سحر محمد عظيم - ذبول الياسمين

عند مدخل السفينة كنت كنبي الله نوح ضاقت بي الأرض، آويت إلى سطح البحر علني أجد فرجاً لهمومي، حين نقلت بصري عليها فغرتُ فاهي دهشةً من حجمها وأشياء أخرى.
أكثر ما لفت انتباهي عند المدخل تلك الطفلة الجميلة التي تشبه إلى حد كبير صغيرتنا ياسمين، كانت تركض مبتعدة من والدتها، ولسوء حظي احتمت بي فما كان مني إلا أن انحنيت لها واحتضنتها طويلاً لا أدري كم من الزمن مكثته في أحضاني، فقد شممت رائحتك فيها، أحسست بدفء حكايتنا عن ياسمين مذ تكونها في رحمي حتى ليلة عرسها، لم يوقظني من هذا الموقف سوى صافرة الباخرة التي تتأهب للإبحار في قلب البحر الأحمر. غادرتني ياسمين مبتعدة مع والدتها وهي تلوح لي بيدها مبتسمة، بادلتها التلويح والتبسم وكنت أسمع دقات قلبي أكثر من وقع أقدامها، تلويحتها تشابه تلويحة ياسمين وهي ذاهبة إلى ترحيل المدرسة الصباحي.. عيناها، جدائلها المترامية على ظهرها، ابتسامتها..
بعد أن وجدت غرفتي ورتبت حاجياتي ووضعت الكتب التي سترافقني في الرحلة على أقرب منضدة من سريري صعدت إلى سطح الباخرة لأنظر إلى وطني من فوق الماء، بالكاد سيكون إحساسا مختلفا تماما من هنا، كان وطني يصغر في عدسة عيني ويكبر في قلبي، تطالعني بورتسودان المستفزة بهدوئها وجمالها، تشبهك تماما هذه المدينة، مهووسون بها كلنا عدا سكانها يتعجبون منا حين يطالعون الدهشة والمتعة من سواد أعيننا ونحتار حول جحودهم تجاهها... معك أدركت ما يعانيه إنسان بورتسودان (حرارة الجو وملوحة الماء)؛ فحين لا تتوفر الأشياء الأساسية للحياة لن نستطيع أن نستمتع بالرفاهية التي تدهش العابرين!! وقتها أردت أن أحلق عالياً، أحسست أنك تختفي مع ملامح هذه المدينة، أردت أن أجدد الهواء في رئتيّ، أطلقت سراح يديّ لأزفرك من أعماقي فما استعطت، باغتني إحساس مريع وكأنني سجينة في قفص الحرية. بدأت أرتعش وتجمدت أطرافي فعدت أدراجي لأرتدي معطفاً عله يمنحني بعض الدفء قد أهدانيه أحد أصدقائي ظنا منه أنه سيقيني من البرد، كان كغيره ممن حولي فكلما مسح أحدهم على رأسي تعاطفاً ازداد حجم الجرح في قلبي. نافذة غرفتي كانت تطل على البحر.. جميل ونقي ومخيف مثلك، هو عميق جداً لدرجة تصيبنا بالدوار، لا تستطيع أن تتوقع نهايته ولا ما يخبئ بداخله، كل الغرفة تدور بي لا أدري أهو البحر أم ذكراك أم ملمح الطفلة ياسمين أم مشهد المدينة وهي تخرجني من حدودها مبتسمة كأن وجودي بها كان عبء عليها أم... أم.. أنقذني طرق على باب غرفتي من دوامة الأفكار التي كانت ستؤدي بي إلى انهيار ما.. كانت ياسمين مجدداً فهي في الغرفة المجاروة لي، دعتني لمشاركتهم العشاء، عانقتها بإمتنان هذه المرة قد أنقذتني منك، من البحر من وطني، الذي ضاق عليّ بعدك، ولم يحتمل أنات جرحي المندمل، فما كان منه إلا أن رماني في بطن البحر!! كما فعلت الأقدار بيونس في الأزل..
على متن السفينة أرى أطراف السودان المترامية تجتمع، تتحد، تتوحد، هنا في كل زاوية من السفينة، أرى نفراً من الناس تختلف لهجاتهم وملابسهم لكني كنت أحس بتوحد ضحكاتهم، انسجامهم وتقبلهم لبعضهم، تذكرت وقتها نقاشي المستديم معك حول تسامح إنسان وطننا، أخبرك أن قلوبنا مجتمعة بالحب وأنه لا وجود للقبلية والطبقية، كنت تصر على رأيك المضاد لي في كل شيء ومن شدة غبائي ظننت أن التباين الكبير في أفكارنا ما هو إلا استجابة للطبيعة التي تحكم بالتجاذب لكل متضادين،,، من علي سطح السفينة تبدو السماء جميلة وهي تطل على البحر لكأنها أنثى فاتنة ترتدي أجمل فستان سهرة مرصع بالنجوم، تلك النجمة التي تتلألأ تذكرني بالنجيمة التي تحط بثبات على كتفك وبدل أن تمنحني الأمان كانت تبث الرعب في أوصالي، أخاف أن تأخذك مني، أن يسرقك وميضها، أن تتلاشى مني في مأمورية، كما يتلاشى آخر خط لليل مع جيوش الصباح، كنت أخاف صراعي مع الوطن الكبير فيك، أنت وطني الصغير وملاذي، لطلما أرهقني التفكير في حال ياسمين وهي تدفع كل عمرها ضريبة دمك الذي سيهدر على أطراف الوطن، لن تملأها كل عطايا الدولة وهباتها، لن تتجسد أشياؤهم فيك، في ليالي نجاحاتها، في لحظات أساها، في ليلة عرسها.. ههه يبدو أني سأجن قريباً: كيف أفكر في ليلة عرسها وليلة عرس والدتها لم تُقَمْ بعد؟! كيف أخشى عليها من وطن كبير سينحني لها دوما لأنها ابنة الشهيد؟ وأنا أرهقت من الانحناء للوطن الصغير من كل محاولاتي في اتخاذ الخطوة المفصلية في ارتباطنا في طرقة من طرف بنانه على باب أبي.. كغيري من الفتيات في عمري أحلم بليلة أتوج فيها أميرة وأزف في موكب بهيج لقصر أميري، تراءت لي مواكب من السفن التجارية التي تحمل البضائع, ذكرتني بالفرسان الذين كانوا يتراصون كالبنيان في انتظار نظرة رضا مني وأنا لم أكن أرى سوى التي تلك الغشاوة التي تجملك في ناظري، موكب السفن تبعه جيش الصبح الذي سرق عليّ وعلى السماء أنس رؤيته لنفسه على سطح البحر، لون السماء وهو يتّحد مع البحر بكل الاتجاهات يشبه خضرة عينيك، فلم يكن لونه الأزرق المعهود ذاته كنت أقرؤك داخل الماء، وكنت أرقي نفسي من طلاسمك التي ما زالت عالقة بذهني، قضيت نصف الرحلة وأنا معلقة بين السماء وذكريات مريرة جمعتني بك، وصلت إلى منتصف العمر في آخر محطة جمعتنا لتخبرني بالفوارق الاجتماعية بيننا، لتحدثني عن كونك لا تليق بي، وأني أكبر منك في كل شيء! هنا مربط الفرس وعند سطوع الشمس بدت لي الحقيقة، كغيرك من رجال بلادي يحلو لك السمر والتسكع والتمرغ في قصص الحب مع أنثى مثلي، فتنهي القصة بدراما اجتماعية سخيفة أكثر شماعاتها العرف والأهل والمال والعمر، ترى كم من نساء بلادي ذُبحن بهكذا أعذار، لا بد أنهن كثر؛ أحس بالتطابق معهن في زحمة المواصلات، في المكاتب، في المواقع الإلكترونية، يحملن نفس ملامحي، مكسورات الجناح، يدثرن أنوثتهن بعد أن أقمن عليها مأتماً على رفاة أشباهك، لا همَّ لهن سوى العمل، السفر، التمرد، فالرجل عندنا وطن حين نفقد الأمان عنده لا نملك إلا أن نتمرد، الكون يحتفي بالساذجات اللائي قبلن بالجبناء الذين تُزوِّجُهم أمهاتهم ظناً منهن أنهم قليلو الخبرة في الاختيار والاختلاط بنا.. يا للغباء!! أليسوا هم أبناء آدم الذي سُخِّرتْ له الجنة بطولها وعرضها، فما سكنت نفسه إلا في حجر حواء؟! هم الجبناء، لا لهذا السبب، بل لأنهم أسلموا حبيباتهم لأحضان وطن آخر، بكامل إرادتهم ودونما نخوة أو عناء!!
التفكير فيك يجعلني أمنّي نفسي بأن أملك يقيناً كأم موسى وأضع حبي لك على وعاء ما وألقيه في البحر أو تصبح هذه السفينة حوتاً فيلفظني في العراء، لأصبح ثمرة تقابل تفاحة الخطيئة، لكني أغدو دواءً للنساء المنكوبات من أشباهك وأعيدهن بها إلى الجنة فيعشن في هناء.. لم أحس ببطن الحوت ولا التقافه ليّ، لكن سمعت أصواتاً تخرج من بطني.. يبدو أني أتضوّر جوعاً فمذ بدء الرحلة لم أهنأ بوجبة كل هذه المدة، عدت أدراجي إلى الصالة الكبرى.. في الفناء طلبت من النادل وجبة خفيفة فدهشت حين رأيته يطالعني مستفهماً فاغر فاهه حين سألته انفجر ضاحكاً في كل الأرجاء، أخبر رفيقه أني طلبت منه أخطبوطاً!! لملمت أطرافي وهرولت مسرعة لغرفتي، بالكاد كنت تسكنني في هذه اللحظة أنت كالأخطبوط تماماً، لك أذرع كثيرة وأرواح متعددة، كلما فكرت أني تخلصت منك يطالعني وجهك من جديد، أود أن آكلك لأهضمك فأنت كائن يصعب التخلص منك إن لم تفترس.. ليت البحر ينشق نصفين فأمرّ فيه مسرعة، ينغلق على آخر خطوة مني ويقفل ظلي الذي تلاصقه حد الاختناق بين موجياته، ليتني أستطيع أن أرمي بخيالك من على هذه السفينة، لطالما كان البحر ملجأً للأنبياء، لطالما كان الماء خلاصاً لهم من كل بلاء، فابتلاني بحبك ربي وإليه أهاجر ومنه وبه الرجاء أن يرد لي رشدي وقلبي قبل الفناء في عذاباتي التي أتجرعها كأساً تلو الأخرى، حين أصمت، أصمد، وأعرض عنك، أتماسك أو أتظاهر بالتجلد والبهاء!
أريد أن أصلي، أحسست برغبة قوية في أن أتواصل مع ربي قبل الوصول إلى الكعبة، أردت التطواف الآن حول ذنبي معك، أريد أن أدعو لكل نساء بلادي اللائي تجرعن الخذلان بكؤوس شتى لكنها تتطابق في علقمها ، تحاصرني دموعهن، قصاصاتهن المضمخة بالألم على صفحاتهن في الفضاء، انكساراتهن، انحرافاتهن، فقدانهن شهيتهن للحياة، يحاصرنني اللائي فقدن الأمل في العيش مرة أخرى فانتحرن بأحد طريقين: إما هرولن نحو الموت بخطى مسرعة واعتبرن حضنه أكثر أماناً وملجأً؛ أو قبلن أن يزففن لرجل آخر لا يفقه في الحياة شيئاً غير أوراقه الملونة التي أينما وضعها رجحت كفتها، كلاهما موت، والأول مريح لأنه سريع.. دعوت ربي ودقات قلبي تتسارع ونحيبي على نفسي والأخريات يعلو، رجوت ربي أن يخرجك من قلبي، أقررت بذنبي عسى الإقرار يشفع لي، جاهدت نفسي أن لا أدعو عليك لكني لم أستطع فثمة خذلان لا يُغتفر، لطالما نزف جرحي المندمل في قلبي لم تضمده سوى حقيقة واحدة (سأظل أجمل شيء حدث لك في حياتك، وستظل أسوأ شيء حدث لي في حياتي)،،،
بدأت لي ملامح المملكة العربية السعودية على مقربة وتلاشت ملامحك في دواخلي وذبلت صورة ياسمين وعطرها وملامحها فضمرت ذكرياتها بوجداني، كأني بدعائي الأخير قصصت جدائل شعرها وأبيات شعري التي غزلتها فيك زيفاً!!
بدأت ألملم حاجياتي ونفسي المبعثرة في أرجاء الغرفة،وحسمت أمري مع حقايبي الا أقبل بأن تحبني أقل مما أستحق، فامرأة مثلي سيلاحقها الحب كثيراً، لن أتوقف ـ وحب لا يستطيع اللحاق بي ليسير معي جنباً لجنب ونتقدم، لا يليق بي!!
:::
تمـــت^ـ^


* قصة فائزة بجائزة الطيب صالح للشباب (مركز عبد الكريم مرغني)
الدورة السابعة .. 6/4/2015...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى