عثمان محمد صالح - سقيفة السلطان

اختفت السقيفة التي ما أظلت أحدا سواه. بهيكلها الخشبي المهيب. مسيراتها الضفيرة من سعف النخيل. ذات العماد مغروزة الأوتاد في تربة انكسار الجفون.

يُرى رأي العين في غيابه عن حاضرة المملكة ملثما كالطوارق في طوافه القريب على الزرع والضرع فيما وراء صهريج المياه العاطل أو البعيد على الأمصار الشرقية منحنياً عند الباب العالي، يدخل ويخرج بلا تحية.

نباتي. تأتيه بالطعام والشراب آنية الإشارة. ذات الطعام والشراب كل يوم. الشاي الأحمر مع القرقوش الخارج لتوه من الفرن الترابي - الضريح - في الأبكار، 3 بيضات من دجاج البيت، جبن وعسل من قصب السكر، وفي الغداء بقول مسلوقة أو فطائر مغمسة في اللبن الرائب، يكتفي في العشاء بكوب حليب، ولا يعدم طبق الخوص التمر ليل نهار.

لا يهش إلا في وجوه ذويه من طرف الأم، ولا تمتد يده إلى خبيز الموائد في الأعياد والأعراس والمآتم. يسافر بغير وداع متعمداً اختيار التوقيت الذي يكون فيه أهل الدار نيام.

كان يعاني من آلام مبرحة في المعدة ترتد بداياتها إلى طلاقة الشباب، لكن أحدا لم يسمعه وهو يتوجع. وعندما تشتد عليه وطأة المرض المزمن تربد ملامحه ويكفهر اللثام. بادي الضجر من ثرثرة المعاودين وخاصة النساء الطاعنات في السن. ينسحب من الحوش المستباح بأصوات العباد محكما على ديوان العزلة السلطانية رتاج اللثام. الديوان الخالي من الزينة والطنافس والرياش. يعاف أكثر ما يعاف إلتماع الشفقة في العيون المطلة على بئر ضعفه وانكساره.

سُئل في أخريات ساعاته: من أحب الناس إليك؟ قال: كبرى بناتي. وريثة نزقه الدائم، تقطيبته وصمته المسير للأشياء.

عاد الدلو في صبيحة شاتية بلا ماء. ساعتها فقط، علم الناس أن السلطان المحتضر كان يجيد الرسم بخطٍ كوفيٍّ جميل. تلك كانت وسيلته الوحيدة في إيصال رغباته للمحيطين بسريره الراحل في عامه الأخير. فالعلة النادرة التي اصطفت السلطان حبست صوته في زنزانة الحلق، وهي الزنزانة التي حُبست فيها أصوات الخلائق، الناس والطير والأنعام.

سقيفة السلطان التي صمدت طويلاً أمام هوج الرياح وأمطار البـطانة تتطاير، الآن، بقاياها المخلعة في هفهفة كتاب مرقوم.


فنراي، هولندا

09 أكتوبر 2009

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى