صباح الدين علي - فرار.. ترجمتها عن التركية: مي عاشور

أمسك عسكريان من عساكر الدرك بإدريس وأخذاه.

وصل الحال بإدريس أنه لم يكن قادرا على التحامل على قدميه; فقد أوسعته قوات الدرك ضربا مبرحا, وبالرغم من ذلك كان يحاول المشي وهو يعرج.

اعترف أخيرا بذهابه إلى مسجد الإمام كوي في صلاة العيد, وسرقته للمصلين هناك. رغم أنه لم يكن يعرف أي شيء عن هذا الأمر. ولكن ما العمل? فهذا الضرب قد أرغمه على الاعتراف بكل شيء. كان سيضرب لسبع سنوات على الأقل.

كان يسير وهو يعرج, وبين حين وآخر تتعثر قدمه في حفرة, فيتشبث بذراع واحد من العساكر ويتكئ عليه.

بعد قليل من المشي, أعطوه سيجارة. لم يكن هؤلاء أناسا سيئين في الأصل, لكن ليس بيدهم شيء, فهذا هو عملهم. أثناء مطاردة الجاني, أعطى اليوزباشي أوامر صارمة لهم قائلا: “لا تروني وجوهكم قبل القبض على الجاني”.

وبما أن اللص الذي كان في القرية, قد لاذ بالفرار منذ وقت طويل, كان يجب العثور على فاعل بأى ثمن.

كان إدريس متشردا يتجول هنا منذ بضع سنوات, بل ويمارس أنواعا مختلفة من النصب والخداع. وقبض عليه أكثر من مرة وهو يبيع ورق السجائر وحجر الصوان.

المهم أنه كان هناك أشخاص يشتكون منه في القرية. وحتى الذين كانوا يعملون حسابا لخاطر جده والد أبيه رحمه الله, الذي كان إماما للقرية في الماضي, عندما رأوا أحواله هذه, بدأت تراودهم رغبة في التخلص منه.

لم تكن ستنقطع أقدام قوات الدرك من القرية ما دام إدريس باقيا فيها.

ولذلك عندما جاءوا للقبض عليه, قال العمدة وبقال القرية, إنهما قد رأيا إدريس متجها صوب الإمام كوي قبل حادث السرقة بيوم. كان ذلك كافيا, أما الباقي, فأرغمته قوات الدرك على الاعتراف به, فحكى إدريس كيف سرق في مسجد الإمام كوي في العيد.

كانوا في طريقهم إلى الإمام كوي, وكان إدريس منغمسا في التفكير. ففي هذه الدقيقة لم يكن عقله يفكر في الضرب الذي أكله, ولا حتى السنوات السبع التي سيضرب فيها. امتلأ عقله كله بشيء وتفكير آخرين; كان هذا التفكير أكثر إيلاما له من الجلد والحبس. كان يعصر عقله لإيجاد حل لتلك الأمور الكثيرة التي لم يعتد عليها, ولكنه لا يجد, فيظهر الضيق على وجهه وينعكس في عينيه اللتين كادتا أن تخرجا من محجريهما.

كان الشيء الذي يفكر فيه إدريس هو: اعترافه بأنه هو الذي ارتكب السرقة في القرية, عندما كان يضرب. ولكن لم يكن قد انتهى الأمر عند هذا الحد فحسب, بل كان لا بد من وجود دلائل للسرقة; لذلك كان يجب عليه أن يعترف بالمكان الذي أخفى فيه الأموال والساعات الفضية.

ولكن أي أموال? وأي ساعات فضية? بل أي سرقة? ولكنه لا بد أن يعترف, فهذا أفضل من تحمل العصي, وكعب البندقية والركل.

كاد عقله أن يخرج من رأسه من كثرة التفكير “ماذا ستقول?”. “أنا من سرق في الإمام كوي”. قولها سهل, لكن الصعب هو إظهار الأموال والساعات الفضية. بل صعب جدا.

حينها كانت الهراوات والسياط وكعوب البنادق تنهال عليه. كان على وشك أن يفقد وعيه, فرفع يده بخفة وقال: “سأعطيها لكم”.

تركه العساكر. رشوا وجهه بالماء وأعطوه سيجارة. في هذا الوقت, قال أول اسم قفز إلى رأسه “الأموال في الإمام كوي, عند سليمان آغا القهوجي” توقف الضرب. كان كل ما فكر فيه إدريس حينها هو هذا. لكنه بدأ في التفكير في أشياء آخرى تماما عندما انطلقوا متوجهين إلى الإمام كوي. “أصبح المسكين سليمان آغا في مأزق” قال إدريس.

كان سليمان آغا الشخص الوحيد الذي ما زال يساعده سواء في قريته أو في الإمام كوي. يخصص له مكانا للنوم في قهوته, وكذلك يعطيه نصائح. فمن أين خطر على باله اسم هذا المسكين من البداية?

سيلقي عساكر الدرك ذلك العجوز الذي لا يعرف شيئا, على الأرض, وسيضربونه حتى الموت.

وسيقول سليمان آغا: “أنا لا أعرف شيئا” سيحلف آلاف المرات المختلفة, ورغم ذلك سيضرب ضربا مبرحا. سيتوسل بصوت مرتجف, وسيرغب في التكلم, وسيتلوى من فرط الوجع, ولكنه فقط سيضرب.

كأن لاحت أمام إدريس صورة العجوز ذات اللحية البيضاء, وهو يبكي وتنساب دموعه على لحيته, وكأنه رآه قد انحنى إلى نصفين, من فرط الركلات التي تلقاها على بطنه, وبفعل الضرب بكعب البنادق. وكأنه قرأ في نظرة عينيه المنطفئتين الجاحظتين اللتين ترمقانه من تحت الحواجب البيضاء الكثيفة: “أعجبك ما فعلته يا إدريس”; وكأنه كان يراه أمامه, وهو يتأوه من فرط ألم ضربة جديدة تلقاها على بطنه بكعب البندقية.

رمق واحد من العساكر إدريس بنظرة. ثم أخرج سيجارة وأعطاها له.

وضع إدريس السيجارة في فمه بيديه المترنحتين المكبلتين بالكلبشات أعلى بطنه. ثم سحب نفسا واثنين عميقين.

ابتعدوا خطوات قليلة. وقعت السيجارة من فم إدريس. آه, لم يكن ينوي فعل ذلك.

لاحت الإمام كوي من الجهه المقابلة. في البداية ظهرت شجرة يابسة أو اثنتان. ثم ظهرت بضع بيوت من طين اللبن وبعض الأطفال العراة.

كانوا على بعد أكثر من مائة خطوة حتى يصلوا إلى القرية وسليمان آغا.

تلفت إدريس حوله. كانت هناك أرض خلاء فيها شجيرات على الجانب الأيمن. نظر إلى عساكر الدرك, كانوا يحملون الأسلحة في أيديهم.

قفز إدريس قفزة, ثم وثب إلى الناحية الأخرى من الحفرة. تعثر فسقط. ثم وقف ثانية وبدأ في الركض صوب الأرض الخلاء. “تراك” أصدرت أسلحة العساكر أصوات تعمير خزائنها, وسرعان ما دوى صوت قصير وثاقب لطلقتي رصاص في الأفق. سقط إدريس في مكانه.

جرى العسكر صوب إدريس. كان ينساب خط رفيع من الدماء من فمه. فتح عينيه وقال: “ليس لسليمان آغا علم بأي بشيء”. سقط رأسه جانبا, وتدفقت دماء كثيرة من فمه مجددا. وقال فاتحا عينيه مرة أخرى “و لا حتى أنا”.

تراجعت عيناه إلى الوراء بخفة من دون أن يغلقهما, وبقى منتصبا في مكانه.


صباح الدين علي.jpeg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى