عبدالمنعم رمضان - حلمٌ في منتصفِ الليل

أشتهي أن أكونَ الحجارةَ فوق الرؤوسْ.
أشتهي أن أكونَ المسافرَ من بابِ مصرَ إلى بابِ أنطاكيهْ.
أشتهي أن أكون الفضاءَ، وتحتي النوافذُ مفتوحةٌ.
أشتهي أن أدسَّ ذراعيَّ تحت الثيابِ، وأن أتمكن من قوةِ الحبِّ مثل الملاكِ وأن أتمكن من غيبتي.
أشتهي أن أهيّئَ بعد انتظارٍ طويلٍ متاهةَ عائلتي.
أشتهي أن أنامَ بغير نواميسَ، أن أتلفّتَ كالموتِ، ثم أعودَ وأصعدَ مئذنةَ اللهِ، لي قامةٌ تستحقُّ، ولي شفتانِ معلّقتانِ، ولي أملٌ يتبدّد قبل اكتمالِ عناصره ويضيعُ، ولي رئتانِ، ولي نخلةٌ قربَ آخر حلمٍ رأيتُ، ولي جسدٌ ضائعٌ منذ خفَّ، وأوغلَ في الطيرانِ.
ولي وحشة الماء في زمن الحرب.
لي آلة ضخمة من هدير العظام.
ولي درج واطئ.
لي فمٌ مثل سربِ عصافيرَ ميّتةٍ.
لي حذاءٌ وحيدٌ.
ولي قدمانِ مفلطحتانِ.
ولي نَفَسٌ ساخنٌ.
لي حرائقُ تشبهُ أنفاسَ فبراير العذب.
لي دهشةٌ أستطيعُ إذا شئتُ أن أتجاوزها.
في أواخر مارسَ من كل وقتٍ، أحاول أن أتريّضَ بين هواءينِ، ثم أحاولُ أن أستوي.
في أواخر مارس أسألُ عن أمسياتِ الربيعِ، وحين أضلُّ أحسُّ كأني على جبلِ الثلجِ، أتركُ ألويتي للحنينِ المفاجئِ.
عندي منازلُ تشبهُ أقراطَ فاطمةَ الأمِّ، أميّ.
وعندي خزائنُ تشبهُ بعض ضفائر زينبَ.
عندي صخورٌ تكاد تطلُّ على البحرِ، عندي سياجٌ حميمٌ ورفّ مزاميرَ، عندي الغزالة والمسك، عندي القراصنة المفعمون بحب النساء، وعندي نياشينُ زرقاءُ، عندي كلابٌ، وعندي صدى الصوتِ والصوتُ، عندي سرابٌ وحيدٌ أسمّيه باسمي.
ولكنني مثل ماءٍ قديمٍ ومثل يمامٍ قديمٍ، أظلُّ أفتّشُ عن أغنياتِ البراءةِ، أصنعُ منها مراكبَ بيضاءَ ناعمةً.
وقبيل اقترابي من حافةِ النورِ، أبدأُ في البحثِ عن خطواتي القويّةِ، أبدأُ في البحثِ عن ضفّتي.
قلتُ: هل هي بهوٌ طويلٌ بغير أرائكَ، هل هي عاديّةٌ، لم يُجبني أحدْ.
قلتُ: هل هي آمنةٌ، قيل لي: سوف تعبرُها، قيل لي: سوف تفرشُ تحتك بعضَ حشائشِها وتنامُ، فأومأتُ للذكرياتِ، ونمتُ، وكان صباحٌ جديدٌ، مساءٌ جديدٌ، وكان الحضورُ، وكان الغيابُ.
ذهبتُ إلى قبر أمي.
ذهبتُ إلى نجمةٍ فوق سفحِ المقطّمِ.
أرخيتُ رأسي طويلاً، وسرتُ كأني اقتربتُ من السورِ.
ليست معي غيرُ قنّينتينِ من الروحِ، مملوءتين، وجرّةِ ماءٍ، وليست معي غير ريحٍ وآنيةٍ من غبارٍ.
لعقتُ فمي، والتصقتُ بساريتي، صرتُ أُشبهُ بعضَ فتاتِ الصدى، صرتُ أُشبههُ، كانت الأرضُ عاريةً، ومهاوى الخطى تتقدّمُني في اتجاهِ أبي.
كنت أعرفُ أني سأرجعُ قبل رجوعِ السماءِ إلى ركنِها الأبديِّ.
سأرجعُ قبل رجوعِ المنازلِ، قبل الطيورِ الغريبةِ، قبل المساءِ، ولكنني خفتُ أن أتمادى وأخرجَ من قفصي، وأتوه.
وها أنذا منذ جهّزتُ أمتعتي لأسافرَ من بابِ مصر إلى بابِ بيروت.
منذ اتجهتُ بعيداً عن الحلمِ، مازلت ألتفُّ بالظلماتِ، وأتفِلُ في الكلماتِ وأفركها، وأدحرجُ ما يتبقّى.
وهاأنذا مثل ظلّين، أجلسُ كالليلِ في غرفتي.
أشتهى أن أكون وحيداً وحيداً على حَافّةِ النورِ أو حافةِ الكائناتْ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى