محمد عطية محمود - صدأ المشاعر.. قصة قصيرة

(1)

أقعدوها ، منفطرة القلب .. ينتفخ جفناها .. تتورم ، وتتدلى شفتاها القانيتان .. يصطبغ الوجه الأبيض الحليبي بسياط من لهيب أحمر ، وأشباح تعدو بباطن جفنيها المثقلين بجبال من رمال تتحرك.

بين الوعي واللاوعي ، تواجهها صورة أبيها ـ الذي رحل توا ـ بكل ملامحها .. تسرع ؛ لتلحق بسيل أشباحها.

يهيج الكيان المتمزق . يشتعل العويل . يتمرغ الجسد المكدود على الأرض .

تعيي مرافقاتها محاولات انتشالها حتى تقوم . تعود ؛ لتقفز .. تلطم .. تصرخ . تتكرر محاولاتهن لاحتوائها . تتملكها أعاصير داخلها المريرة . يلتوي مفصل إحدى قدميها ؛ فتهوى عليها بكل ثقلها فاقدة الوعي.

(2)

حملوها ، بلا حراك منها ، ولا هوادة لتراتيل النواح والبكاء المعتصر ، وهنيهات غيبوبية ، يفصل بينها نشيج عنيف.

في صالة الانتظار بالمستشفى .. انبثقت من الأعين نظرات الإشفاق والألم ؛ فالتفتت إحدى مرافقاتها ـ بعد أن مصمصت شفتيها ـ لإحدى المجاورات المنتظرات ، ثم همست:

• عروس هي لم تزل ، لكن الفرح أيامه قليلة .

وراحت في حوار متبادل تسرد جوانب المأساة المزدوجة .

لم يزل سرادق عزاء أبيها منصوبا ، يرج أجوائه صوت المقرئ المجلجل .. ينبعث صداه ؛ يصل إلى آذان مرتادي المستشفى.

(3)

على كرسي متحرك ، وفى ظل مرافقاتها المتشحات بالسواد .. خرجت من حجرة الطبيب مدلاة الرأس على الصدر في وله ، ممددة القدم الملفوفة في جبيرة من الجبس للانتظار حتى يسمح الطبيب بالمغادرة.

أمام الحجرة واجهها .. حليق الذقن ، وشعر الرأس .. لا آثار لغبار على ملابسه المهندمة ، ولا إرهاق على ملامح وجهه المتكلسة.

همست المرافقة في أذن مجاورتها ، ناظرة إليه :

•هو زوجها …

ولوّت شفتيها قاطعةً سيل كلماتها .

سحب كرسيا ، وجاور زوجته .. يحقن آثار غضب مقيت .

لم يبادر بسؤالها عمّا آلت إليه حالتها . اكتفي بنظراته الخاطفة نحو قدمها (المجبّرة).

حاولت فك أقفال فمها ؛ فخرجت حروف كلماتها مخنوقة ، مجروحة ، محشورة في أحبال صوتها الممزقة.

سبقت دموعها أي كلام ؛ فراحت تترع كخيوط منسابة على وجهها المتلطخ بدماء بشرتها الحليبية.

بادرته إحدى المرافقات متسائلة :

•ما بك ؟

اعرض بوجهه ذي العينين الغائرتين مغمغما :

•لا شئ .

بادرته أخرى :

• زوجتك في حاجة إليك .

أشاح بيده .. موجها نظره إليها .. منفثاً لكلماته المحتقنة :

• خطيبك السابق ( … ) …

صمت .. ثم تابع :

• ما الذي أتي به إلى العزاء ؟ ! ما أن رايته مقبلا نحوي .. حتى انفلتت من صف آخذي العزاء آتيا إليك.

تولته أعين النسوة المتحوطات بها بنظرات اختلط فيها الاستهجان ، مع السخط ، والتعجب في صمت.

رغم ما ألمّ بها .. تناهي إلي مسامعها المشوشة صوت المقرئ بسرادق العزاء واهنا .. ومن خلال عبراتها المترقرقة بعينيها المغبشتين ، طالعته نظراتها العيية من أعلاه إلى أسفله ، ودارت بها الدنيا .. ثمّ راحت ـ مرة أخرى ـ فاقدة الوعي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى