محمد عبد الرحمن يونس - مواجع الصبا وأحزانه . قصة قصيرة

انفرجت أساريره.. هادئاً شفيفاً تقدّم.. هي ذي نجمة تومض بعيداً.. وأخذ يعاين النجمة، لكنّ غيمة مرّت سريعاً وغطّتها، فانقبض قلبه: مرّي أيتها الأيام الملعونة.. أسرعي.. دعيني.. فأنا مفرّغ وحزين ومطرود من جنان الأرض والسماء.

حاول أن يفرد شراعاً لأساريره، لكنّها رفضت.. تحسس وجهه.. مليء بالتقاطيع.. أحسّها أودية واسعة تشرح جبهته وخديه.. هو الشباب يزوي.. وتخيّل نفسه ميتاً يتقاطر الأصدقاء والأعداء لتوديعه والشماتة به.

على شاطئ البحر مشى طويلاً.. مئات الشابات الحسناوات والرجال يثرثرون ويمارسون كلّ ما هو منكر ولذيذ ومحرّم.. تأمّلهم جيداً.. لم يستطع أن يتذكّر واحداً منهم.. أمعقول أن لا أعرف أياً منهم؟. أخذ يعاينهم.. تمنّى لو يمتلك الجرأة ويكلّم أيّ واحد.. أو يكلّمه أيّ شخص كان.. بعض النساء كانت ترمقه بازدراء وببرود.. بعض الرجال ينظرون إليه ببلاهة.. وأحسّ بالقهر يفترسه.. كم غريب أنا؟

مدينتي بطولها وعرضها تتربّع جثّة طافية فوق سطح البحر.. يفترسها الذباب والطاعون والنساء والإيديولوجيا الرثّة، وأنا الغريب عنها.. ودعا الله وتوسل إليه كي يرى شخصاً يعرفه.. ساعتين وهو يقطع الكورنيش غرباً وشرقاً، وما عرف أحداً.. مرّت سيدة بجواره.. ابتسمت.. ظنّ أنها تبتسم.. له وهادئاً تأمّلها، ووسوس له خياله: قد تكون زميلته.. هو لا ينكر أنه صار كبيراً، وأنّ ذاكرته بدأت تضعف، وأن بصره نقص درجة أو درجتين، لكنّ وجه هذه المرأة لم تمحه ذاكرته المتعبة المطعونة بالسجون والخمارات والملاهي، وبكلّ ما هو حلال وحرام وحزن وغربة وحشيّة كحدّ المدية.. هي عينها زميلة الصبا.. هي الحلم الجميل الذي رافقه في صباه وشبابه وكهولته.

- مدام.. من فضلك دقيقة واحدة.

- واكفهرّت.. غارت ابتسامتها.. مساحة الوجه الجميل هبطت عليها الوحوش والضباع وقطّاع الطرق، وعنجهية التجار ومقاولو الاستقلال. وما وقفت.

- لحظة من فضلك.

- أيها الأحمق.. لماذا تطاردني؟.. ستفضحني.

- وتذكّر جيداً عندما كان شاباً يافعاً كيف كانت تزوره.. كان يشرح لها دروس الفيزياء والرياضيات.. وكان يلاعبها الشطرنج، ويقرأ لها أشعاراً استغرق أياماً وليالي طويلة في ترديدها وحفظها، وهو يتأمل نوارس البحر، وأشعة النجوم الهابطة عليه.. وعندما كان يحفظ القصيدة عن ظهر قلب كان يتألّق فرحاً، ويزداد وجهه صفاءً وطمأنينة، وينام على أعصابه علّ النهار يشرق ليسمعها هذه القصيدة الجميلة.

- وتذكّر مرّة أنّه غاب عن مدرسته أسبوعاً، ليتفرغ لحفظ قصيدة علي بن الجهم:

عيون المها بين الرصافة والجسر

جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري أعدن لي الشوق القديم ولم أكن سلوت ولكن زدن جمراً على جمر

- وأتته مساءً مشعّة كعادتها، وشرح لها درس التوابع،وقرأ لها القصيدة كاملة، وعندما استرخت هادئة مدهوشة، ظنّ أنّها تحبّه، فاندفع ولمس يدها.. استسلمت لحظة.. ظنّ أنّه سيد البحار والمراكب.. وأنه السلطان المتوج بألف تاج وقمر ونجمة فوق قلب هذه الشابة وسهولها الخضراء الشاسعة.. وسرعان ما انتفضت فجأة، وتملصت:

- عليك اللعنة يا بن الداشرة.. أنت تستغلّني وتدنّس طهارة أثوابي، وعظمة قبيلتي وعشيرتي.

عليك اللعنة أيتها الحمقاء.. هل أنا عبد لأمّك وأبيك. ورمى الكتاب بوجهها.. تباً لك ولكل قصائد الشعر والغزل.. ولكلّ ما قالته الشعراء من غزل عذري وفاضح.. تباً لكل التوابع والزوايا والمستقيمات.. ألا أستحقّ لمسة يد!.. وحزيناً طوى قصائده الملوّنة وليالي سهره الطويلة المضنية.. ودخل تجاويف دماغه وهادئاً جمع كل ما قرأه وأضرم النار فيه.. لتذهبي أيتها القصائد رماداً وهباءً لن ينبعث أبداً، ومن يومها قرر أن لا يقرأ كلمة أدب واحدة، وأن لا يحفظ بيتاً شعرياً واحداً.

- لحظة واحدة من فضلك.. ألست وفاء الملياني؟

- نعم.. أنا هي.

- ألست صديقتي السابقة.. ألا تذكرينني؟.. كنا نقرأ في ثانوية واحدة.

- أنا لا أعرفك يا هذا.

- انظري إلي جيداً.. هي ذي ملامحي لم تتغير كثيراً.

- لا تحاول.. أنا لا أعرفك ولن أعرفك.. فلا تعذّب نفسك.. ابتعد وإلا أطلقت كلابي عليك؟

إذاً من العبث أن تحاول أيها الغريب.. فهذه الجميلة المتألقة انتفاخاً وأبّهة لن تعرفك، وتأكّد أنّها زميلته الأنيقة المعطّرة التي تفوح روائحها في زوايا القاعة الخامسة من ثانويته القديمة، والتي تقدّمت أربع مرات إلى الثانوية العامة، ولم تأخذها. وبعدها غابت،وسأل عنها كثيراً.. قالوا إنها سافرت.

وغاب وتشرّد ورأى نساءً شتى في أصقاع الأرض، وطواها النسيان هي وغيرها من الجميلات.. وها هي تهبط أمامه فجأة بقامتها المديدة بعد هذا الغياب الطويل.. وهاهي تتنكر له.

المرأة المتألقة بغبار الذكريات والعطور، والخطى الواثقة، الداخلة قوياً في صدى الذكريات.. الحاضرة القريبة البعيدة التي تنزع فساتينها وتتمدد شفيفة على رمال الذكريات، وترفو أحلامه البعيدة المثقوبة، وتخيط أكاليل ورد وطرحات بيضاء، ثم تلبسها، فتبدو سروة تتثنّى ببهائها الجليل،هي ذي تهبط إليه فتحاصره بحضورها الطاغي، ثم تعيد صياغة نظرياته الفلسفيّة حول الكون والزمان،والغربة والمواجع، وتشعل مجامره المطفأة منذ زمن بعيد. وكم تمناها في تلك اللحظة، لكنها ابتعدت بنفور وحشي.وتركته مدمى وحشة وغربة، بعد أن هددته بالكلاب والوحوش والأزمنة السوداء.

تابع خطاه.. البحر السيد الجميل المكلل بالقوارب والنوارس أطلّ على المدينة القذرة ببهائه. ورمقها ساخراً.. امتطّت أحلامه بعيداً.. بدا المدى شاسعاً هياباً.. قلبه الصغير استنفر أحزانه النائمة وراقصها.. تألفت غربته وهذا الوجع المزمن.. راقب النساء بأزيائهن المتناسقة والقبيحة.. كم بدت الكثير من النساء بلهاوات مليئات بالدمامة، وهن يتلطخن بأصباغ فاقعة لا تناسق ولا انسجام فيما بينها، وكان مهموماً وحزيناً. ولم يكن حزيناً لأن لا حبيبة ولا زوجة ولا أمّ له.. ولا امرأة يطفئ مواجعه القديمة على شفا نهديها.. و ارتعاشات تأوّهاتها الناعسة، فقد نسي أن يفكر في جسد المرأة، بعد أن اعتقد تماماً أن نساء المدينة محصنات بالأصداف والأساور، والسيارات الفارهة، والكلاب الوالغة، وأنه لا مكان له أبداً في عالم النساء الأسطوري المهيب المكلل بظلال الأسواق والمعاصي وبكلّ ما لذّ وحلا، فانكفأت أمواجه، وخبت التماعات عينيه، ونام قلبه الصغير، وهمدت اختلاجات جسده، وقرر ألا يفكر الدخول في هذا العالم الخرافي المليء بغابات خضراء شاسعة، وورود مزهوة جميلة، تقول عنها أخته إنها أجمل ورود العالم، وأكثرها نقاءً وعطراً .

وقالت أخته: أيها الأحمق، حتى تستطيع أن تلج هذا العالم الخرافي يجب أن تمتلك لساناً منشاراً، يستطيع أن يحيك الكذب ببراعة متناهية.. اكذب على المرأة قل لها أنت جميلة وأميرة.. تغنّ بجمالها، حتى ولو كانت شوكة برية.. قل لها لك رائحة المساء، حتى ولو كانت لها رائحة الخنازير الفتّاكة.. شكّلها وردة مشعة.. قل لعينيها شعراً مهما كانتا باهتين، ولا تعتقد أنها لا تعرف أنك تكذب عليها.. ولن يزعجها ذلك.. وستحتقرك إن كنت صادقاً معها.. فالكثير من النساء يكرهن الصدق ويسخرن به.. اسمع مني ما أقوله يا أخي عندئذ ستتدفق المرأة أمامك نهراً ونبيذاً، وأغنية عذبة، وبكراً وثيّباً، وجداوئل لن تنضب أبداً .

- عجباً أيتها الأخت العزيزة.. أأنت تقولين هذا؟!

- ولن أقول غير ذلك أيها المطعون الذي جفّت أوصاله، وسوائل جسده.. المرأة وطن وسكن وسمفونية لمواجع الرجال، وخيباتهم.. لو أن قلبك اليباب هذا عرف الحب مرة لأدركت كم المرأة عظيمة وآسرة.. لو أنك أحببتها لأوقدت لك المجامر والتنانير، ولسقتك نبيذاً أشهى ألف مرة من حليب أمك المغشوش.. لكنّك وأنت الغبي الذي لم يعرف الحب مرّة لن ترى في المرأة إلا يباباً وسفينة مكسورة، وشاطئاً مهجوراً.. فما ذا أفعل لك.. مت وحيداً وعش..ستظلّ شواطئك مهجورة، ولن ترسو سفينة واحدة على مرافىء قلبك.. هنيئاً لك خوابي نبيذك الفارغة.. هنيئاً لك كل هذا الجفاف والقحط.. والحشرجات الكليمة المكبوتة.. هنيئاً لك كل أحزانك المعفرة بكل غبار الأرض والإيديولوجيا التي ستقتلك يوماً ما. جسد المرأة هو كل أيديولوجيات العالم.. سلني وأنا العارفة بجداول النساء ودغدغاتهن وينابيعهن الدافقة أبداً، سلني أيها المشحون بأفكار الجدل والنصوص المتزمتة، والأحلام الفارغة العريضة التي تبول عليها تلفزات العالم ومحطّاته الفضائية، وعارضات أزيائه وصحفه الوضيعة.. أنت متخلف مغفّل يا أخي.. تحبو الأحزان والغبار حادة شرسة على بيّاراته، فتعكّر جادات قلبه ومنعطفاته .

- اسكتي بالله عليك أيتها المرأة.الأخت. رذاذك الكريه يزيد مواجعي ويدميني، فتهرب غيومي ونجومي.. وتصطادها حيتان البحر.. اسكتي بالله عليك.. كل حليبك مغشوش.. كل نظرياتك تطفئ نجومي ونوارسي.. ستدفنيني حياً .

- أنا الفاتكة المدمرة.. وكم سعيدة أنا. لو استطعت أن أعيدك إلى هذا الواقع الجميل مخلّفاً كل رومانسياتك الخرقاء .

ولم يكن في ذلك المساء حزيناً لأن لا حبيبة له،بل لأن غربة وحشية هبطت عليه فهيّجت ينابيع قلبه وبحاره الأليفة.. وتألّم لأنه لا يعرف أحداً، ولا يعرفه أحد على كورنيش البحر المتثائب فتوراً وضجراً بمئات النساء والرجال الهابطين عليه من قيظ المدينة الوحشي .

كم بدا الجو كئيباً.. يونيو القائظ يهبط كل صيف عليه، فتتدفق أحزانه جداول مرّة.. يفترسه الصداع الحاد.. دماغه تكاد تنفجر.. عصاراته تسيل.. تتحشرج نازفة همومها وآلامها.. كم يبدو هذا الشهر بغيضاً على قلبه.. في هذا الشهر كاد يموت مرّات عديدة.. بكى واحترق هزمته السجون السياسة بالعصي والمواجع.. زنزاناتها الوحشية كانت تلتهب في هذا الشهر بالحمقى والأنفاس الكريهة، وروائح التبغ والشما والحشيش القاتلة، والقات الصنعاني النفيس، وعراك المساجين الوحشي.. تنضح الجدران حرارة مسعورة، فتهجم على خلايا الجسد.. يهتاج المساجين.. لا شيء يبرد خلاياهم النازفة إلا العراك والشتائم.. يلعنون أزمنتهم.. وحيض أمهاتهم والبطون التي أنجبتهم، وقذفتهم إلى هذه الزنازين الخانقة، يلعنون الساعة التي تزوّجوا فيها، وتركوا أبناءهم يلوبون جوعاً، ونساءهم اللواتي تشردن فاقة فأكلن بأثدائهن غير وجلات، شاتمات أزواجهن الأغبياء الملتاثين بالبولتيكا والإيديولوجيا الحمقاء.

شهر يونيو هذا بذكرياته البغيضة يحرق الروح، ويزلزل المنى والأحلام، فتأفل بعيداً إلى أرذل مرافىء العمر.. يتحشرج الدم في المسامات.تولول الذاكرة بالدم الحائض، والإجهاضات الكابوسيّة. لا يعرف عدد المرات التي انتحب فيها داخل زنزانات السجون ومراقدها الخانقة العطنة. في هذا الشهر غير الكريم. ودعا الله بقلب وجل أن يزلزل هذا الشهر، ويلفظه إلى أبعد محيطات العالم.. ما إن يهبط هذا الشهر حتى تلتهب النساء والرجال والأسواق، فيزحفوا إلى شاطئ البحر، ليقذفوا بجوى قيظهم، وليتمددوا مخمورين منهارين بكل أحلامهم البليدة وليصحوا في أعماقهم موج حقدهم، وشهواتهم، الدفينة فيعربدوا ويتعاركوا، وتبيع النساء حليبها المغشوش، ويحيك الرجال مؤامراتهم، ويتقمّصوا أثواب الطهارة البيضاء التي ستذهل هاته النسوة، ثم سرعان ما يقعن في شباك طهارتها غير عابئات ولا نادمات.

في هذا الشهر تعصف مواويل الاغتراب فتنكسر خوابي الروح، وتمزّق أشرعة المدن والسفائن، وتقول أخته عن هذا الشهر: على أكاليل هذا الشهر ولهيب ساعاته تسفح النساء خطواتهنّ وعطورهن.. تتمدد أحلامهن الأنثوية الجامحة بعيداً لتتقمص الرجال والفوارس والفضاءات البعيدة المليئة بالرجال الكرام، الذين يسفحون ماء الوجه، وماء الجيب والزاد والبلح الشهي، وخيرات الفيافي البعيدة.. في هذا الشهر تغني النساء أجمل المواويل، وتحيك لحاظهنّ أكثر إيماءات الغزل والعشق فتكاً. وفي هذا الشهر يفكّ الجسد قيوده، ويعلن إباحيته كما كانت الكاهنات المقدسات ينذرن أجسادهن تقرباً للإلهة عشتار في معابدها ببافوس ورودوس وبعلبك وأصقاع مدن المشرق والمغرب البعيدة. وولاء لها.

تنفجر الدماء ملتاثة في يونيو فتعبّ جرار الخمر سكرى.. ثم تقيم مآتم العشق المحرّم. والمحلل، وولائمه.. وتتراءى الشهوة حلماً شهيّاً، فتهوي النفوس في محطات الرذيلة وخوائها المحبب اللذيذ.. لفاتحة هذا الشهر الكريم، ولأفيونه اللذيذ المسكر يعربد الناس صغاراً وكباراً.. ثكالى ويتامى.. أثرياء وفقراء، ويلفظون بداوتهم وجلافة شهواتهم الجسديّة إلى قاع البحر، وكلما هلّ هذا الشهر تهتاج المدينة وتتعاظم شرورها، وتعظم زيجاتها ومآتمها.وتمنّى لو أن الله يزيل هذا الشهر من خارطة السنة حيث لا مواجع ولا دموع.

ومشى يراقب البحر.. بدا ساكناً.. القيظ الوحشي جعله صفحة راكدة هامدة.. احتمال إصابته بضربة شمس قاتلة ممكنة جداً.. قبل سنوات قليلة كاد يموت في سجنه في هذا الشهر الكريم.. وفي السنة الماضية ماتت والدته، وفي أوائله في هذه السنة حاكت له إحدى قريباته مكيدة تهتزّ لها الجبال الرواسي. فكاد زوجها يقتله بمسدسه الملعون.. وصاح والده: اللهم إني لا أسألك رد القضاء، ولكني أسألك اللطف به.. وأومأ الله.. أن أقدم على منبر أخضر أيها القضاء وألطف بعبدي الأحمق.. وبين الخوف والموت المحتم تقمصت الرصاصة وجع الأحمق وغربته فخرجت من الفخذ اليمنى، ونجا بأعجوبة خارقة فانحنى وجلاً أمام القضاء، وأومأ الأب بنظراته القاسية، تب إلى الله واترك الخمرة.. الجامع مأواك ومنفاك ووطنك.. وكل مسافاتك وبراريك البعيدة.

حاذى كشك الصحف.. اشترى جريدة.. أعطى البائع مبلغاً مالياً.. انتظر حتى يرجع له البقية لكنّ البائع تجاهله.

- والبقية أين يا سيد الصحف؟.. أعطيتك مائة، وبقي لي تسعون.

- أعطيتني عشراً فقط.

- يا هذا حرام عليك.عدّ أموالك، وستجد أني أعطيتك مائة.

- زوجتي طالقاً بالمائة إن أنت أعطيتني مائة.

كادا يتعاركان.. تجمهر الناس حولهما.. وأقسم البائع بتربة أجداده وشيوخه وكل وكالات الأنباء إنه لم يعطه إلا عشراً، فانسحب هادئاً.. لا يريد الفضيحة، وتمتم: حسبي الله ونعم الوكيل، وهجمت رايات السفر والمدن البعيدة، وحنّ إليها.

أختار لوجهي المتعب شراعاً وأفقاً، فأشدّ الرحال تاركاً الأهل والخلان والمدينة وكل لصوصها ومحتاليها.. لا يسقط من عيني ذرة ندم واحدة.. أتوه في بلدان العالم.. ملامحي الحزينة.. علاماتي الفارقة لا تفارقني.أبداً.. معروف في المدن بحزني وترحالي.. وبين الماء والماء يتجمّد وجهي على قسماته المعروفة.. خوف وشرود يفترسان الروح.. سيل من المصائب والهزائم تمرّ جارفة الأماني والأحلام،وكلّما طالعت وجهي بين الأمواج وفوق الشطوط وصواري السفن لا أرى إلا هذا الحطام المرعب، وهذي الصواري المشروخة.

وفردت السفينة أشرعتها بعيداً.. وهبط إلى مقهى بحري ملاصق بالشاطئ.. سيده البحر كبدر مقمر يحتضن بوح الصيادين.. تتلألأ فوق قواربهم نجوم ساحرة.. وبعيداً أرخى سدول همه.. وتسلّق جبال أحلامه وأمانيه التي ما حضرت أبداً طوال حياته، كان المقهى مقسوماً قسمين متلاصقين: واحداً للرجال وآخر للنساء وكلابهن الرشيقة ساحرة العيون.. يفصل بينهما أصص من الأزهار لا تحجب امرأة واحدة.

وسأل صاحب المقهى: هذا مقهى سياحي من الدرجة الممتازة فلماذا تفصلون بين رواده، وردد النادل أقوالاً مأثورة عن الصحابة والفقهاء، تؤكّد نظرية الفصل حتى لا يلعب الشيطان برؤوس النساء والرجال في هذا الصيف القائظ فيرتكبوا المحرمات والموبقات.

- انظر يا هذا.. هاته النسوة شبه عرايا.. ألا ترى أفخاذهن وثيابهن التي تكشف معظم نهودهن؟ فأي فصل تتحدث عنه؟!.

- أنا لا علاقة لي بذلك.. صاحب المقهى رجل متديّن ورع، و لذا فقد قرر أن يفصل بين رواد مقهاه

- أنا أعرفه ماركسياً عتيداً.

- لقد هداه الله، وطلّق الماركسية إلى الأبد، وأصبح ألدّ أعدائها.. التوبة مقبولة يا صاحبي.

واستغرب كيف لا تثلم سيقان النساء العارية، وجدائلهن المسترخية بكسل العالم ونبيذه أخلاق هذا الماركسي الشيخ الجديد الذي أعلن ولاءه المطلق للتجارة والمقاهي، بعد أن سقطت الماركسية هذا السقوط المريع المخزي في عقر دارها.

وأكّد نادل المقهى أنّ الرجل يستطيع أن ينتقل إلى جناح الحريم إذا ما اصطحب أمه أو أخته أو صديقته أو زوجته، وإن لم يجد فعليه بأيّ امرأة يصطحبها من الشارع، لتكون وسيلة دخول في جناح الحريم.. ولم يكن بحاجة إلى ذلك فكل الجناح الحريمي كان مفتوحاً على جناح الرجال، ولم يكن بينهما فاصل إلا أصص الورد التي لا تحجب شيئاً، وراقب الجناحين،ولم يعرف رجلاً أو امرأة واحدة.

صاحب المقهى الماركسي الشيخ لم يكن سيء الذوق، بل كان أنيقاً بهندامه الأوروبي المستورد، وكان لطيفاً دمثاً يعرف كيف يحيّ النساء بأدب جمّ، وينحني لهن، وكيف يختار لهنّ أجمل المقطوعات الموسيقية، فأصول البيع والشراء تقتضي اللباقة، وعليه أن يجلب أكبر عدد من الزبائن حتى يستطيع أن يكمل مشروعه السياحي الضخم الذي ألصق إعلاناً عنه على واجهة مقهاه، وهو مطعم وفندق سياحي بخمسة نجوم ومسبحين، واحداً للنساء وآخر للرجال.

وهبطت الموسيقى على جروحه وهضابه فانداحت بقية الروح، وجرفته أحزان بهية ألقة.. ومرّت غيوم ذكريات تترى، فهبط المزن مدراراً على شغاف قلبه.. وعميقة شجية غنّت أم كلثوم لريح الجنوب والغيرة، ومحيّ الحبيب البدر، وحسدت الشمس في ضحاها لأنها أطلت عليه، وقبلت وجنتيه النديتين.

وآسياً أسمر شعّ الغروب الجميل في أحزانه الطويلة، وانحنى أمام الموسيقى، ونزع ملابسه، ورمى نفسه إلى سيّده البحر، وسبح بعيداً، وما كان يجيد السبح، وتراءت له حوريات البحر يقطرن أسراراً ومراكب وأغنيات عبقة، ففردن له شواطئهن، وأغمض عينيه عميقاً، وتمنّى شاطئاً آمناً مهجوراً، بعدها سيطّلق العالم كلّه، ويلوذ بهذا الشاطئ، وانطلق حصان أحلامه الجامح على سجف الريح بعيداً، فأخذه طوفان قوي لذيذ منعش، وابتنى قصراً وجارية، وتربت كفاه حريراً وذهباً ومالاً وبنين وكل رياش الحياة الدنيا والآخرة وزينتها، وأرخى قلوعه سندباداً عرف الجزر والمحيطات وطيور الرخّ والمراكب والمرافئ الأسطوريات،وجميع ما لذّ وطاب. وشرخ تداعياته وأحلامه الجامحة أصوات لاعبي الورق تهدر من بقبقات نراجيلهم.

- يا حمار العب بنت الديناري.. عليك اللعنة.. ألا تستحي يا غشاش؟

- يا حرامي.. أنا أغشّ؟.. أنت الغشاش وابن الداشرة.. زوجتي طالق ثلاثاً إن لاعبتك بعد الآن.

- لا تكذب.. نعم أنت تغشّ.. لماذا لم ترم "الكوبا" سابقاً؟.

- لم ترموا "كوبا" سابقاً

- وتكذب أيها الوضيع.. من يغشّ في الورق فإنه يخون زوجته وأولاده ووطنه.. إن غشّ العرب في "الديناري" هو الذي جعلهم يخسرون حروبهم الطويلة. والمزمنة.

- أيها الدون.. ما علاقتك أنت بالعرب والحروب.. دعهم في مصائبهم ولا تعكّر رغيد عيشهم.. هم سعداء بهزائمهم، فما علاقتك بهم؟

- خلّصنا بلا فلسفة فارغة.. ارم لهذا "الآس"ختيارك الوحيد.. تيس مثلك لا يعرف لا في السياسة ولا في الورق.

وبوحشية هجما على بعضهما.. أيها النتن.. أنا الحمار والقذر لأني ألاعب بغلاً مثلك.. سأكسر دماغك.

وتجمهرّ رواد المقهى.. وارتجفت لحية الماركسي الشيخ رعباً، وتدخّل بأدب، وبسحرية أسطورية أنهى الخلاف بينهما، وسرعان ما عادوا إلى أوراقهم.

- أخذوا الشيطان يا جماعة.. نحن نلعب لننسى مكايد زوجاتنا لا لنتعارك.

- انزل شاب "الديناري" أبو محمد، وأمسح وجهك بالرحمان.. الحلم في لعب الورق سيّد الأخلاق.

- وتساءل أبو محمد: بأية حانة سنمسح وجوهنا الليلة يا جماعة؟.

وقال أبو نشوان: أنا آسف يا جماعة.. سأمسح وجهي بوجه جارتي أم عبد الله.

ولعبوا وصرخوا وتشاجروا، ومسحوا وجوههم بالفراغ والدموع والخيبات الأبدية والشيطان، والمنى التي لن تأتي أبداً، وبوجوه نسائهم ونساء غيرهم،وحشيش مدنهم ومرافئها.وخمورها.

أنهى شايه الأخضر.. غادر المقهى.. كورنيش البحر يستحمّ بمساء قائظ حزين، وبرواد هجروا قيظ منازلهم، فانفلتوا أحصنة وحشية وقطاطاً تموء طالبة حلالاً وحراماً، وملابس وعطوراً وخموراً. وقرر أن يمسح وجهه.. يجب الليلة أن ينسى أحزانه، فالعمر قصير، فغداً أو بعده يهبط موته، ودلف خمارة بحرية شبه مهجورة.. وبوحشية أخذ يكرع.. وكان حيداً.. ثلاث نساء ورجل كانوا يمسحون وجوههم. وأحسّ بالخوف منهم.. ابتسم النادل.. وأكّد له: هؤلاء أرقّ من نسائم الربيع.. إنهم عصافير الجنة المقرّبون.. سيزيدونك أنساً وطمأنينة فلا تخف.

ومسح وجهه.. وهبطت المراكب. بين دمه والمراكب باقة شذا.. تأتي البلاد البعيدة.. تهبط أسراب النوارس، وعلى كأس خمرته تحطّ بانية ممالكها البيضاء.. يعنكب الأهل والأحبة والمدينة الجثّة شباكهم وحبالهم فوق قلبه.. فراشات البلاد الشفيفة التي لم يشاهدها تحوم حوله.. نجمة بعيدة تهبط خافتة.. يتعلق بأهدابها.. تتوهج أحلامه.. تعلو.. تتركه.. نبيذ دمه يشعّ فيطفئ وهجه شهر يونيو البغيض.. هات أيها الساقي.. ملعون من يصحو بعد الآن.. ملعون حرّ الصيف وقرّ الغربة.. ملعون من لا يمسح وجهه.

وأتاه صوت والده حزيناً عميقاً: [إنما الخمر والميسر رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون] ( ) اللهم لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف به يا رحيم يا تواب.

( ) سورة المائدة: آية 90. اليمن/ عدن أحد المقاهي البحرية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى