ربيعة ريحان - فرض المساء.. قصة قصيرة

كنت منفعلا من البرد والدهشة ، وأنا مكوم على نفسي، حين كان أبي لا يزال واقفا على رأسي، يجردني من الغطاء. أمسك بي من معصمي، وجرني إليه، على نحو ما يفعل الأصدقاء ، حين يأتون مبكرين، حاملين البشرى إلى نظرائهم الكسالى، المعتادين على النوم إلى الأصيل . لم أكن لأستجيب لجره. كنت مكتنزا ككيس مليء بالبذور. تجاهلته وأنا أفرك عيني وأرتخي. كانت تلك، هي المرة الأولى، التي لم ينزل فيها عاليا، زعيق أمي، على سمعي كاللكمات، وهي تدعوني بفظاظة للاستيقاظ. كنت أجننها بلا تجاوبي، ورغبتي الحرنة، في مواصلة النوم.

- حسنا ، ألا تريد التلفزيون ؟؟.

سمعت من خلف لذاذة الاستغراق أبي. كان لدي شعور بأنني أقشعر. بعد سماع اللفظة، اصطكت بالفعل أسناني، وغمرني أوار صاخب . تلفزيون ؟؟؟...

- احذر ..أنت من سيدفعني إلى العودة للنوم. انفلت كدلفين من الفراش، حيث كان أخي، لا يزال غارقا في سباته المعسول. هرعت إلى الحمام، ثم عدت سريعا جاهزا، أقف أمام أبي، بشعري المنتصب المبلول ، الشبيه بشوك قنفد ، تأخذني رعشة خفيفة، وأنا أنظر إليه غير مصدق، مركزا عيني الطافحتين بالفرحة والاستحسان ، ويداي خلف ظهري.

- ألن تفطر؟؟ !!..

كان أبي قد سبقني ولاشك. فكرت في شاي أمي اللاهب ، لكنني خفت أن نتأخر بشكل أكبر، ثم أنني كنت أدري، أنني لن أهون على والدي، ولن يتركني لألم الجوع و نقمته. عند أول منعطف ، ستهب مشتهاة ، رائحة زيت المقلى ، من دكان ميلود ، بائع الفطائر الاسفنجية اللذيذة ، وسيشتري لي منه فطيرتين أو أكثر، تلك التي لن أمنحها الوقت لتبترد ، بل سأزدردها في هجوم ضار، والزيت لا يزال يفور، على سطحها الذهبي اللامع. كان حدثا أن يحصل ذلك. بعد كل الجور واللامبالاة، يتم الرضى عنا. ننتقل من الإضاءة بالشمع ولمبة الغاز، إلى الكهرباء. حين ذبلت أعيننا، أتى يوما رجال. نصبوا أعمدة، ثم بعدها أتوا بأسلاك نحاسية ، في لفات كبيرة ، كانت تلمع في القيظ ، ونحن نتحلق حولها . لم يكونوا حذرين ، وهم يتسلقون الأعمدة، ببدلاتهم المتسخة الدكناء، ويربطون الأسلاك، لكن بعد أن رحلوا، تركوا رسما مخيفا على لافتة. كان تقاطع العظام بالجمجمة يفتح قولبنا ، على أن البعد منها، يجنبنا إمكانية حدوث الخطر. أنيرت دروبنا الطويلة المتربة ، دفعة واحدة ، في كتامة ذلك المساء الصيفي ، لكن أكثر البيوت كانت عاجزة ، عن دفع الرسوم ، فظلت على عماها، فرحة فقط بالإنارة المتوهجة، التي نابها منها نصيب، بحكم قربها من زاوية المصابيح، في أعلى العواميد الخشيبة المشققة. في المساء الذي أعقب الفرح، جاءت البنات وقعدن أسفل عمود نور. شكلن حلقة، ثم غنين على إيقاع التعارج، أغنيات طويلة تائهة، وهن ينظرن مباشرة، في عيون الأولاد. ربطت إحداهن وسطها وتلوت. تعالى الصفير، فجاء أخوها وصوب نحوها صفعة، ثم شدها من شعرها، نحو البيت. سعيد ، ابن الحي ، وطالب الفلسفة، حد كثيرا من نداوة فرحة الناس ، وهو يعبر جنبهم ، حين أعلمهم واثقا ، أن اهتمام الحكومة لم يكن بهم ، بقدر ما هو ضبط أمني . فهم بسبب جرائمهم الكثيرة ، و ازدهار حيهم ، كوكر للدعارة والحشيش ، فكروا في بريتهم ، عسى أن يصطادوا ظافرين ، رؤوس الشغب.

- أولاد الكااااااالب ؟؟..

علق التهامي، المحشش دوما والمهلوس، والذي من ولعه، كان مستعدا ، لتقديم حياته ، مقابل نفس طويل زائد، من غليون الكيف. كان يدري ، أنه لا يستطيع العيش متآخيا ، مع عذابات حرمانه . آزره بقلق ، بوجمعة الشاحب ، الملقب بكماي، مسلك المجاري والمواسير :

- أولاد الكلب و خلاص ؟؟.. أولاد ال...

- ما يجي من وراهم خير ، ما ترى باس .

- فالحين غير في السرقة و الرشوة .

فرح سعيد، وهو يرى مفعول تدخله ، فقال كلاما آخركبيرا، للمزاليط ، جعلهم يدوخون . رمى جملا عن داروين وماركس ولينين ، والثورة ، والصراع الطبقي، ثم غادرهم. كان ثمن التلفزيون باهضا ، قياسا للمداخيل ، لا يتوفر لسكان الحي ، من أصحاب العربات و الباعة المتجولين ، والعمال البسطاء . لكن أبي الذي ترقى في عمله ككبران ، في معمل التصبير، كان عليه أن يرضخ لي و لرغباتي ، أنا شبله الذي لم يلده ، إلا بعد أن فضض الشيب شعره ، وطلق من أجلي خمس زيجات . يوما بعد يوم ، عرفت كيف أحد من جسامة مقاومته. حين كنت و أبي في طريقنا الى متجرالوزاني ، بشارع الرباط ، كانت قد سبقتنا الى الحي ثلاث تلفزات ، اثنتان بمقهى الحاج مسعود، ومقهى المويسية ، والثالثة ببيت قدور، العدل المرتشي اللعين. وعلى خلاف هؤلاء جميعا ، سيصيراستواء باحة بيتنا، الأرضي الطويل ، بهندسته الساذجة ، ملاذا للجيران ، وستشكل قعدات الناس فيه ، ديكورا ثابتا ، في الأمسيات الحافلة. بيت العدل ظل مغلقا . كان فاسقا ، يتقن ألوان الرياء . يقفل البيت على نسائه ، بينما يمتد ظله المتطاول بخفة ، خلف مؤخرات المارات ، وعيناه ترصدان النوافذ . كان صوته يفقد الكثير من وضوحه وقوته.

-ماشاء الله .. ما شاء الله .

يهمس لهن بخبث ، ويداه تضيقان على بطنه ، داخل جبته .

لم تثر ثائرة أمي أبدا ، وهي تستقبل في بيتها ذلك الحشد من الناس ، ولم تتذمر، مع أنها بشبابها الريان ، كانت سيدة البيت وحاكمته. ظلت مطيعة مرحة ، تقدم الشاي لجاراتها القريبات ، اللائي يحضرن زمنا قبل الغير.

لحسن الحظ ، أن محطات ثلاث فقط ، هي ما كان يشد الناس ، و يأتي بهم جماعات الى بيتنا ، سهرة يوم السبت ، و مسلسل le fujitif البريء ، الذي كان يستقطب الشباب، ومباريات الفريق الوطني. سهرة يوم السبت ، المبثوتة من عين الشق ، وحدها كان جمهورها مختلطا .

فرحة الحضور بالشيخات ، والثنائي قشبال وزروال ، واسكيتشات عبد الرؤوف ، و لقطات الكاتش ، للحاج فنان ، كل ذلك ، كان يزرع نوعا من الاستهتار في الحلقة ، والاستعداد للهيجان . بيد أني كنت أضبط ، برنوة حاسمة مني ، أي عنف جسدي مكتوم ، أو إساءة مدبرة ، تصدر بين الأطفال ، لكنني كنت أعلم فيما بعد، أن أكثر من أصبع وسطى ، كانت تمتد نكاية ، الى المؤخرات !!.. كنا نرتاح، حين تأتي سيدة الطرب. كانت النساء يخلطن في الحساب ، ويقبلن . لكنهن كن يخلفن جوا آخر، تآمريا ، وهن يسحبن أولادهن ، ويغادرن غاضبات على عجل ، شاتمات بحقد وكراهية ، صورة أم كلثوم على الشاشة . لم يكن ذوق الناس ، على مزاج آهاتها و تلويها. صبري الحصيف، ورصانة أمي ، عصف بهما فيما بعد ذلك الافراط . ومدى البهجة ، التي كنا نستشعرها ، بكوننا قبلة للامتاع ، ضعفت . لم أعد كما في السابق ، متلونا بزهوي الخاص ، في أن كل البنات يكلمنني ، أو يدفعنني الى نوازع السقوط في حبائلهن ، لأن أكثريتهن ، كن على استعداد ، لاقتراف الحماقات و الفعل الحرام. بقي فيما بعد ، أصحاب الوالد ن وكذا أصحابي ، الذين يأتون مشوشين بالقلق ، الذي يسببه لهم ، الجهازالدافع ، في بيوتهم الواقعة بين مستشفى عقبة بن نافع ، حتى باب الشعبة البعيد . كان جهاز البث ضعيفا ، لا يترك من الصورعلى شاشاتهم غير الطشاش . كنا نوزع عليهم كؤوس الكولا وكعك البيت ، الذي تصنعه أمي كالأساور، ونتفرج في صخب على المباريات. بعد الفرجة ، كانت مهمتي أن أخرج مع الأصحاب. أوصلهم إلى حدود مستشفى محمد الخامس ، عبر الأرض الرملية الخلاء ، التي كانت تنشر عليها شباك البحرالمتهتكة ، ليخيطها البحارة المتعبون. كنت بذلك أجنبهم بدقة ، إمكانية أي هجوم محتمل ، من أولاد حينا الشرسين ، في الممرات المظلمة، حين يغيب طيفي، وأطياف آخرين منا ، يعاضدونني

ومع كل الحيطة والحذر ، كانت تحصل أحيانا عركات . حساسياتنا الفكهة، حيال كل شيء لامع ونظيف، كانت تستفز السكارى والمحششين، من أبناء حينا، فيلمسون بدعارة، خدود الزوار، فتشتبك الأيدي والأقدام . لم يكن من شيء، يجعلهم ينهون على شبه خير، ذلك الاقتتال الدائر، عدا سماعهم وعيد الأولاد .

-اعقل دين أمك . ستدفع الثمن غاليا أمام السينما .

فقط ساعتها يلين العراك ، وينتهون ، الى أن يبدوا الوسائط ، الشبيهة بالمداعبات . لكن بازدياد الغضب ، كانت تحصل أحيانا مشاكل . أمام سينما الأطلس، كان يعسكر أولاد حي رحاة الريح ، وأمام رويال ، يصلب عود أولاد الصقالة ، وشارع الرباط . ونحن ، حين نصل إلى هناك ، بوجوهننا المبللة بالعرق ، نكون بحاجة إلى من يدرأ عنا ، لسعات الأحزمة ، حين تتلوى حول الآذان !!.. كنا نتشنج خوفا ، ونحن نبحث بالأعين ، عن طرق ، تجنبنا شر ما اقترفناه . نسمع بغتة ، تلك الصرخات المفجعة ، فنعض على أسنانها من القلق :

- ها هم جاو . ودابا ، حصلتوا دين أمكم ، صافي ؟؟ . الحصلة تجيب البصلة .

ثم نسلك تلك السبل الملتوية ، للاقتراب من الناس الطيبين ، بحثا عن التسامح ، ونحن ندعي أننا أبرياء ، أو نندس خلف النساء المختلفات ، نمسك في طيات لحمهن ، فندوخ من العطر المسكر ، الذي يمنحنا عسل الشهوة ، وشهوة الانتصاب . لماذا كنا نغامر بالمجيء ، رغم كل ما يلوح قريبا ، من سيرتنا المارقة ؟؟.. كانت حاجتنا حتمية للذهاب . من يقوى، على مقاومة إغراء ملصق، لفيلم هندي أو كاوبوي ، على ظهر جدار طاحونة الحي؟؟ !!.. كنا نلقي عليه ، نظرات طويلة حالمة ، ونحدق في الوجوه ، ثم نشتعل بالرغبة. نتفارض* للبعض ،الذين يعيشون أعطاب الفقر، من أجل أن نكمل ، جمع و تحصيل درهمين ، لكن الأسوأ أن نجد التذاكر ، في أيدي الصغار الأعداء ، سماسرة سواد السوق . سكيريدا الصعلوك ، كان يعرف ، كيف يحررنا من الورطة ، بالنصب و الوعود . أما نحن فطاقات مخيلاتنا ، كانت تبدو ساعتها ملجومة. أتكلم بلسان حال أولاد حينا ، أما أنا كنت مستثنى من هذا الضنك ، لأنني مسالم بطبعي و عاقل . لم أكن أقطع الليل ممتطيا صهوات الجنون. لهذا كانت علاقتي بأولاد هذه الأحياء ، بعيدة عن تبعات الثأر الموجعة ، إضافة الى زمالاتنا في الفصل ، فنحن لا نأتي الى سينماهم فقط ، و لكن أيضا إلى الثانويات ، التي لا أحد يفكر، في تشييدها قربنا .

أسأل نفسي الآن: لو لم يعم النور، وقسيمات السلف المنهكة، ما الذي كان سيرفع كلفة الحرج، ويقينا عثرات القنوط ؟ !!..

... لذا حين حل الفيديو، كان جزءا هاما منا كشباب ، قد لاقى مصائره ، بينما راحت الأمهات ، خلف ستائر غرف الجارات ، يكرعن كؤوس الشاي ، ويطلعن الأفلام المخبوءة ، ليشتعلن بالفوضى والهرج ، مبهورات من عري الأعضاء، والممارسات الحرجة ، التي يرينها كما عند الحيوان ، لكن بتنهيدة الوله، وكأنهن يتابعن درسا ، لفروض للمساء !!..

ماي 2005

تعليقات

ربيعة ريحان من القاصات المغربيات التي تتلمذ على اسلوبها العديدون ... كانت اعجابي بها بحجم الفتنة في سدرة المنتهى ... خصوصا في مجموعتها المتميزة ، و التي لازلت اشرب من عذوبة سردها " مشارف التيه "
دمت استاذة منارة للادب ... ودام لك الابداع ... حيث تكشفين عن المتجاوز و المالوف فينا
 
ارجو ان تعود قاصتنا الى ملاحقنا الثقافية في الجرائد الوطنية المحلية ... حتى نستمتع اكثر بقصصها الهادفة ... دامت لك المسرات اساذتنا الكريمة .
للتواصل بريدي الالكتروني :[email protected]
 
أعلى