وائل رضوان - كلب بلدى

مقولة شهيرة حضرتنى لصديق غال عندما يشاهد شخصا بائسا:
( روح اجرى وانت عامل زي الكلب الأجرب الحزين )..
مرت سنوات طويلة وهو يكرر هذه المقولة والجميع يضحك. ولكن أستوقفنى مشهد جعلنى أفكر فى الكتابة عن هذه الجملة.
كنت أشاهد الغروب من شرفة منزلى المطلة على الشارع الرئيسى، وإذا بى أنتفض مع صوت فرملة قوية لعدة سيارات، ولولا رحمة الله لكانت خسائر بشرية ومادية كبيرة ستحدث
أما السبب الرئيسى فى هذه الفوضى كان محاولة للعبور من هذا الكائن التعيس ( كلب بلدى أجرب وأكيد حزين ).
تركزت عدسات عينى على هذا الحزين وقد أخذ قرارا خاطئا فى توقيت خاطئ ولم يعد أمامه سوى الأستمرار …. إما العبور أو الموت دهساً وربما رعباً وخوفاً أيهما أقرب.
وتجلت قدرة الله فى إنقاذ الكائن المستسلم. وعبر للجانب الأخر بإعجوبة بعد أن سبب فوضى وهلع لمدة ثوانى طويلة.
ولكن حدثت مفاجأة .. لقد إستدار ورفع رقبته ودارت رأسه يميناً ويساراً كأنه يبحث عن شئ وبالفعل وجده. أنه صديقه مازال على الجانب الأخر ولا يجرؤ على العبور. فهو يقدم قدماً ويسحبها فوراً وكأنه يضعها على سطح الموقد المستعر النيران.
دقائق وبطلنا يروم محاولاً إستدعاء صديقة والأخر محلك سر.
وواضح جداً أنه صاحب قرار وجرئ فقد قرر العودة لإصطحاب صديقه الجبان.
ومرة أخرى كادت تحدث كارثة وزمجرت فرامل السيارات وأطلقت الأبواق مستهجنة هذا التصرف المتهور.
ما أن وصل حتى تلاقت رؤوسهم وكأنه يعاتبه على تركه وحيداً ..
إستداروا وتهادت خطواتهم على الرصيف وكان بطلنا الشجاع فى المقدمة وصديقه عند مؤخرة ذيله. الخطوات والنظرات تدل أنه يبحث عن مكان يضيق فيه الطريق حتى يستطيع العبور بصديقه. كان مصمماً على العبور للجانب الأخر.
تعجبت من هذا الأصرار ونزلت مسرعاً لأراقب هذا الشجيع وكنت أتوقع مقتله بين اللحظة والأخرى.
وحانت اللحظة الحاسمة وكأنهما إتفقا فقد أطلقا سيقانهم للريح وعبروا معاً بالسلامة.
ثم وقفا ينظرا لبعضهما وكأن العيون تدير حديثا خفيا.
إستدارا وخطوات قصيرة وجلسا بجوار حائط صغير على الرصيف وكأنهما أرادا مراقبة حركة الناس كما كانوا يراقبونهم.
إقتربت منهما ولم يكن يشغلنى الضعيف الجبان بل كان يشغلنى الضعيف الشجاع.
ركزت عدسة كاميرتى على وجهه ورأيت ملامح بؤس وشقاء وكأنه عاش فوق عمره أعمارا عديدة. أما عينه فكانت بالفعل حزينة.
يبدو لى فى الأفق سيدة قادمة وتمسك فى يدها سلسلة طويلة فى أخرها كلب وولف ضخم يمشى بكبرياء وتخايل، وكأنه لسه خارج من الجيم. والسيدة تعطيه فرصته فى التقدم وعندما ترى إقترابه من أحد المارة تشد السلسلة فيستجيب وتوجهه بكلمات فينفذها بالحرف وكأنه يفهم ما تقوله صاحبته.
لم أكن الوحيد الذى راقب المشهد فقد كان الشجاع يراقب هو الأخر فى حين أنشغل الجبان بمحاولة إزالة البراغيث والقراض من جسده الهزيل.
أقترب الوولف من البلدى فظهر الفارق الشاسع بينهما وزام الشجاع الهزيل ووقف ورفع ظهره وتوقعت مأساه ستلحق به من الوحش القادم ولكنى رأيت عجباً.
الوحش عاد مسرعاً ليحتمى خلف أقدام سيدته …. ما هذا ……..
ولما رأى الشجيع هذا الإنسحاب هدأ روعه وجلس مكانه وكأنه أنهى مهمة عسكرية وأنتصر وفتح فمه وتثائب وكأنه يبعث برسالة للوحش أنه يسمح له بالعبور. وبالفعل عبر الوحش متمسحاً مختبئاً خلف سيقان سيدته في مشهد ألتقطته عدسات كاميرتى.
جلست على حجر كبير من مخلفات سيارة نقل عابرة وواضح أنها كانت تغير الكاوتش واستخدمته فى التحجير وعلى الجانب المقابل من الشجيع ....كاميرتى جاهزة لإلتقاط المزيد من اللقطات المثيرة لهذا الكلب البلدى الأجرب الحزين.
دقائق وظهرت سيدة تحمل بين أحضانها أحد أنواع الكلاب الأليفة جداً التى لا أدرى ما فائدتها .. ويبدو أنها بثت إشارات حنان من ثديها لأذن وليدها أقصد صغيرها الذى هو كلبها فتمادى فى التمسح بها ومحاولة الوصول له وكأنه لم يفطم بعد.
وعاد صاحبنا للقيام والنظر فى اتجاه القادم الضئيل وعندما تلاقت العيون بدأ الرعب يدب فى أوصال الصغير وأغمض عينيه وكأنه لا يريد مشاهدة الشجيع فأطلق الأخير نباحاً قوياً لا يتناسب مع هيئته الكئيبة الضعيفة فإستكان الصغير بين أحضان أمه ومثل مشهد الموت الصامت.. لعل النابح يرحم ضعفه ويعفو عنه … ولما مرت بعيداً أخرج رأسه وهز أذنيه وأخرج لسانه الطويل وكأنه يشمت فى هذا الجربان الحزين.
بعد قليل بدأ الحزين ينبح على المارة وكأنه يرسل رسالة إعتراض على وضعه وكلما زاد تجاهل المارة له زاد نباحه.
ومع إصرارهم على تجاهله قرر وهو صاحب القرارات الخاطئة أن يلفت نظرهم بالقوة فبدأ يهجم علي المارة ويحاول عقرهم فما كان من الشباب إلا أشبعوه ضرباً بالعصى والأحجار فهرب غير مبال كالعادة وأنطلق هارباً من شدة ضرباتهم وحاول العبور مرة ثالثة وإنطلق نفير السيارات و أختلطت صرخة سيدة من المارة مع صرخة فرملة سيارة نصف نقل مع صوت إصطدام قوى. وسجلت كاميرتى لقطات مشهد النهاية للشجيع وهو يرتفع لأعلى مترين ثم يسقط غارقاً فى دمائه جثة هامدة فى منتصف الطريق.
ولقطت عدستى الجبان الضعيف وهو يرتعد باكياً صديقه وقد انكمش فى مكانه ملتفاً حول نفسه وكأنه يردد ( لا أريد الموت ). وعاش …….
رفع المارة الجثة من الطريق وألقوها فى صندوق القمامه وكانت هذه ….نهاية الكلب البلدى الأجرب الحزين.
عدت إلى شرفتى و بدأت أراجع الصور التى ألتقطتها. وأحسست بالعار من مجتمعنا.
الكائن نفس الكائن ( كلب ). فى بعض الأحيان يتم تدريبه وإطعامه والإهتمام به أو إحتضانه وتربيته كما الوليد …. لأنه وولف أو أى نوع أجنبى ويتباهوا بأصله وفصله وربما عندما يموت يدفن بجوار صاحبه فى نفس المقبرة.
وفى كل الأحيان يهمل البلدى و يترك للشوارع ويسمونه الكلاب الضالة …. يجوع ويشقى و يتسول و يمرض و يعض ويهجم و يُضرب و يُطرد ويموت ويدفن فى صناديق القمامة.
وضعت رأسى بين راحتى يدى دقائق ثم هبيت واقفاً ونزلت أبحث عن أطفال الشوارع.
هؤلاء الأطفال الهائمين على وجوههم يبحثون عن لقيمات بين القمامة ويصارعون الحياة حتى يدفنوا فى نفس الصناديق التى كانوا يبحثون فيها. هؤلاء ضحية إهمال الأهل و المجتمع ……….
أخيراً وجدت أحدهم جالساً ينظر للمارة ويزوم …..قررت أن أتبناه ربما أنتشله قبل أن يتحول إلى ما لا يحمد عقباه.
وما أن إقتربت منه ظن أننى سأمسك به وأسلمه للشرطة أو ظن ما ظن. فقد أطلق ساقيه للريح محاولاً العبور فتكرر المشهد المرعب وطار جسده الهزيل فى الفضاء وسقط على حافة الطريق غارقاً فى دمائه ولكن هذه المرة لم يهتم به أحد ولم يلقوا بجسده فى صندوق القمامة مع أن الشبه واحد رغم إختلاف الفصائل وظل البائس التعيس ملقى على جانب الطريق وكأنه مات بالوباء لا يجرؤ أحد من الأقتراب منه ورأيت الكلب الهزيل الجبان تحرك من مكانه ووقف عند رأس القتيل وسالت دموع عجيبة من عينيه إختلطت بدماء الجسد الملقى أمامه وزااااام ورفع رأسه ونبح بأعلى صوته ( ماااااات الكلب الأجرب الحزين )………..

تمت
وائل رضوان
٢٣ يولية ٢٠١٨

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى