سعدي صبّاح - وهل هي ذئبة.. ؟

حين تمزّق خيوط الرمضاء غلالة الصباح وتتناثر على مأواك القابع بشجيرات النبق الشائكة، أمل جديد يدخل إلى قلبك يا شعبان،فتُماشي شويهاتك الوديعة إلى بقايا سنابل بعثرتها أسراب الطيور،واستهوتك سخال تُمأمئ بين الروابي ! فتناسلت أعشاب غبطتك ونسمات الصّبا ملأت رئتيك، فرحتَ تحوم بالأحراش فعثرت على جروٍ صغير، دنوتَ منه في شبه الذهول ! جثوت على ركبتيك وانقضضت عليه كالنسر يا شعبان،زويته وعُدْتَ إلى مغناك جاعلا منه قرّة عين الصغار! غير عابئ بتلك اللعينة التي كانت تتربّص بشفير الوادي! وقد شامت احتجانك لرضيعها الذي أمسى رهينا لأطفالك الذين يسحبونه على الأشواك ، يعبثون بهيكله.. يحوّلونه إلى أشلاء عنوة في الذئاب ! والحصاة تنتف شعيراته البنيّة بعدما أنبأ به الزمان ! وثريّا تضحك حدّ القهقهة بعين نجلاء وبرغبة تنوي أن تًُعدّ لك فاكهة الليل يا شعبان! ليلتها اندثرت رائحة الشجو بين أحضان قمر بليلة قمرية من أمتع الليالي !ومع سحرة الصباح منحتك ثريّا وردة البكور وأخرجتَ القطيع في مرحٍ إلى المراعي، ولا تدري أنّها تنتظرك مُكشّرةً على أنيابها الضّارية كثكلى سلبوها وحيدا يشاطرها وحشة الأغوار ! قفزت مذعورا! تأمّلتها فتربّد وجهك.. ارتعدت فرائسك تسرّبت سبائخ باردة إلى ظهرك ، وقفت مرتاعا تبسمل وتعوّذ من الشيطان يا شعبان، فكّرت في استرجاعه لكنّه بقايا رميم ينام تحت الهشيم! غمغمت: " يا للفجيعة هل هي ذئبة أم جنيّة متنكّرة " وعدتَ بالشياه بعدما حالت بينك وبين المراعي ، وفي المساء حوّلت الدرب عن منحناها، ..سُقْتَ القطيع إلى بقاع أخرى متّقيا شرّ ذئبة تترصّدك بين المعاطف وحمدت الله على النجاة، أخرجت الناي تنوي أن تملأ تلك المراعي القفراء أنغاما غجريّة تلحّد من خلالها أشباح الصّبح إلى حين،وبغتة رأيتها تقطع المراعي المترامية واثبة بين الجنادل كالبلاء! فأقلعت عن الناي وجلاً ! دنوتَ..ثُلْتَ وبالت من حولك الشياطين يا شعبان .. ارتعدتَ وكدتَ أن تسقط مغشيّا، ورحت تُهشّ على الشياه مزمجراً لتقودها في لمح البصر، انهارت أعصابك أصبحت أسير عالم الجنّ والغلان يا شعبان ! أحدثت خطاك دويّا أيقظت طيور تبغض الجلاء وفاء لبرّ الأمان! كُنتَ تنوي أن لا تبوح ولكن ستظلّ ملامحك غير كاتمة لكوابيس ذئبة خبّأها لك الزمان يا شعبان، هذه الكلبة سلبت نور عينيك الذي لا ينضب وغيّرت مجرى حياتك على عقب، هرعت قبل الخلود إلى النوم وارتميت على الفراش مرتعشا ترى أشباح سراحنة يحفّون بك ! يرغبون اختطافك من بين أحضان القمر الذي لم يخطر بباله أن يتكهّن سرّ المعضلة، تعتع لسانك .. تدثّرت متوهّمــا أنّها ستتسلّل إلى مضجعك تتشمّم رائحة صغيرها بيديك المخضّبة بدماه ! وتهذي كأنّ بك مسّ من الجنون، أشباحها تطاردك حتى انبلاج الفجر ولم يأتي بأمل جديد ! وتنهض ثريّا ملبّية ثغاء نعجتها الحلوب تأتيك بثغر النعمان وبيديها الجميلتين قدح الحليب ورغيف التنّور الأسمر! ولكن حالتك المتردّية سدّت نوافذ شهيتك يا شعبان،تتأمّل ثريّــا بعينين ذابلتين وتتذكّر عنفوان الشباب حين تيّمتك بجمال الوجه الصّبوح وحيويّتها والخصلات الهاربة من الدّياجي !

يوم كانت تتخطّر برمّان نهديها ! وبين عشيّة صرت مرهق الأعصاب مضطرب العقل، ووراء انهيارك ذئبة كُنت محل سخطهــا حوّلت فيك حبّ الطبيعة إلى كراهية، تندسُّ في حنبلٍ متآكلٍ مستاء من بلاوته ! فتتراءى لك شجيرات الشيح والمثنان هياكل ذئاب شرسة!.. نعاجك البريئة توهّمتها وحوشاً ضارية! ونسيتَ أنّك كنت العاشق الولهان لحبّ المراعي وحبّ السارقة لوجه القمر والتي أطربتك برنّات الخلخال وعزف الأساور! وقد كنتَ هاتفا بحبّها وبحبّ المروج والتلال، ثريّـا اللحظة فقط أيقنت تدهور حالتك، فأخبرت مسعود على الفور فحملك في الحال إلى الأساة اطمأنّوك : " لا بأس نوبات وستزول، أعطاك خبيرهم حبوبــا ساعدتك على التدهور، عرّج بك إلى شيوخ التعاويذ، ختمت بكلمات الله التامّات بعد الأقراص والحقن، اعتكفت الليالي تنفر للطعام وشرب الشاي وذات ليلة قمريّة هادئة بدا وجهك مقمراً وتناثرت على محيّاك بتلات ورديّة، وامتثلت للشفاء ! وأنت تتأمّل ثريّــا التي حطّت العصافير على وجنتيها الحالمتين وبرعمت زهور الأمل لثغر قد غادرته الضّحكات، وتمتمت :" أبشري أيّتها الشياه غدا إلى المراعي والظلّ الوارف بين الشجر، راحت ثريّــا إلى الخصّ وقد غمرتها نشوة الفرح ولا تلبث أن عادت لتتفقّدك وتطمئنُّ عليك، وأنت تسبح بلجّة حمراء! شلالات من النجيع... سُفُنٌ بحريّة لكنّها من فولاذ .. ربّانتها ذئبة بمخالب دامية تريد سلب روح تحبّهــا مقابل جروٍ تحبُّهُ ! وأنت يا شعبان قد أوهمت ثريّا لكنك الآن تحتضر وثريّـــا ترتعش في عزّ الخريف ! تقدّمت منك .. لم تصدّق فوجدتكَ جثّة هامدة ! صرخت بصوت مبحوح .. تبكّمت وأنبأت بكلّ أسى مسعود، فتحوّلت الشجيرات بمناكبه إلى صريم ! دخل عليك مسعود .. تأمّلـــك يريد أن يأخذ قبلة من جبين أخيه الذي توارى وراء وجه آخر غير الذي يعرفه مسعود! لم يفعل مسعود إلا بالدّموع وثريّــــا شحّ عليها دمعها فارتمت على الأطفال فاستيقظوا على النواح، نادى كبيرهم أبي لكنّك أصبحت غريبا عنهم وعن ثريّـا التي منحتك الحبّ الكبير، وغُصّت الرّدهــة بالحرائــر والتــفّ النــاس حيارى ! تقدّم شيخ طاعــن فتح أزرار بردتك وكشَفَ عن جسدك البارد جارحـة .. جارحـة غسّلك وبخّك بعطر الرّياض، حُبّكت أفنان العرعر وأُعدّ نعشك بإتقان يا شعبان ! وهؤلاء الذين يحبّونك أناخوا أتانهم وحملوا جثّتك الباردة بهدوء على ظهرهـــا ، نخزوهـا فتحرّكت ..استحثّوهـا فسارت وئيدة يتبعهـا الموكب الجنائزي بخشوع على الأحمرة ،مهللا ومكبّــراً :" الله أكبر إنّا لله وإنّ لله راجعون سالكين بك دروبـا كنتَ تسلكهـا مع القطيع،وهم في حيرة تفتّت الأكباد،أفكارهم محلّقــة مع الظّلام الغشيب .. وجوه مصفرّة وقلوب خاشعة واجفة، مرّوا بسرحة كنت تجلس في ظلّها تعزف لحنــا حانيا للشياه التي حُرمـت على حين غرّة من مراعيها الخصاب! وواصلوا السّير بك بوهاد تعرفهـا شبرا شبراً ، مسعود يتأمّل جثتك المترجرجة على الأتان.. يتذكــر خصالك الحميدة إلى أن نهّقت الدابّة التي تحمل جثّتك المسافرة يا شعبان! فإذا بها ترسل عواءً يبعث الرّهبة في النفوس! وفي جوّ قاتم لاحت اللعينة كجنيّة تلاحق الموكب على قدم وساق، تطوي البقاع القفراء! فتهامس الناس في ذعرٍ : " ذئبـــة .. جنيّة على هيئة ذئبة كانت بحياته " وساد الصّمت مع وصولهم إلى مثواك الجديد يا شعبان، وتلك اللعينة وعوعت بغضب ووثبت كالعفريت على الأموات، ثمّ جثمت على سياج المقبرة، لسانهــا يتدلّى ككلبة مسعورة ! في حالة من الهلع أزاحوا النقاب على وجهكَ الورسي.. أدخلوك الرّمس في حيطة، فأقْعتْ تصرُّ أذنيهــا وعينيها عالقتين بجثّتك الهاربة المتحرّرة من شبحها يا شعبان ! هالوا عليك الأتربة وأنت غير مكترث بعطر الثرى يا شعبان، وتكالبت الأيادي تسُحُّ الماء على ثراك طلبــاً في الثواب! وعاد الموكب بعيون ضحلة جُفّت دموعهــا المالحة وتلك الشيطانة لم تزل رابضة لا أدري ما تريد يا شعبان .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى