الحسن بكري - المبـارزة

هيف ونورية ربتا قطعان الأبقار معتمدتين على الخدع السحرية التي جلبها رعاة الإمبررو. هؤلاء كانوا قد غيروا مسار هجراتهم عقب إنشاء المشروع الزراعي فتوافدوا علينا أيام "الطلق" التي تعقب مواسم حصاد محصول القطن. تفوقت الحيل الواردة من السودان الغربي على معارفي التي لقنتها في قسم البيطرة بكلية غردون التذكارية، فشهدنا أبقار القطيع تنجب توائم إناث وتتبادل ولادة عجول ذكور بانتظام غريب، فكنا نحصل على ذكر واحد من بين كل عشرين عجلة أنثى. فيما بعد تطورت خدع إمبررو فحدث التكاثر بطريقة تضمن توزيع القطيع بين أبقار لبون بضروع هائلة وثيران لاحمة، قد ملئت لحما وطبقت شحما.

هيف التي ما تزال أسيرة رهافتها الموسيقية الأولى، المتصلة بحماسها لأغاني الحرب ثم فيما بعد برفقتها للبدري، وقعت أسيرة حب شاب إمبرراوي بالغ الوسامة، يضع مكياج زينة كثيف ويرجل شعره بطريقة شعثاء غاية في الجاذبية.

أدى تعلقها بالإمبرراوي إلى حدوث خلل واضح في ظروف تأمين عملنا السري وفي وسائل دعمه. ألفيتني أيضا أعاني نوعا من الغيرة لم أعتده حين هجرتني هيف من قبل إلى البدري. نورية، التي كانت حرفية في تفسيرها لمباديء حزبنا، ظنت أن ردود أفعالي في هذه الحالة مردها إلي استعلاء طبقي وربما عرقي تجاه الإمبرراوي. الواقع أن تفسيري الشخصي للأمر اتسم بطابع سلبي تجاه جاذبيتي الذكورية بالمقارنة للرجل الذي أحبته هيف.

هاجرت هيف في صحبة عشيرة الإمبررو وعادت بعد تسعة أشهر تلهج بلغة جديدة، متلبسة جمالا بدويا كاسحا. ما برحت متيما بها رغم نزواتها المتكررة. خطر لي فيما تلى ذلك أن بعدا أساسيا من دوافع تعلقي بها ربما يختص بنزقها الذي لا يكبحه كابح.

قلت لهيف محاولاً إغاظتها:

- هيف، كيف وجدت الإمبرراوي؟

أشارت إلى قطيع أبقار، ذات قرون فظيعة وقامات قصيرة، يكاد يختفي وسط سيقان القطن الطويلة ورددت:

- صه، صه، صه!

لمحت الإمبرراوي متمنطقا قوسا طوله مترين ودارعا كنانة مكتظة بالنبال.

لم أعر إشارتها اهتماماً فالمرأة كانت أصلا إمرأتي ثم إن الإمبررو لا يفقهون العربية، خصوصا بلهجة عشائر الحلاوين.

- طز فيه!

قلت لها. رأيته يلتفت جهتنا. هيف كانت ترتدي رحطا جلديا، غرباويا يكشف عن جيدها البرونزي الطويل وكتفيها البضين، البديعين ويبقي على معظم نهديها مكشوفين. أسفلها عاري من منتصف فخذيها نزولا ألى ساقيها العبلتين وحتى قدميها الصغيرتين الحافيتين على طريقة إمبررو أوانها.

- حاسب،

قالت. ثم استطردت:

- إنه يفهم، علمته العربية.

- طز!

كانت تبدو ساحرة جدا بحيث أنني قررت الدخول في مغامرة تحدي الإمبرراوي إلى مبارزة بالسكاكين في سبيل استعادتها. لكن هيف نفسها لم تبد رغبة في التخلي عن الإمبرراوي. رأيت الراعي الشاب يتجه ناحيتنا. حين وصل أحاط ذراعه حول خصر هيف وبدأ في سحبها جهة قطيعه بقرونه الضخمة. قلت لهيف أخبريه أنني أتحداه في معركة بالسكاكين. رد قائلاً:

- نحن نبارز بالقوس فقط. لا مانع لدي من مبارزة بالقوس.

قلت:

- حسنا. السنة القادمة، إذن.

تمضي هيف مع الإمبرراوي في هجرته غربا إلى تخوم السودان الغربي البعيدة. تستمر أعداد أبقارها هي ونورية في التزايد بفضل الحيل التي تبعث بها كفاحا عبر مئات الفراسخ، بينما يظل هاجسي هو استعادتها حتى لو كلفني ذلك معركة قد تودي بخططي للعيش سنوات مديدة تتعدى الحدود المرسومة ليوم أجلي.





****



التحدي للمبارزة أدي إلي تشتيت جهودي التي كانت تتركز فقط في النضال من أجل التحرير. أظنني ارتكبت خطأ فادحا بتحدي الإمبرراوي إلى مبارزة اختار هو نوع سلاحها. أجل أنا حددت ميعادها ولكن ذلك لا يحسّن فرصي بالفوز كثيرا، فالإمبرراوي سيكرس السنة أيضا لتدقيق مهاراته في الرمي، مع أن معرفته به عالية أصلا بسبب نشأته في قبيلة تتخذ من الرمي بالقوس وسيلة للحرب والصيد والترفيه.

وضعت برنامجا للتدريب بدأته باستئجار رامٍ أنواكي لمساعدتي على إتقان فنون الرماية. أمضي معلمى شهرا في عرض دقيق لكافة موديلات الأقواس وخصائصها المختلفة. أخذني في الأيام الأولى إلى غابة قوز كبرو حيث قدم شرحا وافيا لكل ما وقعت عليه عيناه من الأشجار، فأسهب في الحديث عن السنط، الهشاب، السدر، الهجليج، اللعوت، الدليب، البان، السلم، والحراز. كما أنه لم يأل جهدا في مقارنة أشجار كبرو بأشجار غابات الأنواك الواقعة في أقصى الجنوب الشرقي للبلاد. بل أنه بدا منزعجا جدا لعدم وجود أقواس مصنوعة من أشجار الصعيد الأعلى، كالمهوقني والباباي والأبنوس، لاتخاذها وسائل تعليمية. وقد بلغ انزعاجه إلى درجة أنه طلب مني مرافقته في رحلة تستغرق ثلاثة أشهر على ظهور الدواب ومشيا على الأقدام حتى ديار الأنواك بغرض التعرف على أفضل الأغصان التي يمكن نجارتها وتطويعها لعمل أقواس لا تخطئ هدفها. وحينما تعللت بضيق الوقت وبعد المسافة، قال لي:

- لكن سنة واحدة لا تكفي رجل راشد لتعلم الرماية.

ولما سألته عن ماذا يعني بجملته هذه قال:

- لكي تصبح راميا حاذقا لابد أن تبدأ منذ الطفولة.

أصابني الإرتباك فقهقه صائحا:

- ما أصله!

سألته ماذا ينصحني أن أفعل فرد:

- لابد من تأجيل القتال على الأقل خمس إلى عشر سنوات.

وأردف:

- تبارز إمبرراوي بالقسي؟ لابد أنك رجل باسل جداً.

ومضى يشرح:

- لم أر راميا من تلك القبيلة يخطئ هدفاً ... يستطيع أولئك الناس ضرب أهدافهم وهم معصوبو العيون.

ولما كنت قد حكيت له فيما مضى قصة وليم تيل، موضحا له أنني أتخذه مثلا أعلى في الرماية، فقد استشهد به:

- قلت أن وليم تيل أصاب ماذا؟ دليبة فوق رأس رجل؟

أوضحت له أنه أصاب تفاحة. قال:

- أنا لم أرّ تفاحة. قلت أنها تماثل ماذا في حجمها؟

- إنها في حجم نصف دليبة تقريبا.

- نصف دليبة؟ يا لأرواح الأسلاف! أنا رأيت إمبرراوي يصيب نبقة منصوبة على أنف إمرأة.

أخذ ترابا ولحسه مقسما بتراب أجداده. ثم مضى قائلا:

- كيف يكون الواحد راميا إذا لم يكن بمقدوره أن يصيب نصف دليبة؟

قلت له بقلق:

- نبقة؟ لابد أنك تبالغ يا أنواكي.

- لماذا أبالغ؟

غضب جدا، إذ ظنني أتهمه بالكذب. إعتذرت. هتف:

- أنا أستطيع أن أخبط عشرين ود أبرق على التوالي دون أن أخطئ أي منها. أيهما أكبر برأيك ودأبرق أم نصف دليبتك النتنة؟

إزداد قلقي. سألته:

- كم يستغرقني تعلم القسي بحيث أخبط حبارة؟

- ربما ثلاث سنوات إن تدربت تدريبا متصلاً، يعني من الشروق حتى الأصيل.

قلت له:

- أنا رجل عندي مسئوليات مهمة كثيرة.

- أصدر صوتا قصيرا:

- واه!

ثم أضاف:

- مسئوليات كثيرة! كيف تكون أي مسئولية أهم من مسئولية حماية المرء نفسه من نبل مسموم؟

لم أفقد رباطة جأشي في حياتي مثلما فعلت حينئذ. قلت له:

- بماذا تنصح إذن؟

قال:

- قد أخبرتك. تطلب تأجيلا وتشرع في التدريب من الشروق حتى الأصيل.

- أمري لله.

تتأخر عودة الإمبرراوي سنوات طويلة. ظننته قد آثر السلامة. لكن الأيام، كالعهد بها دائما، حبلى بمفاجاءات لا تخطر لنا على بال.







****


بعد تحذيرات مدربي الأنواكي، توافق قيادة الحزب على ابتعاثي في رحلة عمل إلى الغرب. برروا الموافقة "بالحاجة الماسة لتنشيط عمل الحزب في تلك الإنحاء العزيزة من وطننا"، رغم أنهم كانوا على علم تام بأن هدفي من السفر غربا هو العثور على هيف، ولو أمكن الحصول على تأجيل لموعد مبارزة القسي. ألتقي بأبوك في كوستي ونستأجر جملين ماهريين ونتوجه في سفر شاق إلى الغرب. لم يكن إختياري أبوك لمصاحبتي عشوائيا. فإلي جانب أنها كانت أصغر حبيباتي سنا وأكثرهن جلدا، فإنها أقلهن إحساسا بالغيرة تجاه هيف، حتى لو قارناها بنورية، صديقة هيف المقربة.

سألت أبوك، ونحن نغذذ المسير على راحلتينا غربا:

- لم لا تغارين من هيف؟

- أغار؟ لماذا؟ ألست أحلى وأكثر صبى؟

- لكن ألا تغار النساء دائماً؟

- نحن لا نغار. بوسع رجل غني وفحل حيازة، أقصد الزواج من نساء كثيرات.

- أنا لست غنيا، كما ترين.

- الأمر لا ينطبق عليك، يا مندوكرو. أنت رجل جيّد، بعكس كل المندكورو الآخرين!

- أبوك!

هتفت مؤنباً. فقالت:

- يعني معظم المندوكرو، أو فلنقل أغلبهم.

لم ترق لي إجابتها بعد. لم تكن الحرب الأهية قد اشتعلت، لذا ما وجدت مبررا لضغينتها فهتفت ثانية:

- أبوك!

- وزبير باشا، أليس مندوكورو؟

ألقمتني حجرا. إنجاز الزبير الأهم هو إسقاط سلطنة سودانية عظيمة لصالح المستعمر المصري، تصور! تسمى الشوارع في العاصمة فيما بعد باسمه ويلهج المؤرخون ببطولاته بينما لا يوجد شارع واحد باسم السلطان عجبنا أو وليم دينق، مثلا! هكذا دائما هي الأمور.

لشدة الحرارة نسافر سرى ونهجس نهارا، وأيضا تعينني معرفتي الدقيقة بالنجوم في تحديد الاتجهات. حالت مشاق السفر بيننا وبين المرح الحق في أيام الرحلة الأولى، فقد كنا نجد أنفسنا مجهدين كثيرا. بحلول الصبح، نفترش بروشنا عند أول شجرة ظليلة نصادفها ونستغرق في نوم عميق. لاحقا إقترحت عليّ أبوك أن نسافر على جمل واحد ونسحب الآخر خلفنا. لم تكن مطمئنة لركوب الجمال، إذ أنها دواب غريبة عليها. عادت علينا فكرتها بفوائد جمة، إذ حصلنا على وصل ليلي مستمر، فتمكنا من السفر متلاصقين مئات الأميال، من ظاهر أم روابة حتى تخوم جبل مرة. بهذه الطريقة انقضى الوقت بسرعة لا تصدق وبدت الليالي قصيرة، وأمكنني بعون أبوك، بحسها الغابي الفطري، إكتشاف الجمال غير العادي للأشجار المتدثرة بوشاح الليل، لكنها أمضت ليالي كثيرة تحادثني قبل أن أقدر مزاعمها المتعلقة بجمال الظلمة نفسها.

- لا تعني الظلمة عمى مطلقا، إنها مزيج من نهار قليل وليل كثير.

كانت قد شرعت للتو في محاولاتها إقناعي ببهاء الظلمة.

- أبوك، توقفي عن هذا اللغو الفارغ.

ظننت أنها تتحدث على نحو رمزي فقط.

-ديمومة التبدل تجعل العالم أكثر إشراقا. أنا أحلم بشمس أصغر، ضوء اقل، أو حتى لا ضوء.

إنها تتفاصح ليس إلا، هكذا فسرت الأمور. أبوك أردفت:

- كم مليون سنة مضت الأحوال على منوال واحد.

- لكن لماذا ترجين تبدلها؟

- لمجرد التغيير، عالم مختلف مائة بالمائة، بوصف لنج!

قلت لها دعينا من الثرثرة. ردت:

- طيّب.

فيما تلى من أيام، أبوك في أحضاني، أغني للجملين أغانٍ علمتنيها رديفتي الدينكاوية. بدا الأمر بالنسبة للبعيرين ببداوتهما الصحراوية القحة مفارقا لنواميس الحداء التي توارثاها لإجيال عديدة. لكنهما قليلا قليلا ينتبهان فيطربان. نسمعهما يغيران من وقع ركضها فينطلقان بحركات رزانتها متفلتة، متواصلة، أقرب إلى اهتزازات صدور راقصات الأمهرا. أبوك فيما بعد، حين تفيق من وهدة استسلامها إلى كسل شبقها الليلي في أحضاني، عند أعتاب مرتفعات مرة، احتجت زاعمة أن إيقاعات الأغاني التي أؤديها ليست دينكاوية بحتة.

-قل لي!

صرخت في وجهي،

-من أين تأتي بهذه المدات الطويلة الشتراء؟

واستطردت:

-أنا طلبت إليك دوزنة الجمال على حداء دينكاوي، لا العكس!

سألتها:

-ما تقصدين بالعكس، أبوك؟

-دوزنة حداء الدينكا على الجمال، على وقع خطاها.

قلت أدافع عن الجمال الرائعة:

-أبوك، أصغي إلى هذا المزيج مرة واحدة.

ناشدتها:

-أعط الجمال الماهرية فرصة أخيرة.

لكن أبوك لا تزال مغضبة قليلا، مشاعرها مجروحة، فالغناء هو حياتها. خيل إلي أنني لن أجد وقتا كافيا لإقناعها إذ رأينا الجبال تطل من فوقنا مباشرة. لم يتبق أي وقت فيما يبدو.







* "المبارزة"، فصل من رواية تحت الإعداد للنشر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى