عمار بولحبال - يوميات رجل مجنون.. قصة قصيرة

اليوم الأول :

حتى ذلك اليوم كل شيء في المدينة كان عاديا , منذ الصباح الباكر استيقظ سكانها على نغمات المطر المتهافت .... شوارعها تحتمي بالأمل المفقود , وبناياتها تغتسل من الرماد أيام العجاف , أشعة الشمس اختفت تحت تسابيح السحاب الأسود ... حركة الراكضين بدأت تنزع لحظات السكون , وتبعث روح الحياة .... وخلال لحظات التيه ارتفعت دقات الطبل تنتزع لحظات السكون , وتبعث روح الحياة .... رجل ممزق الثياب , وحافي القدمين , بين يديه طبل صغير , ينادي بأعلى صوته : " من يشتري أطفالا صغارا ؟ ! " حركة الراكضين توقفت , تجمهر الجميع حوله , أمطار الشتاء تواصل عزف لحن خالد , عصف العواصف يحاصر المدينة التائهة , وشدة البرودة لم تمنع الراكضين من التوقف والإلتفاف حول هذا الغريب الذي هز أركان المدينة منذ الصباح .......

سيدي هل تشتري أطفالا صغارا ؟ قال الغريب.

لا أحد استطاع أن يكسر حاجز الصمت , علامات الحيرة تعلو محياهم , وفي أذهانهم ألف سؤال وسؤال , دقات الطبل ترتفع , ويسير الغريب ... توقف الرجل كأن الكلمات أتعبته .أحد المتفرجين يتحدى السكون, يسأله :

-ما حكاية هؤلاء الأطفال وأين هم ؟ " .

حدق االغريب في الملتفين حوله وظن الجميع أنه سيروي لهم حكاية محزنة , انفرجت شفتاه , ونادى من جديد " أطفال للبيع فمن يشتري "

قال أحدهم :

-دعوه يبيع الأطفال إنه مجنون ........اذهبوا إلى أعمالكم ....

تفرق الجميع بينما واصل السير في شوارع المدينة ودقات الطبل تتعالى , وبين شفتيه عبارة : " من يشتري أطفالا صغارا ؟ " وتستمر الدورة ليصبح الضياع أسلوب الحياة اليومية ....ومن شارع إلى آخر يتزايد عدد الأطفال السائرين وراءه , هذا يجذبه من ثيابه وآخر يضرب على طبله , ويواصل الرجل دورته طوال النهار حتى المساء دون كلل ....وحين ارتمت شوارع المدينة في بحر الظلام , توقفت دقات الطبل وكف الرجل عن التجوال في انتظار بزوغ الفجر .

اليوم الثاني :

تستيقظ المدينة على أشعة الشمس وهي تعانق السماء في كبرياء الشوارع , اغتسلت من نزيف الأيام .... الحركة بدأت تدب عبر الطرقات , قطعان بشرية تتحرك كتلا صدئة في اتجاه نقطة ما من إحدى الزوايا , ينطلق صوت الطبل من جديد ... قال أحدهم :

- لقد عاد اليوم كذلك .....

قال الثاني :"

- سيقضي كل اليوم يغني ليبيع الأطفال ..."

دقات الطبل تواكب حركة الراكضين عبر شوارع المدينة المسكنية , صوت الرجل يخترق دقات الطبل ...... امرأة للبيع فمن يشتري ؟! كرر النداء وهو يواصل زحفه عبر الأزقة ... تجمهر حوله الفضوليون. قال الرجل :

-أمس يبيع الأطفال واليوم امرأة.

قال الثاني :

-فلنبلغ عنه الدرك.

قال الثالث :

-ماذا سنقول لهم ؟ رجل مجنون يجوب شوارع المدينة ....

وانغمس الجميع في بحر الضياع يتلذذ طعم الحياة المرة , ويبحث عن مواويل العيش الرغد التائه بين دروب الغناء....وفي الوقت الذي كانت فيه الكتل البشرية تبحث عن منافذ الكسب وتبتاع فتات الزمن وتسكت به بطون الجائعين كان الغريب يواصل تجواله عبر شوارع المدينة ودقات طبله لا تتوقف , ونغمات صوته الجوهرية تتعالى وأيادي الأطفال تتجاذبه ... امرأة للبيع فمن يشتري ؟! قرص الشمس يتهادى وئيدا ليختفي في نقطة ما .... أهل المدينة يركضون نحو بيوتهم , حتى صوت الغريب توقف كأنه يسترد أنفاسه ليوم جديد .....

اليوم الثالث

كل شيء كان عاديا في صبيحة هذا اليوم , النازحون نحو مآربهم يلتهمون الطريق بسرعة لا أحد يلتفت للآخر ... دقات الطبل تخترق السكون وتعيد إلى ذاكرة المدينة الحزن الخريفي المتمدد عبر دروب الضياع والخوف ... اليوم لا أحد يأبه لهذه الدقات , فالجميع له ما يغنيه عن متاعب الغريب أو المجنون الذي عودهم على جولاته ....

-أرض للبيع فمن يشتري ؟! تعجب الناس فأمس الأول الأطفال وأمس المرأة واليوم الأض ... وتتواصل الحركة في طرقات المدينة لتصنع موسم الفرح وترتب حروف الأمل ... الأكتاف تتزاحم , والسواعد تتنازع لردم سنين الخوف الملتهبة ودموع الإحتراق .... والغريب يدك حصون التيه وينشد لحنه الخالد عبر صيحات الأطفال .. " أرض للبيع فمن يشتري ؟ .." وبدأت قوافل الظلام تزحف على أركان المدينة التائهة وقرص الشمس يهوي إلى نقطة اللاوجود تاركا وراءه كتلا بشرية صدئة تتزاحم داخل بيوتها , وينسحب الغريب , أو المجنون إلى مكان ما حتى يسترجع قواه ليوم جديد وكل أهل المدينة ناموا على سؤال واحد : إلى أين يذهب في الليل ؟ وما هو الجديد عنده غدا ؟!

اليوم الرابع : وأيام أخرى ........

تشرق الشمس في أجمل صورها , وتمتد عبر الأزقة قوافل الراكضين وراء فتاة تغزو الطرقات , وتتنفس نسمات الصباح الحاملة لذرات الأمل المنسي بين ثنايا الطوابير الممتدة ....وجوه الجميع تسكنها تراتيل الضياع والانهيار وتحذوها مواويل الحب والحياة ...البيوت المتواضعة تقذف بالكتل البشرية ... الأقدام تركض في كل الإتجاهات ...مع لسعات حرارة الشمس يظهر الرجل وقد استغنى عن طبله حاملا بين يديه مصحفا , يجلس القرفصاء في وسط الشارع الكبير , يأخذ في تلاوة القرآن ...

امرأة تصيح : " مجنون يتلو القرآن "

قال شيخ هرم :

-لقد أصبح لغزا كبيرا لهذه المدينة التائهة ...

طوى الرجل المصحف ووقف مبحرا إلى عالم الانهيار ....نادى بأعلى صوته :

" أرض ...,أطفال ..., امرأة كلهم للبيع فمن يشتري ؟ "

نغم جديد للحن الحياة البائسة المحترقة تحت شذرات العهر والخيانة , ويتكرر مشهد من يتلو القرآن ويتكرر النداء مرة أخرى ....

والمدينة مرتمية في بحر الذهول , من هذا الرجل الذي كسر حواجز الخوف , وأدخلها في عهد فريد .... وقبل أن يعلن الظلام جولاته اليومية نادى منادي في الشوارع لأهل المدينة , فهناك اجتماع لدراسة قضية الرجل الغريب .حينها اجتمعت الكتل البشرية الصدئة , هاهي تتحد لأول مرة من أجل رجل غريب ومجنون يجوب شوارع المدينة لكن أن تجتمع من أجل هذه البلدة الزاحفة إلى أعماق الرذيلة والضياع فلا ....

وقف رجل قوي البنية وسط الجمع وقال : ماذا تقولون في هذا الرجل؟

قال الأول :

- يبعد عن المدينة .

قال الثاني :

- نبلغ الدرك .

قال الثالث :

- تجتمعون لطرد مجنون والطرقات تعيش الانهيار وفئران المدينة تأكل من صحون أبنائها دعوه وشأنه .

ويهتف الجميع : دعوه ..

وتتوالى الأيام والرجل يجوب الشوارع منشدا كلمات الإحتراق والتي تبعث حرارة الألم المسكون في الجسد الهزيل ... حتى أمطار الشتاء الغزيرة ولسعات البرد القارس لم تثنه عن جولاته عبر أرجاء المدينة ولم تقض علي صوته الجوهري ووهو ينادي : أرض ....أطفال ......امرأة للبيع فمن يشتري ؟!

ومع نسمات أيام الربيع الأولى يستيقظ السكان والشمس تطبع قبلاتها الوردية على الشوارع , لكن صوت الغريب لم ينبعث بعد ... علامات الحيرة تعلو الوجوه , أسئلة كثيرة في الأذهان .... الشمس في كبد السماء , صوت الغريب لم ينطلق بعد , ماذا حدث له , أين هو ؟

قال أحدهم :

- قبض عليه يحاول إحراق المسجد ...

قال الآخر :

- بل قبض عليه وهو يحاول إحراق البلدية .

قال الثالث :

- بل قبض عليه ... وسكت ... وبقيت النفوس تطرح ألف سؤال وسؤال ... بينما هو كان قد قرر توديع المدينة وسكانها نائمون وارتحل إلى مكان آخر لعل الزمن غير هذا الزمن ...

وبقي السؤال : ما حقيقة هذا الرجل ؟!.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى