نعيم محمد الغول - الرّحيم.. قصة قصيرة

عند الطرف البعيد البعيد من المدينة، وتحديدا من الجهة المحاذية للجبال الوعرة المليئة بالصخور والكهوف والعظام المتحللة لحيوانات وبشر مروا من هنا، أو هربوا من هناك من المدينة ؛ هناك بالتحديد وجده بعد أن وصل إلى أذنيه نشيجه الذي بدا له مواءًأ غريبا ،وبعد أن اشتم رائحته التي سارت الريح بها اليه سير صبايا يعرفن قدْرهن من الجمال يتبخترن تيها ودلالا. كان طفلا في الثانية أو الثالثة من العمر بين بقايا ثياب ممزقة وأحذية كائنات بشرية متناثرة بعضها ما تزال الأرجل فيها حتى أعلى الركبة. وكانت هناك قطع متناثرة من اللحم الفاسد والرؤوس التي التصق الشعر بالدم فغطى وجوهها . أجساد أخرى صغيرة وكبيرة الحجم كانت متفحمة.

لم يفهم ما جرى. لكنه تذكر انه سمع أصواتا مرعبة في السماء وعلى الأرض . أصوات كانفجارات البراكين يتبعها رجفة كارتجاف الأرض حين يشاكسها زلزال.

لم يفهم ما ألجأ هؤلاء البشر إلى منطقته حيث الماء قليل والصيد أقل. فكل يومين أو ثلاثة قد يتاح له أن يغافل أرنبا يقضم بقايا عشب نبت بأعجوبة من تحت صخرة والأرنب عند لهفته هنا قد ينسى حذره. أما هو فهنا قد يضطر أحيانا الى أكل السحالي والجراذين.

فماذا كانوا يتوقعون أن يجدوا هنا.

فهـِمَ – بصورة غائمة وبما أتيح له من تلافيف دماغية بسيطة- أنهم هربوا من شيء وان هذا الشيء لم يكن مما يُجدي الهربُ منه؛ فأن تواجهه أو تهرب منه. النتيجة واحدة كتلك التي شاهدها ذات مرة في منطقة أخرى بعيدة عن هذه. ماعز أغرتها الأعشاب المتفرقة فتاهت عن راعيها في بطن الوادي ووجدت عشرين مفترسا إلا قليلا يهجمون دفعة واحدة . تمزقت هي حقا ولكن تمزق معها أبضا كثير من أجساد الضباع والذئاب وابن آوى وحتى بعض النسور تكسرت أجنحتها. كان الجوع قد انسى الجميع أن من الممكن تقاسم الغنيمة.

لكنه أيضا في مسلسل الغموض الكبير هذا لم يفهم كيف أن الزلازل والبراكين لم تنل من هذا الطفل الذي يكاد يكون رضيعا.

كان جائعا لكنه نسي جوعه ؛ فقد أدهشه أن الطفل حين رآه صمت، ومشى بتعثر نحوه وسمعه يقول " بوبي" و يكررها وهويمسح على رأسه ورقبته وذيله ثم أخذ يضحك ويشده من ذيله.

من بوبي هذا الذي يحبه هذا الصغير إلى حد أن يعانق اسدا أشقاه الجوع بين هذه الجبال. أهو اسد آخر؟ لا أسد غيره في الاقليم المحاذي للمدينة التي تسميها الطيور مدينة المحبة. هنا لا حُب، لا ألفة ،لا لعب . هنا مخالب وأنياب وقضم وتمزيق وبلع وهضم وبحث من جديد. ثم إن اسم بوبي هذا لا يوحي بحياة البراري والقفار. "بوبي" اسم يخجل أسد وقور مثله أن يحمله. شعر فعلا بالقرف والحرج لكنه أدرك أن هذا مجرد طفل ولا يقصد الحط من مقام أسد عظيم مثله فكتم زمجرة غاضبة كادت تفلت من بين شدقيه المليئين بالوبر.

كان الطفل يلبس ملابس جميلة ونظيفة خلا بعض الغبار والدم الذي ربما جاءه من الكائنات البشرية التي ينتمي لها . وكان في رقبته سلسلة .وشعره مقصوص بعناية من حول الرأس فوق الاذن فيما ترك الباقي طويلا يلمع كالكستناء المذهب تحت الشمس، كم يعبث البشر بأطفالهم ليبدوا كتلك الكائنات التي نراها قادمة من السماء ولكنهم يتركونهم في القفار بين أجساد ممزقة. وهو شيء لا يمكنه فهمه.

فكر الأسد فيما يمكن أن يفعله لهذا الصبي الذي من الواضح أنه وحيد وفاقد لكل شيء. هل يصحبه قريبا من مدينة المحبة ويرميه قريبا منها؟

تلك مخاطرة كبرى فقد حاول بعض الثعالب والذئاب والضباع ذلك فلم يعودوا أو عاد بعضهم يقولون بأنهم بحثوا كثيرا عن لحم يؤكل فلم يجدوا وطاردهم بعض الشبان بالعصي ولكثرتهم هربوا. وهو وحيد. صحيح أنه أسد واسمه يسقط سراويل أشجع الشجعان ولكنه وحيد ،والكثرة تغلب الشجاعة.

كان أسدا وفي جوفه قلب أسد. قلب كالصخر لم يعر ف الحزن يوما، والرحمة شيء مات أبوه وأمه قبل أن يعلماه إياها لكنه حين سمع الطفل يبكي ويقول "مم" ويشير الى فمه عرف أنه يريد أن يأكل فتحرك في قطعة الصخر التي في جوفه شيء دافئ كسائل يريد أن يخرج ليواسي الطفل فخرج من عيينه نقاط ماء مالح.

ابتلغ غصته وسأل : ماذا يمكن أن يطعم طفلا كهذا؟ هل يأكل دودأ، حراذين أم أنه كالأرنب يأكل العشب او أوراق الشجر؟

أحزنه الطفل كثيرا ، وتراءى له أنه وحيد- مثله - وسيكبر هكذا . فأحس أن القدر رماه إليه وربطه به ربطا لا فكاك منه. وحيدان في قفر. يا لحكمة الأقدار فمن للوحيد إلا الوحيد؟!

أركبه على ظهره ومضى يبحث عن طعام وماء له ؛ سيجرب إطعامه أي شيء حتى يستقر على شيء فيسعى الى إحضاره له إذا أمكن. للطفل الحق في البقاء كأي كائن ، يجب أن يساعده ليعيش ويكبر ويصبح ذا شأن . ومن يدري قد يعود الى المدينة ويصبح زعيما فيها وقد يأمر بالسماح للاسود بالاقامة وتوفير اللحوم الطازجة اللذيذة لها فيها.

اما هو الاسد الذي يعيش عند الطرف البعيد البعيد من المدينة وتحديدا من الجهة المحاذية للجبال الوعرة المليئة بالصخور والكهوف والعظام المتحللة لحيوانات وبشر مروا من هنا أو هربوا فإنه الان بحاجة الى البقاء ليقوم برسالته خير قيام.

شعر بالتعب من ثقل الطفل على ظهره. " أنا لم أحمل أحدا يوما على ظهري؛ أقصى ما فعلته هو أن أجُرّ الفريسة إلى ظل شجرة، أو إلى داخل مغارة لآكلها دون تنغيص من ضبع أو ثعلب."

اقعى متأملا الطفل. سال نفسه وهويشعر بشيء من التعاسة:" من ألقاه إليّ ، لو كان أكبر لما تجشمت هذا العناء،بالتأكيد من فعل بجماعته من تمزيق ليسوا أسودا. الأسود لا نقتل ونلقي. إنها نقتل لنأكل. ليسوا ثعالب ولا ضباع. لا أظنهم بشرا فأنا أعرف البشر أعرفهم من المدينة تلك. مدينة المحبة والسلام .. مدينة العصافير الملونة التي تمر بنا وتلقي التحية من عل. لم أسمع عن أحد قـُتِل فيها حتى من دخلها منّا واصطاد كانوا يكتفون بطرده وإخافته كي لا يعود. من فعل هذا إذن؟ يتعب دماغي تصورُ شكله وأرجوا ألا أراه!"

وعاد إليه جوعه مختلطا ببكاء الصبي "مم" "مم" "مم" . يا لها من اسطوانه لعينة لا تفعل فيه شيئا الا ان تثير تعبه وجوعه أكثر. هل يظن هذا الصغير أنه وحده الجائع في هذا الكون؟ ألا يعلم أنه بد لبوبي أن ياكل أيضا ليبقى ويتابع هذه الرسالة التعسة . وغرق في التأمل ثانية. " قد أبحث لهذا الطفل عن غذاء، وقد لا أجد؛ وسيموت هذا الطفل البريء، وأنا أيضا سأموت إن لم آكل ولن أواصل رسالتي . كانت لحظات أحس فيها بالدوار وهو ينظر إلى فخذي الطفل البضتين وبطنه السمين.

كان يجب أن يواصل ويبقى . أما مضت نصف ساعة طويلة بطول الدهر وهو يحاول أن يكون رحيما؟ أما ذرف الدموع من أجله، وحمله على ظهره، وسمح له أن يشد ذيله ؟

ولكن لكل شيء نهاية. لكل شيء نهايااااهم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى