بانياسيس-الكلمة-قصة قصيرة

شد عمامته لتزداد ثباتا فوق رأسه ونهض والحشد يصفق له ؛ مع ذلك تقدم بخطوات ثابتة ووجه متجهم الى المنصة ثم أمسك بالميكرفون. القى نظرة على الحشد الصغير الذي لم يكن يتجاوز خمسة وعشرين شخصا بأي حال ثم قال:
- يا عبد الدايم...انت أكثر من موظف ومن صديق.. أنت من أحبه كنفسي أو أكثر... هكذا قال لي المرحوم قبل موته بيوم..
دمعت عيناه ففركهما بأصبعين من يده اليسرى.
- لم تشهد إدارة هذه الهيئة رجلا كالصديق المرحوم العبيد صالح العبيد.. بلدياتي حيث ولدنا بذات القرية ..قرية المشالكاب العرضي..هناك كنت أكتب أول قصائدي متغزلا في شجرة نخل عجوز لأنني كنت طفلا لم أبلغ مرحلة اكتشاف الكنز الجمالي الذي خلقه الله متجسدا في الأنثى. فكانت تلك النخلة الباسقة العالية المهيبة أول عشق لي. وهناك لعبت مع العبيد وضحكنا سويا وسبحنا في الترعة ثم انتقلنا للدراسة في نفس الجامعة بنفس الكلية.. وحينما سافرت الى الخليج أرسلت للعبيد ليلحق بي فتكتمل روحي الناقصة بدونه.
تهدج صوته واختنقت انفاسه لكنه تماسك رغم ارتجاف المايك في يده.
- يا عبد الدايم .. بيننا رحلة عمر يا صديقي الحبيب .. حتى (نسيبة) زوجتك هي أخت (مدينة) زوجتي..ألم تتفكر في ذلك من قبل.. كل ما أتمناه أن لا تموت قبلي...
قال ذلك لي وهو يستلم أول مرتب له ويحاول رد ما اعتبره هو دينا في ذمته واعتبرته أنا دينا في رقبتي.
الأخ العزيز..المرحوم العبيد صالح العبيد... لروحك السلام.. فاليها السلام ومنها السلام .. تباركت في السماء .. أنتم السابقون ونحن اللاحقون بإذن واحد أحد...
ثم انفجر في البكاء وانفجرت بعض زميلات العمل في البكاء...انزل المايك وبكى بخشوع كطفل يائس...ثم حاول اعادة رباطة جأشه فاستنشق هواء كثيفا حتى اتسعت عيناه محملقتان في الأفق.
- عملت قبله في هذه الهيئة ثم فلم اهنأ حتى كان جواري فيها.. ولكنه تفوق على الجميع حتى صار مديرا لها..وصرت نائبا له... وفي ذلك اليوم المشؤوم أخبرتني سكرتيرته بجزع بأنها وجدته متكوما على مكتبه .. فهرعت لأراه.. هززته وأنا أصيح:
- العبيد ..مالك؟...
وحين أخبرني طبيب الهيئة بأنه غادرنا أغشي على...لقد غادرت روحي معه...
كيف سأتحمل هذا المكان بدون رائحته... وكيف اتجرأ وأجلس في مقعده .. وكيف للثرى أن يبلغ الثريا... أمرت بغلق مكتبه دون أن يتم حتى تنظيفه...فلعل رائحة العبيد تظل عابقة فيه....واليوم أنا مضطر لدخوله علني أموت فألتقي به هناك عند مليك مقتدر...
صفق الحشد الصغير فأعاد عبد الدايم مسح عينيه المترقرتين بأصابع يده.. ثم عاد الى مقعده وأنظار بعض زميلاته تتابعه بأجفان متورمة من البكاء.
وحين هدأت روحه المضطرمة ؛ وافرنقع الجمع .. دفع بقدميه ودلف الى مكتب توأم روحه...
قال وهو يتشمم الفراغ:
- يااااه يا صديقي.. لا زالت رائحتك هنا...سوف لن افتح النافذة أبدا حتى لا تتبدد ..
القى بجسده على كرسي وثير وأخذ يتذكر تلك الأيام الأخيرة.. أسر له العبيد بأنه بدأ يشعر بتنميل في جسده .. ولكنه لا يرغب في إخافة أولاده.
مد عبد الدايم يده ساهما ونقر بأصابعه على لوحة مفاتيح حاسب آلى سوداء .. فأضاءت الشاشة .. لمح رسالة الكترونية من توأم روحه لم تكتمل ..
(أرسل لإدارتكم هذه الرسالة الألف ولا تعيرونها اهتماما...يا سادة لا استطيع العمل بهذه الطريقة.. أبو الحسن غير مؤهل البتة للعمل عنا.. انه يتعاطى البنقو جهارا نهارا في مكتبه ، ضبطه أكثر من مرة ويده تمتد الى أدراج مكتبي.. واخطاؤه في العمل جسيمة جدا... أكرر إما أنا أو هو في هذه الهيئة.
اتسعت عينا عبد الدايم حين تذكر أن كنيته هي أبو الحسن..
اعاد قراءة الرسالة مرتين ثم فتح صندوق الرسائل المرسلة وكانت قائمة طويلة لا تنتهي من الرسائل ذات عنوان واحد:
سري للغاية-تقرير عن عدم كفاءة أبو الحسن واتجاهه السياسي المناوئ للنظام..
بقى جالسا بوجه مقتضب....يتأمل شاشة الحاسب في صمت.
مرت ساعة .. التفت خلفه ورأى النافذة فنهض وشرع في فتحها ... بدون اكتراث.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى