هشام ناجح - في انتظار الحكم الأخير

السائح الألماني إيمانويل غندبرغ لم يكن يعلم أن نهاية رحلته لإفريقيا ستنقضي في جنوب السودان. الثقب الصغير في أنبوب الزيت لا يدعو للقلق. الشمس تبسط خيوطها الأولى اللاذعة على ضفة النيل الأبيض كأنها غطاء الجحيم، فلا مفر منها إلا الغابة الكثيفة الخضراء التي تترامى على مد البصر. تتناهى إلى سمعه أصوات مرعبة كأصوات الشياطين التي تسكن الأغوار السحيقة. تقترب الحمحمات مليا لم تكن المفاجأة سارة، تحيط به مجموعة من الشباب الأقوياء المفعمين بروح نياكانق التي تحرس قبائل الشلك وتبارك حياتهم .
الرث كورفافيتي سيتوج ملكا هذه الأيام ، الكل منهمك في إعداد العاج المقدس وخياطة كساء جلود الغزلان النادرة وصنع حراب القداسة من اللجين الخالص. لم يكن إحضار "العنبح" بالأمر الهين إنه أمر ملح لتزيين الرث، سيجوبون النيل بقوارب جديدة للبحث عنه .
يرنو غندبرغ بعينيه إلى السماء. الحبل الغليظ يؤلم جسده المشدود إلى شجرة القداسة. يبدو أن المستشار الألماني لم يحرك ساكنا أو ربما لم يسمع بهذا القطر الخالي من قبل، هكذا تغلي الأفكار في رأسه. لسعات الذباب تجعله يئن في صمت لكي لا يثير حقد الآخرين. الاجاياء الأفاضل يرمقونه بنظرة جبارة قد يحددون مصيره لكن مراسيم التتويج تلهيهم عن ذلك. القوة والبسطة في الجمال والفضيلة كلها من دواعي الاختيار الصائب للملك. لا زالت روح نياكانق ترشدهم لاختيار العروس البكر التي ستسعد كورفافيتي. قد يعجز عن محق شواظ الشمس كما فعل الجد نياكانق عندما أجبرها على الخنوع، فكانت بردا وسلاما برشة واحدة من حزمة الأرز البري المليئة بمياه النيل العظيم. يطرق كورفافيتي طابعا على شفتيه ابتسامة باردة فيحدث نفسه:
" إن الفضيلة والقوة تسمو بالروح إنني الملك الثالث والثلاثون الذي سيجنب قبائل الشلك مشقة السفر في الروح، فانعم يا نياكانق بالسعادة الأبدية. يا لك من إنسان إله "
تقترب منه الفتاة الأرورو محاولة إغراءه بحركاتها الجذابة وقوامها الممشوق كسمك البوري الذي ينط فوق ماء النهر وقت الغروب، لكن البيعة على الوفاء والفضيلة تمنعه من تقفي أثرها، فيعدل عن هذه الرغبة الزائفة.
تستمر الرقصات. يتناثر الغبار في شتى الوجهات راسما خيوطا تبتلعها أشعة الشمس. يحمحمون بحلوقهم كأنهم قبيل من الجان يفضي إلى منابع الروح المبهمة.
يرنو غندبرغ بعينيه منتظرا الحكم النهائي للاجاياء .


.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى