ليلى أبو العلا - حرمـــان.. ترجمة: عادل بابكر

خلال الفصل الأول من دراسته بالكلّيّة في لندن، كتب (مجدي) إلى أهله يعلمهم بعجزه عن المواصلة، وينذرهم بأنه سيقطع دراسته ويعود. كان على أمِّه، لكي تفلح في الاتصال به هاتفياً، أن تقوم بعدة مشاوير إلى البريد العمومي في الخرطوم، حيث تجلس لساعات على المقعد الخشبي الطويل، ممسكة بطرف ثوبها تحرُّكه يمنة ويسرة لعله يدفع عن وجهها شيئاً من القيظ الخانق، فيما تهشُّ عنها أطفالاً حفاة يتزاحمون حولها في محاولات لا تعرف اليأس لإقناعها بشراء ما يحملونه من علكة ودبابيس شعر وعلب كبريت عبأوا بها الصواني التي تدلّت من أعناقهم.

«ابعدي من قدامي». انتهرتْ فتاةً ظلت تزحف نحوها حتى كادت تقع على حجرها. «هسه أنا ما قلت ليك ما عاوزة أشتري؟». في اليوم الثالث فُتِح الخط، فحشرت نفسها في إحدى الكبائن، ناسية إغلاق الباب الزجاجي وراءها. شعر (مجدي) بغصَّة في حلقه حين سمع صوتها. في الممر البارد في النزل الطلابي كان ممسكاً بسماعة الهاتف، مسنداً رأسه إلى الحائط، مخفياً وجهه في ثنية ذراعه. زملاؤه الطلاب الذين مرُّوا به حثُّوا الخطى قليلاً تحت وطأة شعور بالحرج حين جاءهم صوته مثقلاً بالدموع، أعلى نبرة من المعتاد، وسمعوا كلمات أجنبية لم يدركوا معناها تتقاذف صداها الجدران.

هناك في الخرطوم، لم تستطع هي الأخرى استيعاب كلامه. كل هذا الحديث عن صعوبة الدراسة كلام فارغ بلا شك. فابنها متفوق في دراسته. كان دائماً الأول على دفعته. لديها صورة له نشرت في الجريدة يظهر فيها وهو يصافح رئيس الجمهورية الذي تمَّت الإطاحة به فيما بعد. كان حينها في السادسة عشرة من العمر، وكانت المناسبة حصوله على واحدة من أعلى الدرجات في الشهادة الثانوية السودانية. نحر والده كبشاً بهذه المناسبة، وزَّع لحمه على الشحاذين الذين ينامون بجانب سور المسجد القريب. شقيقاته أقمن على شرفه حفلاً رقص فيه الجميع وغنُّوا. أما هي فقد أدارت فوق رأسه مبخراً ثم وضعته على الأرض، وطلبت من ابنها أن يقفز فوقه جيئة وذهاباً لكي يطرد عنه الحسد والشرور التي لا بدّ أنها تحيط به. «99 في المية في ورقة الرياضيات». ظلت تردِّد في نشوة على مسامع الأصدقاء والأقارب. «99 في المية. وعلى فكرة، الواحد في المائة الباقية دي شالوها منه بس عشان ما ياخد العلامة الكاملة».

«شيل فكرة الانسحاب دي من راسك»، قالت له خلال المكالمة الدولية.

«أنتِ ما قادرة تستوعبي إنو أنا سقطت في امتحان التأهيل؟» ردّ عليها، مشدِّداً على كلمة «سقطت» . «دا الامتحان الكان لازم أنجح فيه عشان أسجّل للدكتوراه.».

«حاول مرة تانية» قالت بإصرار. «حتنجح إنشاء الله. وبعدين تعال السودان في الصيف. حأدفع لك قيمة التذكرة. ما يهمَّك». لديها وسائلها الخاصة تلك المرأة. حين ردَّت سماعة الهاتف إلى موضعها بدأ مشروع يختمر في ذهنها. تعمَّدت أن تتسكَّع في طريق عودتها إلى المنزل لكي تعطي نفسها مُتَّسعاً من الوقت للتخطيط والتمنّي. بعد بضع ساعات، وبعد أن أنعشت روحها بضجعة قيلولة وكوب من الشاي بالحليب الذي اعتادت أن تتناوله بعد المغيب، جمعت أفراد أسرتها لتدشين حملتها الجديدة: «ولدي المسكين وحيد في لندن محتاج زوجة». هكذا تزوج (مجدي) من (سمرة). بعد ساعات مضنية من السهر والتنقيب في بطون الكتب والمراجع، ومعالجة الكثير من المسائل الرياضية مراراً وتكراراً، بات مستعداً للجلوس للامتحان التأهيلي. في يونيو سافر إلى الخرطوم، وفي يوليو تلقّى خبر نجاحه، وفي نهاية الصيف كان عائداً إلى لندن متأبِّطاً عروسه.

عرف مجدي سمرة منذ وقت طويل، فهي ابنة عم إحدى صديقات أخته المقرَّبات، وابنة أحد المعارف. لم يكن لقاؤهما مفاجئاً، كما لم تربط بينهما علاقة عاطفية في فترة المراهقة. ذاكرته عنها لا تختزن سوى لقطات متناثرة: صورة (أبيض واسود) لطفلة تُضيِّق حدقتي عينيها اتقاء أشعة الشمس وهي تقف مع شقيقتها وآخرين أمام قفص الزرافة في حديقة الحيوان. مراهقة ترتدي فستاناً أزرق، شعرها مجدول في ضفيرة واحدة، وهي تحمل صينية عليها زجاجات البيبسي خلال حفل خطوبة إحدى الصديقات. وهناك القصة المرعبة التي كانت مصدر فزع له في طفولته، حين تعرَّضت سمرة لعضّة من كلب ضالّ، وكان عليها أن تتلقى ثلاثين إبرة من مصل السَّعَر تغرز في بطنها.

في عام 1985، رآها عبر كرمة، خلف سقيفة ظليلة تسلَّقت فوقها أغصان الكرمة، وغزلت حولها شبكة محكمة النسج بدت كمتاهة. كان يضغط على جرس باب منزلٍ قريبٍ من حرم الجامعة، في أحد الشوارع الجانبية الضيقة التي اصطفَّت على جانبيها منازل أساتذة الجامعة. في الشارع الرئيسي كان الطلاب يتظاهرون احتجاجاً على حكم صدر بإعدام زعيم حزبي معارض. فيما كانوا ماضين في مسيرتهم المطالبة بالعدالة، كان (مجدي) يقصد بروفيسور سنج، المحاضر في علم الطوبولوجيا، لكي يحصل منه على خطاب تزكية في محاولة للظفر بواحدة من تلك المنح البحثية الكثيرة التي طالما لهث وراءها. من موقعه ذاك كان يسمع الهتافات، تأتي إليه كموجات تعلو تارة، وتنخفض تارة أخرى، متوازنة الإيقاع شجيّة، غير أنه لم يستطع تبيُّنَ الكلمات التي كان يرددها المتظاهرون.

إنهم لا يسمحون أبداً للطلاب بالمضيّ بعيداً. لا يسمحون لهم البتة بالوصول إلى منطقة السوق حيث يمكن أن تتضاعف أعدادهم، ويتسببوا في إحداث حالة من الشغب، حيث يمكن أن تنضم ظلامات أخرى وضغائن قديمة إلى الصيحة ضد الظلم المتمثِّل في هذا الإعدام الجديد. وقد يصحو الحرمان من سباته الطويل، ويتفجَّر في قيظ ذلك اليوم. مضوا على طريق الجامعة حتى أول تقاطع، وعندئذ انهمر عليهم الغاز المسيل للدموع ليعمي أبصارهم، ويردَّهم على أعقابهم تتعثر خطاهم فوق التراب واللافتات التي سقطت على الأرض.

كانت تصرخ حين أتت مهرولة مع صديقة لها. وقفتا تحت سقيفة المنزل الملاصق لمنزل البروفيسور، تتصارخان من الغاز المسيل للدموع، وتتضاحكان. سمعها تقول لصاحبتها «شبطي انقطع. خلاص تاني ما حينفع.». أمسكت بالصندل المقطوع في يدها، فيما جرت الدموع كحاصرتين على خدين كساهما الغبار. ثوبها انحسر عن كتفها متكسِّراً عند خصرها وركبتيها، فيما تحرَّرَ شعرها شيئاً فشيئاً من إسار الضفيرة الواحدة فبرزت منه عناقيد مثلَّثة الشكل. حُلَيْقات الشعر في مؤخِّرة عنقها تلألأت بحبات العرق فبدت داكنة صقيلة، مترعة بالنداوة ترقد في وداعة، غير معنيّة بما يدور حولها: الغاز المسيل للدموع والغبار، الصندل الممزَّق، الثوب المنحسر. كان هناك (زير) أمام المنزل. راقبها وهي ترفع الغطاء الخشبي وتملأ كوز الصفيح بالماء، ثم تشرع في غسل وجهها. رطَّبت شعرها بالماء ثم غرزت فيه أصابعها بحثاً عن دبابيس شعر استعانت على فتحها بأسنانها لتكبح جماح الخصل المتمرِّدة.

خلال كل ذلك الوقت كانت تضحك، وتصرخ، وتستنشق الهواء عبر أنفها بصوت مسموع. كانت تتبادل الحديث مع صديقتها بينما عمدت كل منهما إلى شدّ ثوبها حول جسمها. قالت صاحبتها W:«الشبط دا انتهى .. تاني ما حينفع أي حاجة.. ولو شبشب!».

أحسَّ بسخافة موقفه وهو يراقبهما، خاصة بعد أن أخذ طلاب آخرون يتقاطرون على الطريق، يسبُّون، ويبصقون عقب فض المظاهرة، وقد تمزقت قمصانهم وما تبقى من لافتاتهم. لم يجد في نفسه يوماً سورة غضب تدفعه للتظاهر، ولا ميلاً للتمرّد والعصيان. وفي اليوم التالي، كما توقَّع، ظهر الدليل على عدم جدوى ما قاموا به: فقد تمّ شنق محمود محمد طه صبيحة يوم جمعة.

حينما كان يرمقها عبر ثنايا الكرمة، خطر له أن يتحدَّث إليها. فهي الآن قريبة منه، متحرّرة من القيود والخجل. سوف تستجيب لي الآن. هكذا حدَّث نفسه. وسوف نستعيد ذكرى هذا اليوم على مرِّ السنوات باعتباره البداية. لكنه تركها تذهب، وضغط على جرس باب البروفيسور وسرعان ما سمع وقع أقدام تخطو نحوه من داخل البيت.

لا جدوى من مقاومة القدر، ولا سبيل إلى تفادي حكمه. بعد سنوات، حين قادت أمه حملتها تلك، برز اسم (سمرة). أُرسلت شقيقته الكبرى لجسّ النبض. كان الاستقبال جيداً. فالعرسان الذين يقيمون بالخارج (لا يهمّ أين) كانوا محطّ الأنظار.

حين دخلا غرفته في لندن، تشاجرا. لم يكن السبب أن الغرفة ضيقة ومصمَّمة لاستيعاب طالب واحد. كان قد تقدَّم بطلب للحصول على سكن مناسب لطالب متزوِّج لكن إدارة الجامعة لم تخصِّص له شقّة بعد. بدأ التوتر منذ أن خرجت من الحمّام، قطرات الماء على شعرها وذراعيها، وأكمام بلوزتها مشمّرة إلى أعلى.

«وين سجادتك؟»

«ما عندي سجادة»، أجابها وهو مستلقٍ على السرير، يستمتع بعودته إلى لندن وهدوئها المميز، ومراقبة السماء الرمادية المتحركة عبر النافذة، والهسيس المنبعث من احتكاك السيارات بالطرق المبتلّة. بدا كما لو أن الخرطوم كانت تنَفِّذ مِن حوله عملية طحن مزعجة، وأن الصرير المستمر الناتج عن تلك العملية قد توقَّف لتوِّه أخيراً.

سألَتْه: «طيب بتستعمل بدلها شنو؟» كانت تحمل منشفة.

«وين القبلة؟»

كان عليه أن يجتهد للتعرُّف إلى اتجاه الكعبة. مكَّة تقع إلى الجنوب الشرقي من بريطانيا بالطبع. إذن، من هذه الغرفة بالذات إلى أي جهة ينبغي أن تولي وجهها؟ أين، بالضبط، يقع الجنوب الشرقي؟

«ما بصدق. أنت هنا سنة كاملة وما بتصلّي؟

نعم، هو ذاك.

«ويوم الجمعة؟»

«حتى يوم الجمعة عندي محاضرات.».

«غِيْب.».

استوى جالساً. «ما تكوني غبية. وين فاكرة نفسك؟» النظرة المجروحة التي كست وجهها جعلته يندم على نعتها بالغباء. أخذها بين ذراعيه قائلاً: يعني خلاص الكورس ساهل لدرجة أنو ممكن أغيب من المحاضرات».

ابتسمت واجتهدت للتخلص من آثار شعورها بخيبة الأمل. اقترح عليها الخروج للنزهة. استقلّا الباص إلى المسجد الكبير حيث اشترى لها سجادة حمراء وبوصلة تشير إلى اتجاه مكة. كذلك اقتنت كتيِّباً يبيِّن مواقيت الصلاة. كل شهر في صفحة واحدة، الأيام مدرجة في صفوف أفقية، والصلوات في أعمدة رأسية.

جلست بجانبه في الباص، وراحت تتصفَّح الكتيِّب. قالت: «المواقيت تتغير كثيراً خلال العام.».

«بسبب المواسم» – رد عليها شارحاً. «النهار قصير جداً في الشتاء وطويل جداً في الصيف.».

«إذن في الشتاء لازم ألهث لأداء الصلاة وراء الصلاة في أوقات متقاربة، وفي الصيف سيكون الفاصل بين العصر والمغرب ساعات وساعات.». جاء تعليقها بصيغة المتكلم المفرد لا بصيغة الجمع، وقد بدا له ذلك مقبولاً وليس فيه ما يسيء؛ فهي ستواصل عبادتها وحدها سواء انضمّ إليها أم لا. سَرَّه أن الذهاب إلى المسجد قد أرضاها. كانت نزهة قليلة التكاليف، خالية من المتاعب. لم تكن ميزانيته لتسمح بالذهاب إلى مطاعم غالية أو جولات للتبضُّع في المحال التجارية الراقية. من حسن الحظ أنها فتاة بسيطة، ليست مادية ولا تشتطّ في الطلبات .

مع ذلك قالت إنها تريد منه أن يعِدها بأن يغَيِّر ما بنفسه، أن يبذل جهداً أكبر للقيام بالصلوات المفروضة. كانت عازمة على التأثير عليه، لكنه لم يكن يريد الخوض في نقاشات محمومة بشأن العقيدة والممارسة الدينية. فهما في نهاية الأمر لم يتعرّف أحدهما إلى الآخر بصورة وثيقة، بل ما يزالان في مرحلة التكيُّف، وكثيراً ما يرتطم أحدهما بالآخر بسبب صغر حجم الغرفة. كان هو، بطبيعة الحال، أول رجل في حياتها، وكانت مشاعرها متأرجحة ما بين الشعور بعدم الراحة والمتعة، بين قلّة النوم والشعور بأن الوضع الذي تجد فيه نفسها الآن ما هو إلا تطوُّر طبيعي لمرحلة سابقة كانت فيها فتاة غريرة جميلة. ها هي الآن في لندن تنعم بشهر عسل ولمَّا يزل وشم الحنّاء الذي تزيَّنت به لحفل الزفاف يلتمع في راحتيها وقدميها. كان (مجدي) في قرارة نفسه ممتنّاً لها على ما أضفته على حياته من راحة وبهجة، مفتوناً بنظراتها وضحكاتها. والآن تريد أن تفسد كل ذلك بالحديث عن الدين، وتذكيره بأن من لا يلتزم بهذه الصلوات الخمس يحرم نفسه من الهداية والحماية الربانية. أولم يكن مؤمناً؟ بلى كان مؤمناً إلى حدّ ما، لكنه كسول وتعوزه الحماسة. الصلاة هنا في لندن- في رأي (مجدي)- تصبح عائقاً، والالتزام بأدائها تكتنفه صعوبات جمَّة أهمّها تغيُّر المواقيت. «ما تناقشيني في الموضوع دا تاني.». قال أخيراً وهو يجذبها نحوه. «بطِّلي النقَّة.».

في الأيام التالية استغرقه العمل مرة أخرى، فكان يحسُّ بوجودها بقربه، ودودة، واعية بتقلُّبات مزاجه، قائمة على توفير احتياجاته، رقيقة ، معطاءة. تتوجَّه بين الفينة والأخرى إلى الحمام لتتوضّأ، ثم تخرج منه لأداء الصلاة. كان يومها مثبتاً بأوتاد. خمس صلوات، خمسة أوتاد. كانت حركة الشمس موسومة بعلامات، وخريطة اليوم واضحة المعالم، وأحسَّ (مجدي) بأن حياته أضحت أكثر تنظيماً، وأيامه غدت محفوفة بالبركة. في غرفتهما الضيقة احتلَّت سجادة (سمرة) رقعة كبيرة من الأرضية، وقد تكوَّم عليها الثوب القديم الذي تتلفع به عند أداء الصلاة. في بعض الأحيان كانت تؤنِّبه بنظرة أو كلمة، وفي أحيان أخرى كانت تبدو حزينة قلقة عليه، بيد أنها واصلت في مسارها حريصة على أداء التزاماتها على الرغم من أنها بعيدة عن وطنها.

كان يريد لها أن تتمتَّع بحيوية لندن ومدنيِّتها، وأن تدين له بالامتنان على إنقاذها من الخرطوم وتخلُّفها. قدَّر أنها، مثله تماماً، ستجد الأمر صعباً في البداية لكنها ستتكيّف معه مع مرور الوقت. لكن ما حدث هو العكس تماماً. فخلال الأشهر الأولى انطلقت في شغف السائحين تتعرَّف إلى لندن، فراحت تمتِّع عينيها بمتاجرها. كم أعجبتها السهولة الفائقة التي تنجز بها الأعمال المنزلية. فهي تستطيع أن تشتري لحماً تمَّ تقطيعه مسبقاً وتجهيزه على الكيفية التي تريد. والبقالات تحتشد بكل أنواع البسكويت والحلويات لكي تختار منها ما تشاء، وهي ليست باهظة الثمن على الإطلاق. حتى الصيدليات تزخر بأدوية بشتى الألوان والنكهات حتى كادت تتمنّى لو أنها مرضت لكي تنال حظّها منها. كل شيء تلمسه متقن الصنع، الجودة والإتقان يشعّان من كل شيء. «بنسات» الشعر لا تتقصف عند ملامسة أظافرها كما كان يحدث دائماً. و(اللبان) لا يمِتُّ بصلة إلى ذلك القضيب المتقصف الذي يذوب في فمها عند أول عضة. جرار المربى جميلة التصميم. بعد نفاد محتوياتها، كانت تغسلها، وتجففها، ولا تطاوعها نفسها على التخلُّص منها. علب البسكويت المعدنية قررت أن تجمعها لتأخذها معها إلى أهلها. ستستخدمها أمّها كأوعية لتخزين الدقيق أو السكر، وربما اختارت أن تضع فيها شيئاً من الخبيز الذي تصنعه بيديها، ثم تبعث بها إلى جارتها التي تعيدها إليها بعد أيام وبداخلها هدية من نوع آخر.

ازداد وزنها، هكذا كتبت، في سعادة، إلى أهلها تخبرهم. أخذها (مجدي) لزيارة مكتبة الجامعة: طوابق عديدة حتى احتاجت إلى مصعد داخلي بل وحمامات!. أعجبتها غرف الكمبيوتر المتألقة. أعطته الشعور بأنه متَّقد الذكاء، والحقيقة أنه في قرارة نفسه كان دائماً موقناً من أنه كذلك. ثم تقاصرت الأيام وأضحت رتيبة. أصبحت أشبه ما تكون بسائحة بدأ يدبُّ إلى نفسها الشعور بالوحشة إزاء وسط غريب عنها. كل ما حولها أخذ يبدو مؤقَّتاً، معزولاً عن الحياة العادية. حدث ذلك حينما بدأ (مجدي) يتحدث عن نيَّته الحصول على رخصة عمل بمجرَّد انتهاء صلاحية تأشيرة الدراسة، وعن اعتزامه البقاء وعدم العودة إلى بلاده بعد حصوله على الدكتوراه.

استمرارية الأشياء هي أكثر ما كانت تجده غريباً موحشاً. يهطل المطر فيرفع الناس مظلاتهم وينطلقون لا يلوون على شيء. أرفف البقالات ما تكاد تصبح خاوية من البضاعة حتى تمتلئ من جديد. ساعي البريد لا يني يأتي بالبريد كل يوم.

«ألا تُلغى محاضراتكم أبداً؟ ألا يمرض محاضروكم، ألا تلد نساؤهم؟ هل تُعلَن عطلة عامة حين تموت الملكة؟»

«ستموت يوم أحد» يقول لها ضاحكاً من أسئلتها. ثم يضيف: «هذا هو معنى الحضارة. الأمان اللازم لكي يبني الناس حيواتهم، ويحقِّقوا طموحاتهم. أن لا يظلوا دائماً تحت رحمة الانقلابات العسكرية والقوانين الجديدة. أن لا يقضوا سحابة يومهم في صفوف البنزين. أن لا يعجزوا عن أخذ أطفالهم المرضى إلى الطبيب لأن الأطباء قد دخلوا في إضراب عن العمل.».

كانت تصغي باهتمام لكل ما يقوله، تهزّ رأسها موافقة وإن كانت عيناها ما تزالان تشعّان بالحذر. لكنها حين تتحدَّث عن المستقبل تتخيَّل أنهما عائدان إلى الوطن، كما لو أن آماله في البقاء محض أحلام، أو كما لو أن آماله قدرٌ محتومٌ تود لو تستطيع التنصُّل منه. تقول له: «أتخيَّل أنك تعود إلى المنزل مبكراً.. لا حاجة للعمل ساعات طويلة كما هو الحال هنا.».

«نأخذ نومة القيلولة تحت المروحة التي تدور بسرعة لا نكاد معها نميز من ريشاتها سوى لونها الرمادي. الشمس الساطعة تبسط سطوتها علينا حتى في داخل الغرفة عبر ثنايا «الشيش» المغلق. أشرع في محاولة إغاظتك – هل طالباتك جميلات؟ هل يأتين إلى مكتبك بعد المحاضرات يردِّدن في غنج ودلال: يا أستاذ أنا ما فاهمة الموضوع الفلاني.. أستاذ أنا ما فاهمة الموضوع الفرتكاني. يا أستاذ: أرجوك لا تقسُ علينا عند تصحيح أوراق الامتحان؟ تضحك أنت من حديثي وتهزّ رأسك مردداً أن هذا كلام فارغ، لكنني أقرأ في عينيك أن غيرتي عليك تقع من نفسك موقعاً حسناً. نصحو على جلبة الأطفال وهم يلعبون على السطح، يطغى وقع أقدامهم على طنين المروحة. ألم نمنعهم من الطلوع إلى السقف مخافة أن تصيبهم جروح بسبب شظايا الزجاج المغروسة على جوانبه لصدّ غائلة لصوص المنازل؟ تستشيط غضباً. تخرج إليهم. تقذف (شبشبك) صوب ابنك الذي كان في تلك اللحظة ينزل من الشجرة وقد ثبَّت إحدى قدميه على عتبة النافذة. هو أكبر أولادنا، الرأس المدبِّرة، كثير المشاغبة. يفلح في تفادي الشبشب الطائر صوبه فتصيح فيه: جيب الشبشب دا. من مكاني داخل الغرفة أستطيع سماع ضحكاته كتدفُّق الماء مندفعاً من برميل سقط على وجهه. تقرر يوماً أن تقتني سوطاً لعقاب هذا الولد. تشتريه من سوق أمدرمان حيث تباع أنواع جيدة من السياط. تبدو مزهوّاً ذلك اليوم. تجلد به الهواء لإخافة الأولاد فيتلوّى في الفراغ كالثعبان. لكن لا تسنح لك فرصة لاستخدامه، لأن ابنك يأخذه ويرمي به فوق سطح الجيران حيث يبقى هناك وسط ركام الغبار وشفرات الحلاقة وغير ذلك مما حملته الرياح إلى ذلك السقف. أعدُّ أنا الشاي بالنعناع. الشمس تأوي إلى مخدعها، هذه أسخن فترة في اليوم.. لا نسيم.. لا حركة.. كأن العالم كله قد حبس أنفاسه انتظاراً لمغادرة الشمس. يأتي جارنا يتناول معك كوباً من الشاي. يجلب معه آخر الشائعات.. هناك فضيحة سياسية جديدة. تطرب أنت، ويعتدل مزاجك. ابنك يتصرَّف بطريقة لائقة أمام الضيوف. يترك اللعب ويأتي ويصافح الضيف. ينطلق نحيب يشقّ سكون المساء، كسرب من الغربان يحلِّق فوق رؤوسنا مصدراً زعيقاً متواصلاً. لا بد أنه جارنا العجوز الذي يقطن المنزل في الجانب الآخر من الميدان. منذ فترة لا يخرج من المستشفى حتى يعود إليها. أخطف ثوبي، وأنتعل شبشبي، وأهرع لتقديم واجب العزاء.».

«أنت تهذين يا امرأة.». تلك كانت إجابة (مجدي). كان عنده دليل يعضد قولته تلك. «أولاً لن يكون في مقدوري، بالراتب الذي تدفعه الجامعة للمحاضرين، أن أحصل لنا على منزل أو شقة خاصة بنا، إلا إذا سرقت أو قبلت رشوة.. وهما احتمالان كلاهما أبعد من الآخر ما دمت في هذا المجال الذي أعمل فيه. الاحتمال الأرجح أن نقيم مع أهلي، وستضيقين ذرعاً بأمي عاجلاً أم آجلاً. ستشكين لي منها آناء الليل وأطراف النهار، وستغضبين مني لأنك تتوقَّعين مني الوقوف في صفك لكنني لا أفعل. ثانياً: كيف أصل إلى سوق أمدرمان بدون بنزين. وفي الغالب لن تكون هناك كهرباء لتشغيل مروحتك. أخيراً: لماذا تفترضين أنه ما من شيء يدخل البهجة في نفسي كاحتساء الشاي والثرثرة مع الجيران؟ هذا إهدار للوقت وهو بالضبط ما أريد تجنُّبه. كل هذه الأجواء التي يبدِّد فيها المثقفون المزعومون وقتهم في الجدل في شؤون السياسة. كل محاضر يُعرف بمعتقداته السياسية، كل ترقية تعتمد على الميول السياسية لا على البحوث التي أجراها أو الأوراق التي نشرها. زملائي يتصوَّرون أن مسؤوليتهم هي إدارة البلاد. يكثرون من الجدل في كل صغيرة وكبيرة. الإنجليز تركوها لهم ورحلوا دون جلبة أو قتال. والسودانيون يساورهم اعتقاد بأن هذا البلد المجنون المترامي الأطراف سينهض يوماً من هوّة التخلف ليصبح شيئاً يشار إليه بالبنان.».

أحياناً كانت تجادله حين يردِّد مثل هذا الكلام، فتتَّهمه بعدم الولاء وانعدام الشعور الوطني. وأحياناً أخرى كانت تلوذ بالصمت، وتكبت مشاعرها، ولا تتحدث عن المستقبل ولا عن الماضي. ثم لا تلبث أن تُقبل على الكلام، كإقبال صائمٍ عن الطعام حان موعد إفطاره، فتمطره بسيل من الذكريات والحكايات، ثم تنتظر منه أن يتقبَّلها. تنتظر بنفس صبر ومثابرة الفتيات الصغيرات في مكتب البريد العمومي إذ يحاولن أن يبعن والدته اللبان ودبابيس الشعر.

قالت له ذات مساء إذ يتمشَّيان على جانب شارع تلتمع أرضيته بالمطر وأضواء المصابيح الصفراء: «سأحكي لك حكاية وقعت بالفعل وليست من نسج خيالي. بعد اتصالها بك هاتفياً من مكتب البريد العمومي، ظلت أمُّك واقفة ساعة كاملة بانتظار حافلة أو عربة أجرة دون جدوى. كانت هناك أزمة مواصلات بسبب انعدام الوقود. هوت الشمس على رأسها بسياط من لهب وبلغ بها الإعياء مبلغه فما كان منها إلا أن خطت إلى منتصف الشارع، ووقفت في الوسط تماماُ رافعة يدها. أوقفت أول سيارة. فتحت الباب الأمامي وانحشرت فيها قائلة للسائق: يا ولدي.. أنا تعبت من انتظار المواصلات وما قادرة أمشي خطوة تاني. عليك الله توصلني بيتنا. حأورّيك الطريق. وقد أوصلها إلى البيت، مع أن مساره كان مختلفاً. في الطريق تبادلا أطراف الحديث وكان يخاطبها ب (يا خالة).».

«وفي شهر يوليو.. المطر والبرك الفضية في كل مكان. الشمس تتوارى طوال اليوم، والأرض تفوح منها رائحة الدعاش. لا عمل ولا مدارس في ذلك اليوم. والسيارات جزر متناثرة على الشوارع المترعة بالمياه.».

يجيبها: «لأنه لا توجد قنوات تصريف ولا شبكة مجاري. تذكَّري رائحة المياه الراكدة بعد أيام من هطول المطر. تذكَّري البعوض الذي يهبط بجيوشه ينشر المرض.».

ترد: «البرك الفضية تحت سماء غريبة ملبَّدة بغيوم داكنة.».

ذكرى أخرى. قدّمتها له كأنها تدسّ في يده وردة. في الأسبوع الذي سبق الزفاف، ذهبا لزيارة عمه. انقطع التيار الكهربائي فتحوَّل هدير مكيِّف الهواء إلى خرير خفيض، اصطفقت ريشات مروحته، ثم سكن الصوت تماماً. هكذا استحال المكان فجأة إلى ظلام وسكون. جلسوا يستمعون لصوت قطرات الماء المتساقطة من القش الجديد الذي لُقِّم به المكيف قبل أيام قلائل. فتحوا النوافذ لاستقبال شيء من النسمات المسائية الخفيفة والشذا الذي يضوع من شجيرات الياسمين. ضوء القمر ملأ الغرفة بظلال رمادية ضاربة إلى الزرقة.

الحلويات الملوَّنة الموضوعة على الطاولة برزت كخطوط كفافية سوداء. الثلج بدأ في الذوبان في أقداح عصير الليمون.في أثناء انشغال أصحاب الدار بالبحث عن شموع وبطاريات، مالَ (مجدي) على (سمرة) وقبَّلها لأول مرة.

«لكن يا سمرة، هل تريدين أن ينقطع التيار الكهربائي في لندن؟ تخيلي: المصاعد، إشارات المرور، القطارات. الفوضى والخوف. سيكتبون عن ذلك في الصحف، ويتحدثون في التلفزيون. أما في الخرطوم فهذا حدث عادي، واحد من المنغصات، جزء من بؤس الحياة. الثلّاجات تتحوّل إلى خزانات، ويتعفَّن الطعام في داخلها.».

أحياناً كان ينظر إليها في شفقة. يشعر بأنها فعلاً لا تنتمي إلى هذا المكان. ينظر إلى حليقات الشعر في مؤخرة عنقها، أصبحت الآن جافة وخفيفة، لم تعد مبلَّلة بالعرق.. قدَّر أنها ربما خُلقت للشمس الساطعة والملابس القطنية الخفيفة. أسنانها الصغيرة ربما خلُقت لتقشير أعواد قصب السكر. غمازتاها ربما خلقتا للصديقات والجارات. يستطيع تخيُّلَها مستغرقة في أحاديث عقيمة مع إحدى صديقاتها، تزجي الوقت تحت ظلال أشجار النخيل والأشجار المتسلّقة، في مكانٍ الساعات فيه طويلة طويلة.

غير أنه في معظم الأحيان كان عاجزاً عن استيعاب سرّ عدم تحمُّسها للفرص التي تتيحها لها حياتها الجديدة. كيف لا تعجب بالسلوك المتحضِّر للناس هنا:كفاءتهم في العمل وأدبهم الجمّ.. سيارات الإسعاف والإطفاء حاضرة على الدوام لا تخذل أحداً أبداً. انزلاق البطاقة المصرفية عبر شق في جدار لا يلبث أن يتمخَّض عن أوراق مالية صقيلة؟ هذه الأشياء أعجبتها لكن ليس لوقت طويل. تعجَّبتْ كيف يُترك الحمام والبط في الحدائق دون أن يتعرَّض له أحد. لا أحد يحاول القبض عليه لكي يصنع منه وجبة دسمة. دائماً تنصرف عن التمتع بجمال هذه الطيور بالتفكير في أهلها وفقرهم.

بدأ يميل إلى الاعتقاد بأن الحنين إلى الوطن الذي تعاني منه ما هو إلا نوع من المشاكسة، وأن نفورها التام من التكيُّف مع حياتها الجديدة عناد ليس إلا. بدأ يتضجَّر من تعلّقها العاطفي بالوطن وعجزها عن التغيير أو افتراع مسار جديد لحياتها. التعلّق بالوطن أصبح عائقاً دون تقدُّمها، يعميها عن تبيُّن المكاسب التي يمكن أن تجنيها. ثمة فرص كثيرة وأبواب كثيرة لكنها ما تزال مشدودة إلى الماضي، تحنُّ إلى السودان بينما يتسلَّل الحاضر من بين يديها. لقد التقى، إبان إقامته في لندن، بسودانيات كثيرات تألّقن في وسطهن الجديد. شاهدهنّ يرتدين بناطيل ضيقة ما كُنَّ ليجرؤن على ارتدائها في الوطن. في أصابعهن تتراقص لفافات التبغ. لم يكن يتوقَّع منها ولا يريدها أن تقلِّدهنّ في هذه الأشياء، إلا أن ما يحزنه أنها لم تكتسب تلك الروح نفسها، بل غدت أكثر عزلة وتحفُّظاً مما كانت عليه في الخرطوم. كانت تريد أن ترتدي ثوبها السوداني، وأن تغطّي شعرها، لكنه كان يمنعها قائلاً: لا. لا. ليس هنا. لا أريد أن يصنِّفونا ضمن المتشدِّدين والمتخلِّفين.

كم هو مروِّع أن تعود إلى المنزل في نهاية اليوم لتجد زوجتك جالسة وهي ترتدي قميص النوم، شعرها غير مسرَح، في الحالة نفسها التي تركته عليها في الصباح. بعد أن كانت تنتقل من مرآة إلى أخرى لا تكفُّ عن النظر إلى نفسها من زوايا مختلفة، ولأجلك ترشّ شعرها بعطر الصندل، وتكحِّل عينيها. ها هي الآن قابعة في مكانها والمكان كله قابع في موضعه لم يحرِّكه أحد. لا رائحة طعام تفوح، والسرير غير مرتَّب، أكواب عليها بقع الشاي، بقايا من رقائق الذرة منتفخة في الإناء. صامتة هي، تنظر إليك كأنك غير موجود، لا تستسلم، ولا يلين جلدها للمساتك. مرِّرْ يدك على شعرها، وافرك يديها، وفتِّش عن الكلمات المناسبة، الكلمات التي تحبّ أن تسمعها. تحدَّثْ عن حدائق الياسمين، عن رقصة الزفاف، وعن فيضان النيل إلى أن تجهش بالبكاء.

في الأيام التي تلت ذلك، كان (مجدي) ، قبل أن يدخل المفتاح في القفل ويديره، يستجمع قواه، ويستعد لمشاهدة المنظر نفسه، كان يخاف من تكرار السيناريو ذاته. في ذلك اليوم كان سعيداً. فبينما هي جالسة في بيتها كسيرة الخاطر، أبصر هو قبساً من نجاح متواضع: تقدُّم طفيف في عمله. ورقة علمية كان يبحث عنها، كتبت منذ خمس سنوات في مجال عمله نفسه، تمَّ العثور عليها في مكتبة أخرى. هرع إلى هناك، إلى تلك الكلّيّة في الجانب الآخر من لندن، وكان ذاك حدثاً في حدّ ذاته؛ لأنه كان دائماً إما قابعاً في المكتبة أو يستخدم الكمبيوتر المركزي. وجدها. نسخها، ثم قفل راجعاً لا تكاد تسعه الفرحة والإعجاب بهذا النظام المعرفي الدقيق، والتقنية التي تتيح للمرء تقصّي مكان وجود المواد المكتوبة. نحن متخلِّفون بعدة قرون، سيقول لها فيما بعد. في أشياء كهذه، الشُقَّة بيننا والآخرين أوسع من أن تُردَم. وبينا هي جالسة في قميص نومها، جامدة، غير عابئة بجوع ولا عطش، كان هو قد نفذ إلى عقل ذلك العالم الرياضي، متتبِّعاً استدلالاته المنطقية، وعندما يعثر على خطأ ما (الرمز الدليلي أسفل الحرف «لامبدا» كان ينبغي أن يكون (T-1 ) وليس (T)، أو خطأ طباعي أو هفوة أكبر من جانب الكاتب، تمتلئ جوانحه طرباً. حتى عندما استلقى بجانبها وسألها عن سبب تعكُّر مزاجها، كانت المعادلات الرياضية تتقافز في ذهنه وخطر له أن اسمها، إن أنت تجاهلت أصل معناه العربي، بدا شبيهاً بهذه الحروف الإغريقية، هذه الرموز الغامضة ذات التشكلات المعتدلة والانحناءات الخفيفة. ألفا، لامبدا، سيغما، بيتا، سمرة..

اقترح حلّاً عمليّاً لمشكلتها. لا بدّ لها من أن تشغل نفسها بشيء. فهي قد ظلت عاطلة منذ مجيئها.. وبما أنه لا يسمح لها بالعمل دون ترخيص فلا أقل من أن تنخرط في دراسة ما. لغتها الإنجليزية جيدة؛ ولذا فمعالجة الكلمات اختيار مثالي. يمكنها أن تنسخ له أطروحته. تحمَّسَ للفكرة: دورة تدريبية في معالجة الكلمات لبضعة أسابيع. سيتاح لها الالتقاء بآخرين من أنحاء العالم وتكوين صداقات وتزجية أوقات فراغها. ها هي (سمرة)، التي احتملت ذات يوم الغاز المسيل للدموع وتغضُّن القدمين بسبب الركض على الإسفلت، تجد نفسها إزاء مدرِّسة في منتصف العمر، امرأة ثرثارة كانت قد سافرت مؤخراً إلى تونس لتعود من هناك متدثِّرة بطبقات من المعاطف والملافع. اندفعتْ تحدِّث (سمرة): «لا بد أنك تشعرين براحة عظيمة لكونك هنا.. بعيداً عن كل تلك الحروب والمجاعات في بلادك. لا بد أنك تشعرين بالراحة لأنك لست هناك الآن.». شعرت (سمرة) بالنفور من تلك المرأة. ومثل طفل مدلّل عنيد، رفضت الاستمرار في الكورس.

في فورة الغضب التي تملكته، اقترح (مجدي) أن تسافر إلى السودان لقضاء بضعة أشهر. جفل حين لاحظ محاولتها إخفاء اللهفة من صوتها وهي تقول: «طيب. كويِّس.». ثم الأسئلة من شاكلة: أليست التذكرة باهظة الثمن؟ وهل يستطيع تدَبُّر أمره وحده؟ ثم غادرت، في سهولة ويسر، كما لو أنها لم تأت أصلاً، ولم تغرس جذوراً تحتاج لاقتلاع.

بدونها بدأت الحياة فجأة تبدو شبيهة بالسنة التي قضاها وحيداً في لندن قبل الزواج. أيام تعدو مسرعة الواحد إثر الآخر. ما من سبب للعودة إلى المنزل في المساء. كل شيء حوله ساكن هامد. بدونها لا يعرف كيف ينظمّ يومه: أيعمل في المنزل أم في المكتب؟ أيعمل إلى وقت متأخر من الليل أم يصحو باكراً في الصباح؟ كان يعرف أنه لا يهمّ بأي الخيارين أخذ، ولكن تأثير تلك الحرية التي صبغت الأيام الأولى التي أعقبت سفرها، ذلك الشعور بالراحة، بالتحلُّل من المسؤولية، سرعان ما خبا وتحوَّلت الحرية إلى عبء ثقيل.

في أثناء غياب (سمرة)، أصبحت لندن مألوفة أكثر بالنسبة له. بات يعتبرها وطنه الجديد، وبدا كما لو أن المدينة قد بادلته الشعور. شعر بأنها خفضت له جناحها، وألانت له جانبها. صيفها يزداد سخونة.. هي سخونة من نوع جديد، مشبعة بالرطوبة، ليست كتلك التي تلسعك بجفافها في صحراء السودان. الناس يملؤون الشوارع والميادين. انفجار سكاني.. كما لو أن موسماً للحبس قد انفضّ لتوِّه فخرجوا ينطلقون في الأرض الواسعة. يرقدون على مفارش بسطوها على العشب، يقودون سيارات بلا سقف، ويتدفَّقون من المقاهي على الأرصفة.

المتسوِّلون يجلسون القرفصاء حول المحطات، على طريقة العالم الثالث. منظر المتسولين يضايقه، لا يستطيع أن ينظر إليهم مباشرة. لا يستطيع أن ينفحهم مالاً. ليس من اللائق البتة أن يكون البيض فقراء. كم هو مخجل أن يكونوا مشرَّدين يتسوَّلون الناس. أمر غير طبيعي أن يكون هو أفضل حالاً منهم. يذكر أنه عرف ذات يوم، لا يذكر متى بالضبط، أن التسوّل مُحَرَّم في أوروبا. كان ذلك اكتشافاً مذهلاً بالنسبة له، واعتبره جزءاً من سحر العالم الغربي.. مكان العيش فيه مكفول للجميع، ولذا يعتبر التسوُّل جريمة.

قال لـ (سمرة) ذات مرة إن هذه البلاد تفترس إيمان المرء افتراساً بطيئاً، لكنه بدأ الآن يميل إلى الاعتقاد بأنها إنما تفترس كافة المعتقدات، بل حتى الإيمان ذاته تفترسه. وبما أن هذه البلاد قد قبِلَتْه الآن، واستوعبته، فإن إعجابه بها قد استقرّ، وإيمانه بها قد اهتزَّ وتذبذب. لم يعد كافياً، كما كان الحال سابقاً، كونه موجوداً هنا، متمتِّعاً بامتياز المشي في طرقات لندن وشمِّ رائحة الكتب في مكتباتها وإمتاع ناظرَيه بمرأى السيارات الجديدة اللامعة. يمشي في شوارع مبتَلّة لم يحدُثْ أن فاضت يوماً، ويدرك أنه لن يتسنّى له أبداً أن يستشعر مغزى القول بأن «أسلافي شادوا هذا.. جدي لأبي استعار كتاباً من هذه المكتبة.». إن لندن تختزن شيئاً لن يكون له أبداً، يستحيل التطلُّع إليه.

هاتفته أمُّه، جاءه صوتها يعلو على ضجيج مكتب البريد العمومي. «ليه رجعت سمرة بسرعة كده؟ حصل شيء بيناتكم؟»

باغته السؤال. «لا. أبداً». زواجه من (سمرة) أشعره بالاستقرار والراحة. وجد مَنْ يطعمه، ويعتني به. أحبَّ العمل إلى وقت متأخِّر من الليل، مستأنساً بقربها بجانبه.. طقطقة الملعقة وهي تذيب السكر في كوب الشاي.. حفيف أسورتها.. حركتها إذ تنهض لأداء الصلاة في دغش الفجر في فصل الصيف. «هل اشتكت من شيء؟».

«لا.». قالت في نبرة لا مبالية. «بس قالت انت ما بتصلِّي.».

غمغم دون أن يهتدي إلى جواب. الممرّ في النزل الطلابي كان خالياً حينئذ. حدَّق في الآلة التي تبيع الطلاب الشوكولاتة والمشروبات بعد أن يدسُّوا في جوفها عملات معدنية. كانت (سمرة) مفتونة بهذه الآلة أيَّما افتتان. حاولت مرة أن تقحم فيها عملة معدنية سودانية. إنه يشتاق إليها.

«صحي انت عاوز تقعد في لندن بعد الدكتوراه؟» – هذا هو سبب اتّصالها. بداية القلق.

«أيوه صحي. أحسن لي». درجة الدكتوراه باتت الآن قريبة المنال.

لقد دُعي مؤخراً للمشاركة في مؤتمر في مدينة «باث». إنه يكاد يصل إلى مبتغاه.. بعد كل هذا الجهد يريد أن يبقى ليحصد ثمار غرسه.

قالت له بصوت متهدِّج: «كيف تتركني وحيدة في هذا العمر؟»

ارتسمت ابتسامة على مُحَيّاه. لديه إخوة وأخوات يعيشون في الخرطوم. لم يكن ثمة حاجة لهذه الميلودراما من جانب والدته. «إنتي مش عاوزة لي الخير؟ انتي كنتي دايما تشتكي إنو السودان ماشي من سيّء إلى أسوأ.».

تنهدت أمُّه. في البدء هدَّد بقطع دراسته والعودة دون الحصول على الدكتوراه، والآن يهدِّد بعكس ذلك! لقد زوَّجَتْه لكيلا يجرفه التيار بعيداً عنها. «لكن يا ولدي أفرض الأمور اتحسَّنت هنا؟ لو اكتشفوا البترول أو حقَّقوا السلام.. مش حتكون خسران؟»

«أنا ما ممكن أبني مستقبلي على تخمينات.». منهجه في العمل مختلف: إنشاء نظام تمثيل رياضي.. بناء أنموذج.. إدخال مجموعة من المتغيرات.. مراقبة ما يحدث عند إحداث صدمة. ذلك هو نهجه في العمل.

عند عودته إلى غرفته انتبه (مجدي) إلى السكون المخيّم على المكان. الأرضية بدت أكبر من المعتاد. فقد طوت (سمرة) السجادة ووضعتها في الجزء الخاص بها من الخزانة. لم تكن ثمة حاجة لأن تأخذها معها. فالسجادات في الخرطوم كثيرة. سجادات اهترأت في مواضع السجود، وحيث يصطفّ المصلّون بأقدامهم المبتلة. فتح (مجدي) الخزانة ولمس السجادة المخملية الناعمة. أثارت فيه تلك اللمسة إحساساً طفولياً بالإقصاء.. بالحرمان.. مثل متعة حرم منها نفسه، ثم نسي الآن الأسباب التي دعته لذلك. كان اليوم معها مشدوداً إلى أوتاد: ليس يومها فحسب بل يومه هو أيضاً. خمسة أوتاد. أما الآن فالوقت ينسرب سريعاً: صبحُ يفضي إلى عصرٍ يفضي إلى مساء.. دورة لا تحسّ بها، ولا تسمع لها ركزاً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى