حسن عبد الرزاق - ترانيم الفواخت.. قصة قصيرة

السماء الصيفية تقترب مني وتدلق على عينيّ طفولتي المخباة في النجوم.
هربا من حر سنواتي الصاعد معي الى سطح الدار ، استقبل الطفولة الهزيلة واهمل تاففات زوجتي التي ستنام مرغمة تحت رطوبة لزجة.
ترنيمة دامعة تتسرب من خلال الرطوبة .. ترنيمة من صوت نسائي ثقبته نصال المرض فسال منه الانين نارا لاسعة وشمت قلب الطفل ذي الثوب الازرق المقلم بالاسود بوشم الحزن الابدي.
يعلن الوشم عن وجوده ويقول لي:
(ليس الحر الذي يجلدك بسوطه الان بل انا)
فتهرع الكف اليه وتتحسسه ، ويبقى النظر ملتصقا بالطفل الهابط من النجوم.

بجسد شيخوخي تنحني ابتسام على طفلها الاول والاخير. نوح الفواخت في البساتين لاترنيمة تلك التي كانت تنوحها.
الجذع الريان الذي نما مع صباي وتزين برسائل مراهقتي ، يهرم في شبابه وينحني تحت ثوب اسود كالليل الذي كانت احلامنا تفرح بغياب قمره عن السطوح.
ابتسام تنوح ورضيعها يغادر بكاءه ويدخل الى النوم بعينين رطبهما الدمع ، وبلعوم محتقن سوف لايتلقى الشتائم في الصباح من ابيه مثلما كان الطفل المقلم بالسواد يتلقاها.
اعبر نحوها على اصابع الحذر .. اعبر بقدمين متقرنتين من فرط البساطيل والاحذية العتيقة المشققة .. يسمح لي بذلك جسر العشق الوردي .. جسر السنوات السابقة لبراري الحروب وسماوات الطائرات وسيلان الحزن من قلبين حجزت الفلوس والتقاليد بينهما .. فصار احدهما ملكا لرجل اخر ، والاخر ملكا لانثى اخرى.
اقف امام انحنائها وامد كفا مهدهدة الى راسها المعصوب بالسواد .. والمس العصابة برفق وارتعاش فترتفع عيناها الدامعتان الى الاعلى وتسالني بخوف :
-من انت ؟
-انا .
يسبقني الطفل المقلم بالسواد ويرد .
صوته المحتقن من النشيج المكتوم تحت اللحاف هو الذي يهمس .. صوته الذي حين سال عن الامراة التي وضعوا تابوتها على سطح السيارة ذات يوم ، قال له عمه الممسك بكفه انها جارتهم ، فصار قلبه منذ تلك اللحظة لاجئا في بيوت الجيران.
-حميد ؟!
-نعم حميد.
قامة طويلة تشخص امامها وصوت غض يتكلم معها . القامة لحميد ، لكن الصوت لطفل بحت اوتار حنجرته من النشيج على ام مابرح يسال عن عودتها بلا جدوى منذ يوم السيارة السحيق.
يرجرجها الاضطراب ويحبس الترانيم في صدرها ، وتستعطف القامة الطويلة ان تعود الى سطحها المجاور ، فمن سلم المنزل سوف ياتي ابوها او تاتي امها ، ومن الجدار الفاصل ستمتد رقبة زوجته ، والكل سيقرعون جرس الفضيحة.
-اية فضيحة ؟
-فضيحة الرجل مع حبيبته في ليلة ظلماء.
-ولكن لارجل هنا الان!
-ومن هذا الذي يقف امامي اذن ؟
-انا .
يرد عليها الطفل الازرق المقلم بالسواد وخداه يحاكيان بالدمع خديها وبلعومه يحاكي بلعوم طفلها بالاحتقان.
زهر البراءة في رجولتي لايزال نقي الرائحة ، لم يلوثه سخام زمن طلقات الثار الذي اكل راس زوجها قبل خمسة اشهر ، ولا الليل الاسود ابو القذارات المتقافزة على السطوح او المتلصصة من الشبابيك او الداخلة من الابواب سرا.
اتركني قامة واقفة تمارس الانحناء التدريجي على احزان حبيبة الامس ، واترك الطفل الهابط من النجوم يبحث لديها عن الامومة المدفونة.
تساله ابتسام :
- ماذا تريد ؟
فينوب ثديها الاخر عنه بالجواب عندما يدر حليبه .
- ولكن طفلي يملا حجري!
تقول وهي تتحسس دموع حلمتها المنسكبة على ناري ذات الاشتعال المتواصل على امتداد ضياعاتي المتلاحقة .. ضياع امي .. ضياع حبي .. ضياع ربيع عمري . فارد:
- شاطريني اياه الحجر.
جائع طفل الامس الى حليب وحجر وترنيمة. وابتسام جائعة الى فم وانفاس وصوت يقاسمها لوعة الانين.. وحميد الذي عبر الحاجز على سلم الانين الموسيقي يلجم جوع طفولته ويبحث عن شبع لحبيبة الامس فقط.
تزيح ابتسام رضيعها قليلا .. تشطر حضنها الى نصفين .. فاحتل النصف الفارغ وادع فمي يسحب من صدرها بعض الانين ويراكمه في صدري.
اراقب طفل النجوم فاجده يشعر بدفء الحجر .. واجد دمعه يجف مؤقتا .. ثم ينام مع خفوت صوت الفتاة المنحنية على يتيمين.
النوم ياابتسام .. النوم سرقته منا الطلقات المسعورة والحاجز الطابوقي وعسر الحال والرطوبة اللزجة والبساطيل العسكرية والانين المثقب با لنصال وجولات النشيج ورطوبة الدموع . فلننام قليلا.

*
اترك ابتسام تتوسط الطفلين على فراشها وتوزع ذراعيها عليهما، واعبر على امواج الرطوبة عائدا الى تاففات زوجتي.
اسمع شتائمها لي تاتي من خلال شتمها لحظها الرديء . انها مستلقاة الى جانب رجل هارب الى النجوم دائما .. يبحث بعينين شاردتين عن اشياء لاتعرفها.
زوجتي لاتعرف من هو الطفل المقلم بالسواد ..ومن هو عمري الذي اشتعل قصائد خائبة .. ومن هي ابتسام التي اخذها مني شاب الى بيته الثري ثم تركها تعود بعد سنة ونصف الى بيت اهلها ومضى هو الى المقبرة .
زوجتي تعرف فقط ان امي ماتت وليس معقولا ان يظل رجل شارف على الثلاثين يبحث في صخور السماء اللامعة عن امراة خطفها الموت.
اشعر بسوط ما يجلدني بقسوة بسبب خذلاني لهذه الامراة التي وهبتني ولدين بدلا عن طفل النجوم .. فاغادر النوم على الظهر واستدير نحوها وامرر كف المحبة على خدها غير اني اعثر هناك على دمع صامت متستر بالظلام .
تتضاعف قسوة السوط الجالد لصدري ويتفشى فيه الم مؤذ ، فامثل دور الغبي واهم بسؤالها عن الذي ابكاها ، لكن زخات الرصاص المفاجئة تجتاح صوتي ودموعها والرطوبة واللزوجة وشعاع النجوم وبقايا انين ابتسام في السطح المجاور وتفرض صوتها المسعور فقط.
انسى كل شيء واقفز نحو طفلي النائمين واحملهما واركض هابطا السلم لحجري نحو جوف الدار الحارة وتتبعني زوجتي.
انزل وسط الظلام محتضنا الطفولة في جانبيّ وهاربا من سواد الطلقات ، والزوجة تتبعني مولولة ، فتاكل اقدامي المسرعة درجات السلم المعتم بالسرعة ذاتها التي كان الخوف ياكل احشائي بها.
اتخبط وسط الظلام وارتطم يمينا وشمالا حتى اصل السلمة الاخيرة حسب ما تؤكد لي ذاكرتي ، فاطمئن قليلا وتزاولني موجة الرعب العنيفة.
اتخلص من خوفي على طفليّ واتذكر ان لي امراة كانت تولول خلفي ، وارسل الصوت سائلا عنها في أي مكان من ليل السلم اصبحت ، لكن صوتها لم يقابل صوتي بجواب ، ولم تسمع اذنيّ وقع اقدامها الراكضة ، وانما ارى طفل النجوم يقفز في خضم تلك العتمة من حجر ابتسام ويهرع مفزوعا نحوي ، ثم يطلب من خلال نشيج مسموع ان اشتري ثوبين ازرقين مقلمين بالسواد والبسهما لولديّ الذين سيستجيران بالنجوم ايضا في ليالي عمريهما المقبلة.
* الفواخت جمع فاختة وهي نوع من انواع اليمام له ترنيمة حزينة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى