبحث عن إبرة وحيدة وسط حزمة من القش المنبسط في فضاء لا إنتهاء له .. ورويداً رويداً تسرب إلى نفسه يأس حاصر قلاعها كما تحاصر الجيوش بجحافلها المدائن العنيدة فتدك أبوابها من كل مدخل . لم تعد خيبته لتخفى على عيني أي مراقب لصيق .. وإن بدا هو اليوم على الرغم مما وضعه على جسده المتماسك من ثياب غالية الثمن .. أشبه بدمية لم تجد ما يليق بها من الإهتمام .. الإهتمام الذي توجه إلى ما حوله من الأشياء في هذا المهرجان الكبير الذي استدرجت تفاصيله نحوها ما يكفي من الزخم . لنطوى على نفسه منكسر الفؤاد ومحطم الفكر والفكرة.. فارتمى بجسده على أحد تلك المقاعد المقابلة لقفص طاؤوس ما نفش ريشه الملون لما حوله من الناس كما تنثر السماء قوساً من القزح بعد يومٍ مطير. رآها هناك بلا آي مقدمات .. فرقص قلبه طرباً حتى كاد أن ينخلع من صدره المتوثب .. حبس أنفاسه بالكاد وهو يتقدم نحوها مبدياً صبره المعتاد عندما يقترب برمحه من الهدف . التقت عيناهما في منتصف الطريق فتوهجت في حدقتيه نارٌ من العزم على بلوغ النهايات دون اعتبار لتمنع البدايات الذي طالما سحقه هو بما تعود أن يبديه من إصرار . رتب كعادته الكلمات في ذهنه المشحون بشحنات عالية من الترقب الجامح فأحسن اختيار تشكيلته المنتقاة من التعبيرات التي مهدت الطريق لإنتصاراته في مرات عدة من قبل .. ولما لم يتبق بينهما سوى خمسين سنتمتراً فقط .. مد يمناه لها كابحاً جماح قدميه المتسارعتين ومتمهلاً قليلاً في تقدمه نحوها . وهنا حدثت المفاجأة الثانية التي زلزلت بدويها كيانه كما تتزلزل الأرض بهزة عنيفة عاصفة لا تذر من بعدها أي من خلق الله. أصل الحكاية أن كفه المنبسط لم يصافح شيئاً سوى موجة من الهواء .. إذ سرعان ما امتدت نحو كف " الصيدة " التي أجهد نفسه في اقتفاء أثرها .. يدٌ أخرى غليظة اشتبكت أصابعها مع تلك الأنامل الحلوة .. قبل أن يغزو عينيه مشهد رجل ضخم الجثة وهو يبتعد بفتاته التي أعطته ظهرها وقد بلغ الحبور من وجهها الجميل أبعد مبلغ. ثمة ذيل ما رَآه يتدلى من خلفها قبل أن يغيبهما عن بصره جذع شجرة ضخمة من أشجار الصنوبر .. " الخواجية أم ضنب جنية سحّارة.. توديك البحر و تجيبك عطشان" .. هكذا حاصره صوت جده فضل المرجي بلهجته الواثقة المنتصرة فصم هو أذنيه بعناد دون أن يفلح في اخفات صداه المتردد .. تسرب الخَوَر إلى جسده قبل أن يهبط الدم المتدفق في أوردته نحو قدميه بسرعة فأحس بما يشبه الدوار قبل أن يجلس على العشب وحيداً يناجي خيبته.. مكيلاً سيلاً متصلاً من التهم لغبائه الذي منعه من التنبؤ بأن صاحب مكالمة المترو بالأمس لم يكن سوى ذلك الرجل الذي يماثل في ضخامته أحد ديناصورات العصر الحجري ! ومنذ ذاك اليوم ألفى الطاهر نفسه على حالٍ مختلف ..ثمة هوس ما غَلّ بقيده ميله الطبعي نحو التسارع العجول لنهايات كل شئ دون التيقظ للتفاصيل الصغيرة.. هوس ما حال دون إيغاله في أي شئ دون قراءة ما وراءه من الأحابيل والحيل .. هوس ما لم يجد له مسمى أكثر إفصاحاً عن طبيعته سوى .. "هوس الخواجية أم ضنب " !




* غن نادي القصة السعودي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى