محمد المصطفى موسى - حكايات دهاليز المدينة ..

١٨ هيث فيلد سكوير ..بيرمنجهام
بيت من غرفة واحدة وصالة إستقبال لزوارٍ لم يأتوا بعد !
هنا تُساكِن ألكساندرا كوزرسكي حزناً قديماً إقتسم معها كل يومٍ من أيام الله السبعة . سيدة بولندية لم يجاوز عمرها على الورق بدايات العقد الرابع. قهرتها خيبات الدنيا فأثقلت وجهها بتجاعيدٍ زحفت بعمرها من مراتع الشباب الى أعتاب الكهولة. أتت من وارسو يانعة يدغدغها الأمل كزهرة برية تفتحت بحقول يوركشاير التي ليس لخضرتها منتهى. في البدء عملت نادلة بإحدى حانات غريت هامبتون ستريت بوسط بيرمنجهام أملاً في أن تجد هناك من يتبنى موهبتها الغنائية المرتبطة بفن الأوبرا العريق. ما زالت أفواه المهاجرين الثرثارة في هذا الميدان المظلم تلوك أحزانها بما يكفي من الأسى. إصطادها احد اولئك الرجال التافهين من ضواحي شيفلد. كان صعلوكاً عرفته طاولات الخمر والقمار بنوادي الليل المنتثرة على جانبي هوكلي ستريت. هناك كان ينفق أموال الضمان الإجتماعي بإستهتار طفلٍ دون العاشرة من عمره . يمد لسانه ساخراً لدافعي الضرائب الذين أُهدرت أموالهم في تمويل مثل هذه المغامرات العربيدة. حاصرها بصبرٍ وأناة كما يحاصر الذئب فريسته قبل أن يُعمل فيها المخالب و الأنياب . ثلاثة أشهر من المطاردة المُجهِدة دكت حصونها المتمنعة كما لم تُدك من قبل . في ليلة ليلاء كَمن لها على ناصية مسرح البلو أورنج المطلة على هوكلي ستريت . كانت خارجة لتوها من حفلٍ تتسابق فيه مواهب الأوبرا الواعدة طمعاً في الولوج الى بوابتي المجد والشهرة . في تلك الليلة عصفت لجنة التحكيم المنحازة بأحلامها النضيرة حين أُقصيت من المسابقة رغم تجاوب الجمهور معها بالهتاف والتصفيق . مات اخر أمل فيها لجعل القليل من المستحيل ممكناً. كان الشارع شبه خالٍ من المارة في وقتٍ قاربت فيه الساعة الثانية صباحاً. إلتقت عيناهما في منتصف الطريق .. بنظرةِ متوثبةٍ واثقةٍ منه ونظرةٍ خائفةٍ منكسرةٍ منها. أقبل نحوها بجسارة صامتة وقد اشتعلت عيناه برغبةٍ هوجاء. إحتضنها بدفء فانقادت له بنصف قلب . قبَّلها بعنف فإنهارت قلاعها أمام إصراره بأسرع مما تصور. إستدرجها نحو عوالمه المجنونة ببراعته المعتادة. لم يمض الكثير من الوقت قبل أن تعلن سجلات الزواج المدني ديفيد إنغليش و ألكساندرا كوزرسكي كزوجين جديدين. كان زواجاً عجيباً إلتحم تحت سقفه الصياد بالفريسة . أظمأته ألكساندرا بتَمنُعِها الطويل فلما سَلَّمت أغواه عناده الإنجليزي بالمزيد من الإنتصارات الساحقة . إنتقل هو للإقامة معها في هيث فيلد فتوافد على الميدان أصدقاؤه من الساقطين والساقطات .. يقيمون ب١٨هيث فيلد سهراتهم الماجنة بأمسيات السبت من كل أسبوع . تصاعدت بينهما الخلافات رغم قدوم طفلين رائعين إلى عالمهما . ظل ديفيد بلا عمل يتسكع بين حانات غريت هامبتون ستريت وما حولها وكأن جديداً في دنياه لم يطرأ . كانت حياتهما مسرحاً منفتح الخشبات لأعين المتفرجين بهيث فيلد سكوير . مخاشنات ثم سباب ولعان سرعان ما تنقلب بصورة مكررة لإعتداءات جسدية موغلة في الوحشية. يوسعها إنغليش كعادته ضرباً بلكماته الحانقة حتى لا يدع موضعاً من وجهها بلا كدمات . إنحدرت الأمور إلى الهاوية حتى تدخلت سلطات الرعاية الإجتماعية تدخلاً حاسماً توقع تبعاته أي مراقب عاقل . سيُحرم الأبوان من حق رعاية الطفلين لثلاثة أعوام يقبعان فيها بإحدى دور الرعاية التي يضج بها هامش المدينة الحافل بالمتناقضات . هكذا انتهى كل شئ كما توقعه الجميع هنا . هجر ديفيد ألكساندرا نحو نزوة أخرى من نزواته الطائشة و تركها غارقة ببحر أحزانها الذي لم يعد له ساحل . لم يكن ذلك سوى شئٍ من اللؤم الذي كانت هذه المدينة تعامل به وافديها هنا بأسفل قاعها الذي لا يتزين ولا تُستتر فيه الأوجاع.
عندما تجود شمس المدينة ببعض أشعتها المرسلة بشحها المعهود على نهارات هيث فيلد التي ترتجفُ من صقيعها الأوصال .. تخرج ألكساندرا إلى الفناء الضيق أمام بيتها وهي تضع معطفها السميك على جسدها الممتلئ . تدخن بشراهة الذي يستنشق كل خيباته فيملأ بها رئتيه ثم ينفث دخاناً كثيفاً فلا يغادر صدره إلا وبه شئ من بقايا حنق لا ينفثئ . وبين كل عقب سيجارة ملقاة وما بعدها، تٌطل ألكساندرا على المارة العابرين بوجهها الذي ما زالت هناك بعض حلاوةٍ تتخلل أحزانه الأزلية . تحدق كالمخبولة فيما حولها من الأشياء وكأنها لم تعد تدري في أي مكانٍ حلت. ستُغني إحدى كلاسيكيات بافاروتي بصوتٍ عسجدي يتقطر موهبةً و بهاءً.. يتصاعد به الشجن علواً وهبوطاً وكأنه طائرة تبهر الناظرين بإرتفاعها المفاجئ ومن ثم بهبوطها الآمن بسلاسةٍ مريحة للبصر.. أليس في حكاية مثل هذه من الملهاة ما يُحزن القلوب ويُذهب الرجاء ؟ .. آه منك يا زمن الهجرة والإنكسار و.. الأماني المبددة !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى