آفاق مسعود - الاحتضار.. ترجمة‮ :‬‮ ‬د. أحمد سامي العايدي

يُري كالمعتاد من باب حجرة النوم المفتوح قليلاً‮ ‬لحافة ذو الغطاء الحريري،‮ ‬ومنضدة خشبية صغيرة منخفضة بجوار سريره،‮ ‬وعلي المنضدة كوب ماء‮ ‬يشبه حوض أسماك صغير،‮ ‬ماؤه عكر بسبب عدم تغييره منذ فترة طويلة،‮ ‬وفي قاع الكوب‮ ‬يربض طاقم الأسنان‮ ‬يبدو كأنه هيكل عظمي لإحدي الحيوانات المائية‮ ‬يسبح في الماء‮.‬
شعر هذه المرة أيضًا بالقادم؛ فقد سمع حفيف المعطف الذي خلعته عند الرواق،‮ ‬أو ربما أيضًا من رائحة العطر الذي وضعته منذ فترة‮. ‬وفهمت أنه عرفها بحركات قدميه النحيفتين-التي أصابها الذبول من قلة الطعام في الأشهر الأخيرة‮- ‬تحت اللحاف،‮ ‬والتي كانت لا تظهر مطلقًا علي وجه السرير‮.‬
شعر بزيارتي المرة الماضية بنفس الصورة في المكان الذي‮ ‬يتمدد فيه وعيناه مغلقتان‮ ‬دون أن‮ ‬يرفع رأسه من فوق الوسادة،‮ ‬ودون أن‮ ‬ينتصب ولو قليلًا كالمعتاد،‮ ‬وينظر إلي الرواق الذي‮ ‬يمتد أمام الباب‮. ‬في المرة الماضية عندما سرتُ‮ ‬علي أطراف أصابعي في الحجرة حتي لا أوقظه،‮ ‬كان‮ ‬يتظاهر بالموت،‮ ‬وظل‮ ‬يتململ مكانه في سكرات الموت حتي المساء،‮ ‬ولم‮ ‬يفتح عينيه حتي ولو لمرة واحدة،‮ ‬إلي أن ذهبت إلي المنزل في حالة من البؤس والإرهاق من انتظار ي له حتي‮ ‬يستيقظ‮. ‬اتضح لي جليًّا أنه‮ ‬يرغب من خلال هذه المشاهد‮ »‬‬للاحتضار‮» ‬المصطنعة أن‮ ‬يُرعبني ويبعدني عن هذا المنزل وعن من حوله،‮ ‬وبالرغم من ذلك،‮ ‬لم أدع نفسي لهذا الأمر،‮ ‬وكنتُ‮ ‬انتظر نهاية هذه المسرحية بفارغ‮ ‬الصبر‮. ‬
كان‮ ‬يوجد هذه المرة رجلان‮ ‬غير الرجل المسن في حجرة نومه‮. ‬ربما كانا من أقاربه قدما من القرية البعيدة‮. ‬
كان شعر أحدهما‮ ‬يشبه القنفذ،‮ ‬والآخر فتي أحمر الوجنتين‮.‬
ما أن رآني الرجل حتي قال مبتهجًا وكأنه رأي شخص‮ ‬يعرفه منذ مائة عام‮:‬
حسنًا أنك جئتي،‮ ‬أيتها الفتاة،‮ ‬تغير حاله منذ فترة‮!! ‬
ربما ساءت حالة الرجل المسن هذه المرة بالفعل‮. ‬تدلت أنفه لأسفل مثل‮ «الخطّاف‮»‬ ‬واصفر لونه،‮ ‬وغاصت عيناه في محجريهما العميقين السوداوين‮. ‬وكأن نفسه لا‮ ‬يخرج‮. ‬وكان‮ ‬يبدو من فمه شبه المفتوح جزء من حنكه الجاف الشاحب‮.‬
يمكن أن‮ ‬يظل علي هذا الحال حتي الصباح‮.‬
قال الرجل هذا بصوت منخفض كأنه‮ ‬يُحدث نفسه هذه المرة،‮ ‬ثم التفت ونظر إلي الخارج من النافذة الموجودة بجواره‮.‬
اقتربتُ‮ ‬وانحنيتُ‮ ‬نحو الرجل المسن،‮ ‬ونظرتُ‮ ‬إلي وجهه بإمعان‮.‬
ربما هذه المرة‮ ‬يموت بالفعل‮... ‬كان‮ ‬يُسمع صوت مليء بالأنين‮ ‬يتسرب من مكان بعيد مع أعماق أنفاسه القصيرة التي كان‮ ‬يتنفسها بصعوبة‮...‬
سألت‮:‬
أين سعيدة؟
قال الرجل‮:‬
صعدت إلي الجار لتستدعي الطبيب‮. ‬لقد قطعوا خط التليفون قبل ذلك‮. ‬عندما تتعقد الأمور،‮ ‬يحدث مثل هذا‮...‬
أنهي الرجل كلامه ونظر إلي بفرح لسبب ما‮. ‬كان الرجل المسن المرة الماضية في هذه الحال ولكن كان‮ ‬يستطيع الكلام‮. ‬كان‮ ‬يهذي كالمصاب بالحمي،‮ ‬يتكلم بكلمات‮ ‬غير مترابطة وهو‮ ‬يلهث،‮ ‬ومن حين لآخر‮ ‬يصمت كأنه تعب من الاحتضار،‮ ‬ويتفقد الحجرة بعينيه شبه المفتوحتين‮. ‬وعندما تقع عيناه عليّ،‮ ‬يبدو كأنه‮ ‬يتيه ويفقد الوعي،‮ ‬وكأنه‮ ‬يتعمد أن‮ ‬يجعل نفسه داخل الأوهام الشريرة‮. ‬كان أثناء هذا الهذيان،‮ ‬نشاهد جسده ووجه‮ ‬يحومان بحركات معينة في أماكن أخري ويتمتم بهمسات مع أحد ما،‮ ‬وأنه‮ ‬يتابع بصبر وتوتر أشياء‮ ‬غريبة وحركات مبهمة‮.‬
كنا أنا وسعيدة في مثل هذه الأوضاع لا نستطيع مطلقًا تحديد هل هو بالفعل‮ ‬يتعمد مثل هذه الحركات أم ليس في؟ حتي‮ ‬يُشتت تفكيرنا‮. ‬
طبقًا لقول سعيدة،‮ ‬يدخل في تلك الحالة عندما‮ ‬يراني فقط‮. ‬أما بعد ذهابي،‮ ‬يرتد إليه وعيه،‮ ‬ويستند علي الوسادة،‮ ‬وكأن شيئًا لم‮ ‬يكن،‮ ‬يتناول وجبة العشاء حساء الخضروات صامتًا دون كلام‮.‬
في مثل هذه الأزمات التي تنتابه مرارًا وتكرارًا؛ أي عندما‮ ‬ينعدم نبضه،‮ ‬ويتحشرج نَفَسه،‮ ‬وبعد فحصه والكشف عليه عدة مرات من قبل الفريق الطبي الذي‮ ‬يُستدعي له وهو في هذه الحالة؛ وبعد أن‮ ‬يقول الفريق الطبي بارتياح‮ ‬غريب دون أن‮ ‬يرفعوا رؤوسهم عنه‮ »‬‬إنكم تؤذونه،‮ ‬أصبح الآن ليس لدينا من الأمر شيء‮«،‮ ‬بعد كل هذا نفهم أنه‮ ‬يحتضر بالفعل‮. ‬ولكن في الوقت نفسه التف هذا الرجل المسن الذي هو في حالة‮ «احتضار‮»‬ ‬كالعقرب بذراع الطبيبة‮ ‬امرأة شابة ممتلئة الجسم متوسطة العمر‮ ‬التي جلست علي حافة سريره تلف الشريط الخاص بجهاز قياس الضغط علي ذراعه،‮ ‬فأصابتنا الدهشة وهو‮ ‬يحتك بها وينظر لها بشهوة‮.‬
لم‮ ‬يكن لدّي أنا أو سعيدة أي شك في أننا سوف نشاهد حتي بعد موته هذه الحركات الخبيثة وشهوته المرضية نحو النساء‮. ‬منذ فترة قريبة،‮ ‬عندما كان طريح الفراش وعيناه مسلطتان نحو المجهول،‮ ‬وواضعًا‮ ‬يديه علي بطنه كالأغصان الجافة،‮ ‬فجأة تحركت عيناه،‮ ‬فأيقنا أنه لا‮ ‬يزال هناك الكثير من الوقت علي موته بسبب تسليط نظره علي فخذي زوجة ابن الجيران التي جاءت لزيارته،‮ ‬ثم بعد فترة‮ ‬حتي لا نلاحظ هذا‮ ‬حوّل نظره بمهارة بالغة من فخذي المرأة إلي أرجل منضدة الطعام و‮... ‬قدم صوت من رواق المنزل‮. ‬كان القادم هي سعيدة‮. ‬دخلت وهي تلهث قائلة‮:‬
لم أستطع التوصل لهم عن طريق الهاتف‮. ‬
ثم نظرت إلي وسألتني دون أي سلام‮:‬
ربما أصطحبه بالسيارة؟‮...‬
قلتُ‮:‬
إلي أين؟‮...‬
قالت سعيدة‮:‬
إلي الإسعاف‮...‬
ثم أشارت إلي والدها برأسها مضيفة‮:‬
ألا ترين كيف أصبحت حالته ثانية؟
كان لون‮ «سعيدة‮»‬ ‬شاحبًا‮. ‬وتدّلي أنفها مثل أنف الرجل المسن،‮ ‬وغاصت عيناها في حدقتيهما‮.‬
قال الرجل الشبيه بالقنفذ‮:‬
ماذا لو جاء الطبيب،‮ ‬ماذا سيفعل أيتها الفتاة؟‮... ‬الرجل‮ ‬يقترب من الآخرة‮. ‬أنا أعرف سورة‮ «يس‮»‬. ‬لا تخافين‮. ‬لن أتركه وأذهب لأي مكان‮. ‬من لهذا المسكين‮ ‬غيري؟‮... ‬كان وحيد والديه‮. ‬ماتت أمه وهو طفل‮. ‬غرقت في النهر‮. ‬تربي المسكين علي‮ ‬يد زوجة الأب‮. ‬أنا رفيق عمره الوحيد،‮ ‬وأنا قد جئتُ‮. ‬سوف أواريه التراب،‮ ‬ثم أعود‮.‬
اهتزت أرضية الحجرة من هذا الكلام الذي قاله الرجل‮. ‬أما خُيّل إلينا هذا؟‮!..‬
بعد فترة قصيرة فهمتُ‮ ‬أنا و»سعيدة‮»‬ ‬أن الأنين الذي صدر من الرجل المسن طريح الفراش والذي‮ ‬يتمدد عليه كالتمثال هو الذي هز أرضية الحجرة،‮ ‬وذلك عندما صدر صوت سعال من الأنين‮ ‬يشبه محرك السيارة الخربة عند‮ ‬تشغيلها‮.‬
اختفت الفرحة التي كانت تعلو وجه ابن عمه بعد أنين الرجل المسن‮.‬
همست‮ «سعيدة‮»‬ ‬بصوت خانق بجواري وعينيها علي أبيها‮:‬
لا‮ ‬يزال هناك أيام سيعيشها‮.‬
ربما الرجل المسن هو الآخر سمع الكلام الذي قالوه حول موته‮.‬
نهض ابن العم واقترب من السرير،‮ ‬وأخرج من جيبه قطعة من مرآة ربما أحضرها معه من القرية،‮ ‬ووضعها عند فم الرجل المسن،‮ ‬وتفقد سطحها ومسحها بطرف ذراع سترته،‮ ‬ثم أعادها ثانية إلي جيبه وقال‮:‬
بقي القليل جدًا‮.‬
جلس في مكانه،‮ ‬وشبك ذراعيه علي بطنه‮.‬
لم تقترب‮ «سعيدة‮»‬ ‬من الرجل المسن،‮ ‬جلستْ‮ ‬بجواري،‮ ‬وركزت عينيها اللامعتين من الخوف علي أبيها‮. ‬يمكن ببساطة أن‮ ‬يتضح مدي معاناتها وشعورها بالخوف الرهيب خلال الأيام الأخيرة من تغييرات وجهها الشاحب،‮ ‬وحركات عينيها السريعة‮ ‬غير المفهومة،‮ ‬ومن خلال أيضًا النبرات المرتعشة الموجودة بصوتها‮.‬
ابيضت عينا‮ «سعيدة‮»‬ ‬بهذا الشكل من الأسبوع الماضي أي منذ اليوم الذي ارتعد فيه الرجل المسن من سؤالي المفاجئ وسقط الشاي المغلي عليه،‮ ‬كان‮ ‬يحتسي الشاي وهو جالس متكئ علي الوسادة وكان لا‮ ‬يزال في وعيه،‮ ‬ومنذ ذلك اليوم بدأ نَفَسه في الاختناق وانتابه سعال حاد‮. ‬وحينئذ كاد الرجل المسن أن‮ ‬يموت من هذا السعال الذي تمكن منه‮... ‬اختنق نَفَسه،‮ ‬وركز عينيه اللامعتين إلي نقطة مجهولة،‮ ‬وسقطت رأسه من علي الوسادة التي كان‮ ‬يستند عليها‮. ‬
بدأت سكرات الموت للرجل المسن منذ أن علم أني أكتب رواية حول الفترات التي أعقبت الثورة‮. ‬إلي هذا الوقت،‮ ‬كان‮ ‬يتجول داخل المنزل بخطي مريحة،‮ ‬وعندما رآني،‮ ‬يسأل عن أحوال من في المنزل وهو مسرور،‮ ‬يدعوني إلي شرب الشاي الذي‮ ‬يشربه والطعام الذي‮ ‬يأكله‮. ‬وبدأ كل شيء منذ أن أخبرته‮ «سعيدة‮»‬ ‬بشأني وما أكتبه،‮ ‬وقالت له إني أكتب رواية حول الفترة التي كان‮ ‬يشغل فيها وظيفته‮. ‬لقد فهمتُ‮ ‬أنا و»سعيدة‮»‬ ‬أنه استقبل هذا الخبر كأنه حكم مفاجئ بالإعدام،‮ ‬فعلا وجهه عبوس وتغيرت ملامحه فجأة في المكان الذي‮ ‬يجلس فيه،‮ ‬وبدأ‮ ‬يظهر في وجهه شحوب‮ ‬يشبه ظل الخوف من الموت‮. ‬تسمر الرجل المسن بوجهه الشاحب،‮ ‬ثم نهض وخرج من الحجرة بخطي ثقيلة‮. ‬وسار في رواق المنزل ودخل الحمام،‮ ‬وأغلق الباب من الداخل،‮ ‬ولم‮ ‬يخرج من هناك حتي المساء،‮ ‬حتي سأمتُ‮ ‬من انتظاره وعدتُ‮ ‬إلي المنزل‮. ‬
انحنيتُ‮ ‬نحو‮ «سعيدة‮»‬ ‬وسألتُها ببطء حتي لا‮ ‬يسمع الرجل المسن‮:‬
هل رأيت أحدًا‮ ‬يحتضر قبل ذلك؟
هزت رأسها دون أن تنظر إليّ‮ ‬بشكل‮ ‬يعلوه الندم لسبب ما‮. ‬ثم تذكرنا الخالة خديجة‮ «رحمها الله‮»‬ ‬قبل عام في هذه الحجرة وعلي السرير نفسه الذي‮ ‬يرقد عليه الرجل المسن وهي تجلس القرفصاء ليل نهار تنتظر موتها،‮ ‬وهي تُقبل علي الموت بشجاعة‮.‬
كانت الخالة خديجة عندما تسير‮ ‬يهتز المبني كله بسبب وقع خطواتها،‮ ‬وتختفي في لمح البصر الطيور والأطفال الموجودون في فناء المنزل من صوتها الأجش،‮ ‬كانت تسحق بضربة واحدة من كفها الضخم رأس الفئران الكبيرة التي كانت تصطادها بجوار المبني‮. ‬لقد تذكرنا‮ «الخالة خديجة‮»‬ ‬حين ساء حالها قبل موتها بساعة وقولها بصوت رقيق‮ ‬يشبه فتاة شابة‮ «إني أخاف‮ ‬يا بُنيتي،‮ ‬أخاف بشدة‮»‬‬،‮ ‬ونظرها إلي الأرض كالذي‮ ‬يشاهد القبر الذي سيدفن فيه بعد قليل‮...‬
أتذكر حينئذ،‮ ‬كيف خفتُ‮ ‬أنا و»سعيدة‮»‬ ‬وشعرنا بسبب التعبيرات المجهولة التي كانت تعلو وجه‮ «الخالة خديجة‮»‬ ‬بوجود نفق مظلم وضيق وخانق‮ ‬يقود إلي الموت الموجود في أحد أركان الحجرة وقريب جدًّا‮... ‬
كان هذا الإحساس مرعب للغاية‮ ‬يشبه خوف التقدم نحو ظلام أبدي وطريق لا رجعة فيه‮...‬
بعد وفاة‮ «الخالة خديجة‮»‬‬،‮ ‬تذكرتُ‮ ‬مشهد احتضارها وهي تلوح بود إلي أشخاص مقربين لها‮ ‬غير ظاهرين كانت تراهم بجواري،‮ ‬وهي تنازع الموت كالغريق داخل سرير بحجرة الضيوف في منزلنا الذي كانت جميع نوافذه مفتوحة‮...‬
والذي قبض روح خالتي في ذلك اليوم هم هؤلاء الأشخاص المقربون لها التي كانت تلوح لهم‮... ‬وشعرتُ‮ ‬بشكل دقيق كيف أن أقاربها الذين تلجأ إليهم خالتي بارتياح جميل‮ ‬يقتربون منها،‮ ‬وينظرون عن قرب إلي وجهها واقفين عند رأسها‮... ‬ورأيتُ‮ ‬بعيني كيف أن خالتي واجهت وهي في النزع الأخير أشخاص ما بعيون تلمع من الدهشة،‮ ‬وكيف فاضت روحها بين‮ ‬يد هؤلاء الأشخاص الذين تجمعوا حولها بارتياح‮...‬
‮•••‬
قالت‮ «سعيدة‮»‬ ‬بعد فترة،‮ ‬عندما كنا جالستين في المطبخ معًا ننظف الأرز لطعام العشاء‮:‬
لقد أصيب بهذه الحالة بسبب ما تكتبينه‮.‬
حركتُ‮ ‬منكبي كالمذنبة‮:‬
ماذا في هذا الأمر؟‮...‬
كان خوف الرجل المسن‮ ‬يصل لدرجة الموت،‮ ‬ومساعي حثيثة لإخفاء آثار أسرار ما بداخله‮ ‬يمكن أن تُفضح حتي ولو بعد موته‮... ‬يشير إلي أن الرواية التي أكتبها سوف تتطرق إلي قضايا جادة وسرية أكثر مما كنت أظن،‮ ‬وتشير إلي بُعد الأشياء التي حدثت في الماضي في سنوات القمع السوفيتي التي كان الرجل المسن‮ ‬يتولي منصب فيها،‮ ‬وإلي جرائمه التي لا تُغتفر وحتي الخالة خديجة لا تعلمها،‮ ‬وإلي أسرار خفية ترقي لمرتبة الجرائم لا‮ ‬يعلمها إلا هو‮. ‬
لقد أنهي هذا الرجل تعليمه أيام الحرب العالمية الثانية،‮ ‬وأُرسل مباشرة إلي القرية،‮ ‬وترأس إحدي المزارع التعاونية الكبري بقرية نائية وفقيرة لمجرد الخبرة التي اكتسبها أثناء الدراسة،‮ ‬ثم بعد ذلك تولي رئاسة مجلس المحافظة‮. ‬لقد سمعتُ‮ ‬منذ أيام الطفولة من لسان‮ »‬‬الخالة خديجة‮» ‬كيف كان هذا الرجل‮ ‬يتجول علي ظهر الحصان في طرق القرية الوعرة في تلك الفترة،‮ ‬والإشراف علي حقول القمح،‮ ‬وإطلاقه النار علي الفارين من خط الجبهة أينما وجدهم،‮ ‬أو تسليمهم إلي الإدارة العسكرية،‮ ‬ورعايته أسر الجنود،‮ ‬واهتمامه اهتمامًا خاصًّا بالأرامل الجميلات‮. ‬آنذاك زاد وتضاعف اهتمامي بهذا الرجل المسن بسبب شعوري أن هذه المرأة التي لا تخشي في الحق لومة لائم تتجنب في حديثها الإشارة إلي ماضي زوجها،‮ ‬حتي تطرقها إلي بعض الأمور كان‮ ‬يشعرك كأنها تسير فوق جرفٍ‮ ‬هار مخيف،‮ ‬وأنها تتجاوز الحديث عن بعض الأشياء بمهارة‮.‬
عندما طهينا الأرز وعدنا إلي الحجرة،‮ ‬كان ابن العم قد جلس عند مؤخرة السرير،‮ ‬جمع‮ ‬يديه عند صدره كالذي‮ ‬يقرأ كتاب،‮ ‬ربما كان‮ ‬يقرأ في سره سورة‮ ‬يس‮.‬
نام الطفل في المكان الذي كان‮ ‬يجلس فيه علي الكرسي الموجود أمام التلفاز الذي انخفض صوته‮.‬
كان الرجل المسن علي حالته السابقة‮... ‬كان وجهه‮ ‬يشبه آنذاك الوجه الغاضب للبطل المخيف في الأساطير الروسية الذي‮ ‬يسمي‮ «قاشي‮»‬...‬
اقتربت من السرير ونظرتُ‮ ‬إلي وجهه عن قرب‮.‬
لقد تغير وجه الرجل المسن عن قبل بشكل‮ ‬غريب‮... ‬تقلصت تجاعيد وجهه،‮ ‬وانكمش خده كقطعة لحم ذاب دهنها في مقلاة ساخنة‮.‬
شعر بدخولنا إلي الحجرة،‮ ‬فبدأ‮ ‬يرفع ويخفض أصابعه شديدة النحافة ببطء كالذي‮ ‬يُمررها علي أصابع البيانو،‮ ‬وبدا كأنه‮ ‬يعطي إشارات‮ ‬غير مفهومة لشخص ما من خلال عمل الأشكال الغريبة في الجو من حين لآخر‮.‬
جلستُ‮ ‬أنا و»سعيدة‮»‬ ‬في مكانها السابق،‮ ‬للناظر من بعيد‮ ‬يجدها خلف المنضدة المواجهة للسرير،‮ ‬كانت‮ ‬يدي الرجل المسن الشاحبة تشبه عقارب الصحراء الرملية التي احترقت من الظمأ وتفحمت تحت الشمس الحارقة‮... ‬لقد رأيتُ‮ ‬هذه‮ «العقارب‮»‬ ‬أيضًا في المنام في إحدي الليالي‮... ‬رغم أنني كنتُ‮ ‬أتابعها وفي‮ ‬يدي حذاء طويل داخل الحجرات شبه المظلمة لمدة طويلة،‮ ‬وانشغل بقتلها،‮ ‬لم أستطع قتل واحدة منها‮. ‬كانت جميع الحشرات سريعة الحركة تقفز من حائط إلي حائط ومن منضدة لمنضدة بقفزات طائرة طيلة المنام،‮ ‬وتهرب من هذه الناحية إلي تلك بقفزات تشبه شرارة التيار الكهربي،‮ ‬وتدخل الجحور والفتحات الموجودة بالأرضية،‮ ‬وتلتهم هناك شيئًا،‮ ‬بأفواهها التي لا تظهر‮...‬
بصفة عامة في الآونة الأخيرة،‮ ‬كنت أري في أحلامي وقائع شبه مظلمة وغريبة حول الرجل المسن،‮ ‬وكان خوف‮ ‬غريب‮ ‬ينتابني‮ (‬في أعماق أحلامي‮) ‬بسبب انتظاره استيقاظي من النوم وهو‮ ‬ينهج،‮ ‬ووقوفه بجواري في المنام،‮ ‬وكذلك بسبب بحثه في جيبه بحركات بطيئة عن مستند مهم من بين القصاصات التي أخرجها من جيبه‮.‬
‮•••‬
احضرت‮ «سعيدة‮»‬ ‬الشاي في أكواب كمثرية الشكل،‮ ‬ونظمته فوق المنضدة‮. ‬ووضعت المربي‮ ‬في الوسط،‮ ‬وجلست،‮ ‬وقالت بالطريقة نفسها مثل‮ «الخالة خديجة‮»‬:‬
لقد طهيتُ‮ ‬الأرز لطعام العشاء‮.‬
كأن ابن العم سمع هذه الكلمة من‮ »‬‬سعيدة‮» ‬متأخرًا فأنهي دعاءه وسحب كرسيه نحو منضدة الغداء،‮ ‬وبعد أن ارتشف رشفة من الشاي قال‮:‬
ماذا تعمل؟
ثم تناول المربي‮.‬
شربتُ‮ ‬الشاي دون مربي ولم‮ ‬يكن لدي شك في أن رائحة العفن الدائم بالحجرة طغي علي المربي‮. ‬
منذ فترة،‮ ‬كنت أشعر أن هذه الرائحة التي تشبه رائحة عفن مستنقع تنبع من الخادمة التي تأتي لرعاية الرجل المسن عندما تكون‮ «سعيدة‮»‬ ‬في العمل بالصباح،‮ ‬وكانت هذه الخادمة امرأة عجوز قصيرة القامة صغيرة العينين إحدي أقارب أسرة‮ »‬‬سعيدة‮» ‬من بعيد‮. ‬كان حال‮ »‬‬سعيدة‮» ‬يتحول بسبب هذه الرائحة‮. ‬رغم أنها كانت بمجرد أن تدخل المنزل،‮ ‬تفتح الأبواب والنوافذ،‮ ‬وتُجدد هواء الحجرات،‮ ‬وتضغط علي زر معطر الجو بلا توقف،‮ ‬وتُنثر الرائحة في جميع الأرجاء،‮ ‬كانت الرطوبة المختلطة برائحة العفن تعلق بالجو مثل البخار،‮ ‬ولمدة ثانية‮ ‬يقضي عليها المعطر ثم تعود كما كانت‮.‬
كنتُ‮ ‬أحيانًا أشعر أن هذه الرائحة تتعلق بجميع أرجاء الغرف من أعلاها لأسفلها مثل الستائر الشفافة،‮ ‬كما كنتُ‮ ‬أحس لسبب ما أنني كلما عبرتُ‮ ‬من حجرة إلي أخري،‮ ‬كأنني أعبر بين ألسنة نار جافة‮.‬
وطبقًا لما كانت تقوله الخادمة،‮ ‬كانت تُجدد جو الحجرات عدة مرات خلال اليوم،‮ ‬وأن النوافذ التي تطل علي البحر،‮ ‬تُفتح علي مصرعيها في الصباح وفي أوقات الظهيرة،‮ ‬ورغم أن الرياح القادمة من البحر مختلطة برائحة السمك وتملأ المنزل وتتخلل الحجرات،‮ ‬كانت لا تستطيع التغلب علي رائحة المستنقع الذي‮ ‬يتسرب من سرير الرجل المسن،‮ ‬وربما من روحه‮.‬
وإن كانت الخادمة لا تخدعنا‮. ‬فهي تقول إن هذه الرائحة تتميز بلون خاص بها،‮ ‬وذكرت أنها تحل علي جميع أثاث المنزل مثل ندي الصباح وتغشي جميع الأرجاء‮ »‬‬صُفرة‮» ‬غريبة،‮ ‬وتقول ناهجة نهجة‮ ‬غريبة تمر وهي‮ ‬يدها علي ورق الحائط الذي لا تذهب الصفرة من عليه بالغسيل والتنظيف‮:‬
كان لون هذا الورق قبل ذلك أزرق فاتح‮...‬
‮•••‬
كأن نَفَسه توقف‮.‬
قرّبت‮ «سعيدة‮»‬ ‬وجهها الشاحب من وجه الرجل المسن وكانت تنظر إليه عن قرب شديد‮...‬
كان فم الرجل المسن شبه المفتوح‮ ‬يبدو للناظر من بعيد مثل مدخل مغارة أسطورية تُوصل إلي أعماق قديمة ومخيفة‮ ‬مدخل منطقة‮ ‬غامضة جفت طرقها بسبب أنه لم تطأها قدم منذ زمن بعيد‮...‬
قال ابن العم‮:‬
لا زال‮ ‬يتنفس‮...‬
ثم شرب كوب الشاي الثاني برشفة واحدة متصلة،‮ ‬ووضع الكوب علي الصحن بشكل معكوس‮. ‬كان آنذاك‮ ‬يأكل بواقي المربي بالملعقة‮. ‬وهو‮ ‬يلعق فمه بلسانه وينظر بنهم إلي ملفات الرجل المسن القديمة التي وضعت علي دولاب الكتب،‮ ‬ومن حين لآخر كان‮ ‬يقول بصوت منخفض وهو متأثر‮:‬
يا ابن عمي العَالِم،‮ ‬يا أخي الكادح‮...‬
أما أنا فكنتُ‮ ‬أعرف أن هذه الملفات تملأ الغرف الأخري،‮ ‬حيث كانت‮ «الخالة خديجة‮»‬ ‬تصعد فوق الكرسي ببدنها الثقيل والمريض طيلة العام وتمسح الأتربة من عليها‮. ‬واحد واحد‮... ‬ربما كان في هذا المنزل المكون من ثلاث حجرات مقدار حمولة سيارة نقل من الملفات‮. ‬كانت‮ «الخالة خديجة‮»‬ ‬من أجل التخلص من هذه الكومة من الملفات المليئة بالأتربة،‮ ‬ترمي في سلة المهملات سرًّا الملفات اثنين اثنين أو واحدًا واحدًا عندما كان الرجل المسن خارج المنزل،‮ ‬ولدي علم أنها عوقبت مرات عديدة بسبب هذا الفعل‮. ‬كان الرجل المسن لا‮ ‬ينفق علي البيت بالأشهر جراء الملفات التي ألقيت في سلة المهملات دون إذن،‮ ‬وكذلك لا‮ ‬يكلم زوجته لمدة أشهر‮. ‬كان قلب الرجل المسن لا‮ ‬يهدأ حتي ولو تم استخراج الملفات من سلة المهملات وتنظيفها وإعادتها إلي مكانها،‮ ‬وكذلك‮ ‬يظل عابس الوجه‮...‬
كانت‮ »‬‬الخالة خديجة‮» ‬تقول‮:‬
يا بنيتي أنه‮ ‬يظل‮ ‬يكتب ليل نهار‮.‬
كانت تقول هذا كأنها مذنبة،‮ ‬كأنها هناك أمر مريب،‮ ‬وكلما رددت ذلك كان الرجل المسن‮ ‬يقول‮:‬
هذا هو مصدر رزقكم،‮ ‬بعد أن أموت سوف تبيعون هذه الملفات وتنفقون علي البيت‮...‬
‮... ‬في الواقع،‮ ‬لقد شاهدتُ‮ ‬أيضًا علي مدار سنوات طوال عملية تكون هذه الملفات بسبب كوننا جيران وأنني صديقة لـ‮ »‬‬سعيدة‮». ‬منذ اليوم الذي أحيل فيه الرجل المسن إلي التقاعد،‮ ‬كنت أشاهده‮ ‬يستيقظ في الصباح الباكر بدافع الحفاظ علي الذات،‮ ‬ويحلق ذقنه في الحمام،‮ ‬ويرتدي بدلة العمل،‮ ‬ويضع رابطة العنق علي القميص الأبيض المرتب،‮ ‬ويجلس خلف طاولة الكتابة،‮ ‬ويكتب بشغف‮ ‬غريب شيئًا ما،‮ ‬ويظل من الصباح إلي المساء كما كان‮ ‬يفعل أثناء ذهابه للعمل،‮ ‬ويتابع التلفاز الموجود في أحد الأركان بإحدي عينيه،‮ ‬وينصت إلي المذياع الصغير الموجود علي الطاولة‮. ‬ومنذ ذلك الوقت،‮ ‬تولد لدي شغف شديد لهذه الملفات التي تضاعفت من عام لآخر وازدادت حتي طمت جميع أرجاء المنزل‮. ‬في الواقع،‮ ‬ربما الذي أوحي إلي وحثني لفكرة كتابة رواية حول الفترات التي عاشها هذا الرجل أكوام الكتابات المحفوظة داخل هذه الملفات المليئة بالأسرار،‮ ‬وكذلك أفكار الرجل المسن وذكرياته‮...‬
طبقًا لما قالته‮ «سعيدة‮»‬ ‬الكتابات المحفوظة في هذه الملفات كانت مواد موثقة تتحدث عن إحدي المراحل التاريخية للدولة‮.‬
أما بالنسبة لي،‮ ‬فأعتقد لسبب ما أن الرجل المسن‮ ‬يجمع في هذه الملفات ذكرياته السرية التي كتبها عن حياته،‮ ‬فقد شعرتُ‮ ‬أن هذا الرجل الذي‮ ‬يسكن في المنزل المجاور لنا منذ طفولتي‮ ‬يعيش مع هذه الملفات السرية أكثر من عائلته،‮ ‬وأنه‮ ‬يختبئ فيها كالمسترخ في عش الراحة،‮ ‬فزاد اهتمامي أكثر بهذا الرجل المسن‮.‬
وضعت‮ «سعيدة‮»‬ ‬رأسها بين ذراعيها،‮ ‬ربما‮ ‬غاصت في النوم‮. ‬واسترخ ابن العم علي ظهر الكرسي في المكان الذي‮ ‬يجلس فيه،‮ ‬وغلبه النعاس دون أن‮ ‬يفقد توازنه‮.‬
بسبب هذا الصمت الغريب الذي حل بالمكان،‮ ‬أو إ حساس الحرية الغريب الذي شعرتُ‮ ‬به فجأة وسط النائمين من حولي،‮ ‬خطرت ببالي أنه آن الأوان للحصول علي هذه الملفات السرية التي حُرم لمسها منذ سنوات طويلة‮. ‬كنتُ‮ ‬أود أنهض بهذه الفكرة وأتجه نحو الملفات المجمعة علي أرفف دولاب الحائط الموجود في مقدمة الحجرة‮...‬
انطلق كالرصاص في وسط هدوء الغرفة الغريب صوت الرجل المسن الذي بدأ‮ ‬يهذي بهذيان مجنون قائلاً‮:‬
‮... ‬هو،‮ ‬انظر له‮... ‬أقول‮... ‬الوغد‮! ‬اقبضوا عليه‮!... ‬أسرعوا‮!...‬
انتفض النائمون،‮ ‬وأنا أيضًا‮...‬
رغم أن عينا الرجل المسن كانت مغلقة،‮ ‬كان‮ ‬يُحس أن سواد عينيه‮ ‬يلمع تحت تجاعيد جفن العين،‮ ‬وأنه‮ ‬يصوبها بغضب نحو شيء ما وهي مغلقة‮...‬
قال ابن العم وهو‮ ‬يرمش بعينيه التي احمرت من الأرق‮:‬
بدأت‮...‬
أسود تمامًا وجه سعيدة الذي هو في الأصل شاحب اللون‮:‬
ماذا بدأ؟
أشار ابن العم برأسه نحو الرجل المسن قائلاً‮:‬
عادة تبدأ هكذا،‮ ‬بقي القليل‮... ‬هو علي عتبة الموت‮.‬
شعرت بضيق شديد‮... ‬وأردت أن أسأل هذا الرجل متي وأين اشتغل‮ «مغسل للموتي‮»‬‬،‮ ‬ولكن لم أسأل،‮ ‬وانحنيتُ‮ ‬نحو‮ «سعيدة‮»‬:‬
لقد سأمنا من أحاديث وهذيان هذا‮...‬
تأوه الرجل المسن هذه المرة من أعماق قلبه‮... ‬وفتح بصعوبة بالغة جفون عينيه المنكمشة المائلة للسواد التي تشبه‮ ‬غطاء عين الجمل‮... ‬وبدأ سواد عينيه الذي اصفر وقد أصبح ذابلا منذ زمن بعيد‮. ‬كان‮ ‬ينظر ثانيًا إلي أحد ما‮... ‬ويصرخ علي أحد وهو‮ ‬ينهج،‮ ‬كأنه‮ ‬يحل مسألة ما‮...‬
لقد بينتُ‮ ‬لك المرة الماضية أيها الفاشل اذهب،‮ ‬نادوا علي‮ «غفار‮»‬ ‬نادوه وليأت وليفتحه‮...‬
كان الرجل المسن‮ ‬يتحدث بهذا بلهجة‮ ‬غريبة متلجلجة تشبه حديث الأجانب‮.‬
عندما سمع اسم‮ «غفار‮»‬ ‬تحرك في مكانه قائلاً‮:‬
آه‮!... ‬ينادي علي‮ «غفار‮»‬...‬
ثم نظر بعينيه اللامعتين تارة إلي الرجل المسن،‮ ‬وتارة أخري إلينا مواصلاً‮ ‬حديثه‮:‬
ينادي علي ابن عمنا‮ «غفار‮»‬.. ‬مات العام قبل الماضي‮... ‬إنه‮ ‬ينادي عليه‮. ‬أي حضرة الموت‮. ‬واصل الرجل المسن كلامه مختنقًا‮:‬
نادي أيضًا علي‮ «خاصاي‮»‬... ‬هو الوحيد الذي‮ ‬يعرف لغة هذا‮...‬
سألتُ‮ ‬بقلق‮:‬
من‮ «خاصاي‮»‬‬؟
قال ابن العم دون أن‮ ‬ينظر إلي مشيرًا بيده إلي مكان ما إلي الخلف‮:‬
هو أيضًا أحد أقاربنا‮...‬
ثم نظر إلي وجهي وأضاف بنبرة‮ ‬غريبة‮:‬
وهو أيضًا في العالم الآخر‮.‬
شعرتُ‮ ‬بارتخاء في ركبتي من الخوف أو من القلق‮... ‬كانت الحجرة مليئة بالموتي‮... ‬التفتُ‮ ‬من حولي وأنا في ذعر‮... ‬أم أن الرجل المسن وهو موجود في السرير الذي أمام عيني،‮ ‬وفي الوقت ذاته في مكان آخر‮ ‬
كان وسط الذين رحلوا عن هذه الدنيا،‮ ‬ويتجولون بأبدانهم الشفافة بيننا؟‮ ‬
ربما الأسرار التي أخفاها الرجل المسن عني وهو في سكرات الموت منذ عدة أشهر ترغب أن تنكشف من تلقاء نفسها‮...‬
قال الرجل المسن‮:‬
‮... ‬نعم‮... ‬نعم‮...‬
كان الرجل المسن‮ ‬يحترق من الداخل لسبب ما،‮ ‬ويتذمر‮ ‬غاضبًا،‮ ‬وكانت حدقة عينه تطوف داخل عينيه كقذيفة إلكترونية موصلة بالتيار‮.‬
وواصل الرجل المسن‮:‬
فكر أنت بهذا‮... ‬فكر كما تشاء‮...‬
اقتربتُ‮ ‬من السرير،‮ ‬ونظرتُ‮ ‬إلي وجه الرجل المسن عن قرب‮.‬
انكمشت حدقة عيني الرجل المسن بسبب احمرار داخلها،‮ ‬أو كأنها تحت ضغط شيء ما،‮ ‬لقد ذابت وشحب لونها‮.‬
جلست‮ «سعيدة‮»‬ ‬بجوار السرير ببطء،‮ ‬ووضعت‮ ‬يد والدها في‮ ‬يدها‮...‬
قال ابن العم‮:‬
لا تجلسي هناك،‮ ‬يا بنيتي،‮ ‬إنه‮ ‬يموت،‮ ‬ربما تخافين‮.‬
ساء حال الرجل المسن تمامًا بعد هذا الكلام الذي قاله ابن عمه‮. ‬وأدار وجهه إلي الحائط،‮ ‬وبدأ‮ ‬يأن أنات‮ ‬غريبة تشبه صوت الكمان‮... ‬
ارتعدت‮ «سعيدة‮»‬‬،‮ ‬ووثبت علي قدمها،‮ ‬وتأثرت وبكت بكاء مكتومًا،‮ ‬ثم حوّلت وجهها جانبًا،‮ ‬وذهبت إلي الحجرة الأخري‮.‬
كان الرجل المسن‮ ‬يهذي ووجهه نحو الحائط‮:‬
اذهبوا بهؤلاء الأناس من هنا‮... ‬أخرجوا من هنا‮... ‬أخرجوا،‮ ‬أخرجوا‮! ‬ممنوع الوقوف هنا‮!... ‬نظر ابن العم إلي،‮ ‬وأنا نظرت إليه‮...‬
قال ابن العم‮:‬
يهذي،‮ ‬يا بنيتي،‮ ‬لا تخافي،‮ ‬سوف‮ ‬يستغرق الأمر وقتًا‮.‬
سألته‮:‬
يعني‮... ‬ألا‮ ‬يزال‮ ‬يحتضر؟
طار صوابي من القلق‮...‬
قال ابن العم بحسم وعينه علي الرجل المسن‮:‬
بعد ذلك رفع رأسه،‮ ‬ونظر إلي أولاً‮ ‬بتعبير‮ ‬غريب به بهجة،‮ ‬ثم إلي الطفل الذي كان قد نام مكانه أمام التلفاز قبل ذلك‮.‬
اقتربتُ‮ ‬من السرير وجلستُ‮ ‬علي كرسي قريب،‮ ‬وانحنيتُ‮ ‬ونظرتُ‮ ‬عن قرب شديد إلي وجه الرجل المسن قائلةً‮:‬
أصبحت مقدمة أنفه نحيفة،‮ ‬وشاحبة‮.‬
أصبحت أمي قبل موتها بساعة بهذا الشكل‮. ‬كأن صاعقة ضربت الرجل المسن طريح الفراش المصوب وجهه نحو الحائط بسبب كلامي هذا‮... ‬نام ببطء علي ظهره،‮ ‬وأدار وجهه إلي،‮ ‬وفتح جفون عينيه،‮ ‬وهمس بتأسف وهو‮ ‬ينظر داخل عيني قائلاً‮:‬
ماذا تريدين مني‮ ‬يا بُنيتي؟‮...‬
وثبتُ‮ ‬علي قدحي في دهشة‮... ‬ونهض ابن العم أيضًا معي قائلاً‮:‬
لا تخافي‮ ‬يا بُنيتي،‮ ‬يهذي،‮ ‬تحدث مثل هذه الأمور أثناء الاحتضار‮.‬
لا زالت عينا الرجل المسن‮ ‬غير الواضحة مسلطة علي‮... ‬كانت تتسلل من أعماق هذه العينين ومضات مخيفة وصفراء تُشبه عواء ذئب‮ ‬يسمع من بعيد‮... ‬
رغم أنني‮ ‬غيرتُ‮ ‬مكاني،‮ ‬ظلت عينا الرجل المسن مسلطة علي المكان الذي كنتُ‮ ‬أجلس فيه من قبل‮... ‬ولم‮ ‬يمض كثيرًا‮ ‬حتي انطفئت‮. ‬وخيم من جديد صمت متوتر استمر كثيرًا‮.‬
لقد زاد من اهتمامي أكثر بهذه الملفات المحفوظة بعناية مثل الوثائق القيمة لمنزل أو أكوام النقود،‮ ‬وألعاب الغميضة الغامضة هذه التي كان‮ ‬يقوم بها الرجل المسن‮. ‬
طفتُ‮ ‬بنظري في الحجرة‮. ‬سلط ابن العم بنظرات‮ ‬غامضة نظره نحو فراغ‮ ‬مجهول‮. ‬كانت‮ «سعيدة‮»‬ ‬في الحجرة الأخري‮.‬
جمعتُ‮ ‬شتات نفسي،‮ ‬ونهضتُ‮ ‬علي قدمي‮... ‬وذهبتُ‮ ‬نحو الملفات التي مُنع المساس بها منذ سنوات‮... ‬مددتُ‮ ‬يدي وأخذتُ‮ ‬أحدها،‮ ‬وعدتُ‮ ‬إلي مكاني،‮ ‬وفتحت عقدة رباط الملف‮.‬
ما أن انحلت العقدة،‮ ‬تناثرت كومة الورق التي كانت مضغوطة داخل الملف الضيق منذ سنوات فوق المنضدة مثل مجموعة كروت ناعمة‮.‬
أخذت إحدي الصفحات وبدأت القراءة‮. ‬كانت الكلمات والجمل المكتوبة بحروف متعرجة بدايتها في أعلي الصفحة متجهة إلي وسطها تشبه سير فراشة جريحة‮ ‬غاصت قدمها في حبر أكثر منها كتابة‮.‬
قرأت بضع جمل وأنا أتهجي الحروف‮.‬
كان هذا عبارة عن نسخ‮ ‬غير منظم عشوائي للنصوص التي كانت ترد في نشرة الأخبار في فترة الخمسينيات والستينيات‮... ‬كان من الواضح كسطوع الشمس أن الرجل المسن كان‮ ‬ينسخ هذه النصوص من الأخبار التي تقدم في التلفاز الذي كان‮ ‬يشتغل في ركن الحجرة أثناء سير العمل المصطنع الذي كان‮ ‬يقوم به أو التي تقدم في المذياع الذي‮ ‬يعمل ليل نهار في أحد أركان منضدة الكتابة،‮ ‬وذلك كله بغرض خداع نفسه طيلة أشهر وسنوات امتدت كالأمعاء الغليظة وهو مُحال للتقاعد‮... ‬
كانت هذه النصوص مليئة بمصطلحات تاريخية لتلك الحقبة من الزمان‮.‬
كانت معظم الصفحات تبدأ بالتالي‮:‬
‮«مساء الخير أيها السادة المشاهدين‮...»‬‬
تمالكتُ‮ ‬نفسي،‮ ‬وتصفحتُ‮ ‬الأوراق الأخري أيضًا‮. ‬كانت هذه الجمل المقفعة التي لا معني لها تتحدث عن أعمال مؤتمرات الحزب الشيوعي السوفيتي،‮ ‬وعن نتيجة أعمال بذر البذور في الحقول،‮ ‬وعن مسابقات الاشتراكية وعن فوز أم لتسعة أطفال في إحدي المسابقات الجماعية،‮ ‬وإلي آخره،‮ ‬تُذكر هذه الجملة أكثر من كونها نص مذيع،‮ ‬بهذيان ما قبل الموت لإنسان‮ ‬يحب الحياة حبًّا جمًّا‮... ‬
كان مكتوبًا بوسط الصفحة في إحدي المستندات عبارة‮:‬
‮«يا‮... ‬شعرك جميل وملفوف‮...»‬‬،‮ ‬ومنحرفة لأسفل بطول الصفحة‮... ‬وكان مكتوبًا تحت هذا السطر بأحرف تشبه ومضات شرارة كلمات‮: »... ‬انهيت رقمك القياسي‮...»‬‬،‮ ‬أما علي جانب الصفحة عبارة‮ »... ‬طيلة الطريق من الناحية السفلية لجبل عرفات‮...»‬‬،‮ ‬وبعدها عبارة‮ »... ‬الموت لك‮...»‬‬،‮ ‬ويكتب بعض الجمل والعبارات الأخري التي لا علاقة لها ببعضها البعض‮... ‬
لقد انشغلتُ‮ ‬بترتيب الأوراق،‮ ‬حتي فزغتُ‮ ‬علي صوت الرجل المسن فجأة بصوت مليئ بالحشرجة‮:‬
ابتعد من هناك‮! ‬لا تلمس هؤلاء‮...!‬
كانت عين الرجل المسن مغلقة‮... ‬لكن فهم أنني أعيره اهتمامًا شديدًا،‮ ‬فألان صوته قائلاً‮:‬
‮... ‬أتوسل إليكِ‮... ‬لا دخل لكِ‮ ‬بهذا‮...‬
وأضاف وكأنه عاد إلي وعيه كالمستيقظ تمامًا‮:‬
ماذا تريدين،‮ ‬يا بنيتي؟‮...‬
رأي أنني لا أرد،‮ ‬فساءت حالته قليلاً،‮ ‬رفع صوته وقال‮:‬
ماذا تريدين مني؟‮...‬
ثم بدأ‮ ‬ينهج‮....‬
رغم أنني كنت أفهم لمن‮ ‬يوجه هذا‮ «الهذيان‮»‬‬،‮ ‬كنتُ‮ ‬لا أعيره اهتمامًا‮. ‬كنت أجمع المستندات التي كانت تجذب انتباهي في جانب منفصل،‮ ‬وأجمع الباقي داخل الملف وأضعه في مكانه السابق‮.‬
أصبح الرجل المسن لا‮ ‬ينظر إلي بعد‮... ‬ركز عينيه المليئين بالتوسل إلي السقف،‮ ‬ربما‮ ‬يتوسل إلي الله‮...‬
لا تفعلي‮... ‬ابتعدي عني‮... ‬لا تفعلي‮... ‬لا تمسيها،‮ ‬اتركيني أستريح‮... ‬لا تلمسي هؤلاء‮...‬
دل ابن العم رأسه لأسفل،‮ ‬ووضع علي عينيه منديله الكبير الذي أخرجه من جيبه،‮ ‬وغاص في التفكير‮. ‬تظاهرت بالتجاهل وعدم الفهم وسألتُ‮ ‬ابن العم‮:‬
مع من‮ ‬يتكلم؟‮...‬
رفع ابن العم رأسه ونظر إلي وجهي كمدرس كثير المطالب قائلاً‮:‬
يقتربون منه‮...‬
وظل‮ ‬يركز نظره في وجهي‮.‬
من؟
قال الرجل‮:‬
عدم معرفتك بمثل هذه الأشياء أفضل‮ ‬يا بنيتي‮. ‬أنتِ‮ ‬شابه،‮ ‬ولا حاجة لكِ‮ ‬بهذا‮.‬
وركز عينيه اللتين احمرتا من البكاء نحو الشارع المظلم والخالي من الناس والذي كان‮ ‬يبدو آنذاك من النافذة‮. ‬نهضتُ‮ ‬علي قدمي،‮ ‬وأخذتُ‮ ‬أيضًا بعض الملفات من فوق أرفف الكتب،‮ ‬وأحضرتهم ورتبتهم فوق المنضدة،‮ ‬وفككتُ‮ ‬عقد الأربطة المربوطة بها‮.‬
من الدهشة شعرتُ‮ ‬بوغز بارد بداية من ذراعي حتي أطراف أصابعي‮.‬
كانت هذه الملفات مثل الملفات السابقة‮... ‬
كان بها جمل مقطعة صباح الخير،‮ ‬أيها السادة المستمعين‮..«،‮ ‬وتبدأ الجملة الأخري من منتصف الصفحة‮»... ‬مع سهول‮ «سفيستيول‮»‬ ‬الثلجية‮..‬
وعقب هذا كان مكتوبًا‮: »‬‬كانت الحقيقة هكذا‮... ‬لماذا لم‮ ‬يطلقوا سراحه؟
أقول لك،‮ ‬ابتعد عن هذا‮!‬
فزع كل منا علي صوت الرجل المسن الذي فرق هدوء الحجرة بصرير‮ ‬يشبه صرير باب ثقيل وقديم‮...‬
الآن عيناه الاثنتان مفتوحتان‮... ‬كانت تدور حدقة عينيه التي شحب لونها كفئران وضعت في المصيدة،‮ ‬وكأن عينيه تبحثان عن مكان للوثوب من مكانها‮... ‬
لم‮ ‬يكن الرجل المسن في وعيه،‮ ‬كانت عيناه القلقتان تحومان،‮ ‬وكان‮ ‬يركز من حين لآخر بغضب من شخص ما‮... ‬كان آنذاك‮ ‬يصدر صوته بصعوبة ويأخذ نفسه الذي‮ ‬يخفق تدريجيًّا من مكان ما‮ ‬من مكان ضيق‮...‬
تأوه‮:‬
‮... ‬قلتُ‮ ‬لكِ‮ ‬تلك المرة‮... ‬قلتُ،‮ ‬لا تأت‮... ‬لا تأت‮... ‬لا تأت‮!...‬
وأدار وجهه كأنه‮ ‬يختبأ من شخص ما،‮ ‬وقال آنذاك بصوت منخفض للغاية ثم صمت‮:‬
إنني أخاف‮... ‬أخاف منكِ‮... ‬أنتِ‮ ‬تعرفين بنفسكِ،‮ ‬كم أنا أخاف‮...‬
شعرت باختناق في نفسي من الذعر،‮ ‬واتجهتُ‮ ‬خلف‮ «سعيدة‮»‬ ‬إلي الغرفة الأخري‮.‬
‮•••‬
لم أستطع سواء أنا أو‮ «سعيدة‮»‬ ‬ذلك اليوم أو بعده أن نحدد هل هذا الهذيان الأخير للرجل المسن كان موجه لي أم كما قال ابن العم موجه للرسول المعتبر القادم خلفه من العالم الآخر‮.‬
مات الرجل المسن قرب طلوع النهار بشكل مريح وغريب عند خروج روحه،‮ ‬كان الجميع‮ ‬ينام إلا أنا‮. ‬كان الوقت‮ ‬يقترب من الشروق‮.‬
كنتُ‮ ‬أتناول أكواب من الشاي الثقيل الواحد تلو الآخر حتي أبعد عني النوم الذي خيم علي جفوني،‮ ‬وكنت أقلب وسط أكوام الملفات‮ «التاريخية‮»‬ ‬التي ستحمل علي مقطورة إلي وسط المدن،‮ ‬وكان ما‮ ‬يُصيبني بالدهشة هو أن مضمون المكتوب في هذه الملفات‮ ‬الجمل المختلفة والملاحظات والعبارات‮ ‬يعتبر استمرار أو بداية لما كان‮ ‬يهذي به الرجل المسن وهو‮ ‬يحتضر وذلك من خلال الجمل المقطعة والتي لا علاقة ببعضها البعض‮... ‬والغريب في الأمر أن هذه الأوراق الصفراء المليئة بحشد من الكلمات التي لا معني لها،‮ ‬ولا ترابط منطقي بينها كانت تجسد مشهدًا لحياة مكتظة جدًّا ومؤلمة ثم‮...‬؟ في أماكن‮ ‬غريبة لا نفهمها‮... ‬شعرتُ‮ ‬بموت الرجل المسن ذلك الصباح بمحض الصدفة عندما رفعتُ‮ ‬رأسي علي صوت‮ ‬يشبه فتح أو‮ ‬غلق بقلقلة متسقة لشيء ما‮ ‬يشبه قفلا صغيرا قريبا منه في الصباح الباكر‮... ‬فتح الرجل المسن عينيه الممتلئة،‮ ‬وتركزت علي وجهي‮...‬
أيقظت النائمين وعندما أخبرتهم بموت الرجل المسن،‮ ‬كانت الشمس قد طلعت بالفعل‮.‬
كانت‮ «سعيدة‮»‬ ‬لا تبكي بعد،‮ ‬طافت وجالت الحجرات بوجهها ناصع البياض،‮ ‬وفرشت‮ ‬غطاء أبيض علي المرايا ودولاب الأواني،‮ ‬ورتبت الغرف‮. ‬
ظل ابن العم مشغولاً‮ ‬بوجه الرجل المسن طويلاً‮. ‬ضغط علي جفون عينيه التي كانت لا تريد الانغلاق مطلقًا في بداية الأمر،‮ ‬وفي النهاية أسكنها مكانها،‮ ‬وبعد ذلك ربط بقوة ذقنه بالمنديل الذي أخرجه من جيبه‮.‬
جلستُ‮ ‬علي الكرسي الموجود بجوار السرير وشاهدتُ‮ ‬وجه الرجل المسن الذي كان‮ ‬يتغير كل دقيقة ويتجمل وينضر كلما انسل منه الدم،‮ ‬وذلك حتي جاءت عربة الموتي من المسجد‮... ‬لقد تعجبتُ‮ ‬من تحول هذا الرجل المسن الغامض الذي كان‮ ‬يتجمل إلي صفة شاب في ريعان الشباب،‮ ‬رحل فجأة عن هذه الدنيا في أفضل أوقات عمره،‮ ‬وذلك عندما كانوا‮ ‬يلفونه في لحافه كالملفوف في حفاظه،‮ ‬من أجل إخراجه من المنزل والذهاب به لتغسيله‮.‬
أيقظ ابن العم الفتي الذي‮ ‬ينام طيلة الليل علي الكرسي الموجود أمام التلفاز ثم نقله علي الأريكة القريبة،‮ ‬نزلوا إلي فناء المنزل مع‮ «سعيدة‮»‬‬،‮ ‬وهناك نظروا خلف سيارة الإسعاف التي تحمل الرجل المسن إلي المسجد من أجل تغسيله‮.‬
أما أنا فجمعتُ‮ ‬الملفات فوق بعضها البعض والتي استأذنت‮ «سعيدة‮»‬ ‬في حملها إلي البيت،‮ ‬وربطها بالحبل بشكل مرتب،‮ ‬وذلك من أجل الانتهاء من الرواية التي أكتبها حول هذا‮ «الفتي‮»‬ ‬الغامض‮...‬



* منقول عن:
الاحتضار

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى