قصي همرور - حين تتكثف الأحلام

قصي همرور.jpg

إهداء لأميمة، وعشّة، وسلافة

يخرج الصوت من الراديو:

"الرواية في مجملها صيغت بشكل يفتقد للسلاسة. وعند المحصلة، فإن القارئ لا يستطيع أن يخرج بنتيجة أو معنى مفهوم. فيها اختلاط غير واضح المعايير بين ما يمكن أن يكون واقعياً وما لا يدخل إلا عبر باب الخيال. مثلاً، في مشهد النهر الذي يبدو من إحدى ضفتيه هادراً، واسعاً، عميقاً، ومليئاً بالتماسيح الجائعة الشرسة، ومن الضفة الثانية يبدو هادئاً وديعاً، ضحلاً ومسكوناً بالبجع. هذا المشهد، والأحداث التابعة له، غير متناسقة ولا تعطي معنى فنياً واضحاً. خصوصاً بالنسبة لقصة تبدو، بشكل عام، أنها تستقي وحيها من الواقع."

كان يستمع لهذا التعليق في الراديو، في برنامج أدبي نقدي، وهو يجلس على كرسيه دون حراك.

لم يرتده إحساس بالغضب أو الاستياء أو ما شابه، رغم أن الرواية المنتقدة هي روايته هو. وإنما كان تركيزه على المثال الذي ذكره الناقد في الراديو. لماذا يبدو هذا المشهد، مشهد النهر، غريباً وغير مفهوم عند الكثير من الناس، رغم أنه يبدو طبيعيا بالنسبة له؟

(عندما استطاع عبور النهر، ولا يدري كيف فعل، وجد أن منظر النهر كله قد تغير. أصبح النهر وديعاً، هادئاً، ضحلاً، ومسكوناً بالبجع. ويقطع النهر حديقة عامة في منتصف المدينة، يأتيها الكثير من الناس للترويح والاستجمام في مناخها الوارف. وعندها، ودون مقدمات، التقى تلك الفتاة، وافترعا الحديث مع بعضهما، وهما يسيران على ضفة النهر. هكذا دون مقدمات. ولم ينقض الكثير من الوقت، منذ ذلك اليوم، حتى أصبحت الفتاة عضواً صديقاً فاعلاً في حياته اليومية، وأصبحت صديقة مقربة لعمتيه. أصبحت صديقة لعائلته الصغيرة، وكأنها جزء لا يتجزأ منها.)

هذا هو النص من الرواية الذي سمع حوله ذلك النقد اللاذع. وهو لا يزال يرى أنه نص واقعي ومتسق. وهذا الموقف بالذات، لم يتعب كثيرا في استخراجه، فهو يعتمد على ذكريات واقعية من حياته. لدرجة أن الشخصيات فيه شخصيات واقعية في حياته. سديم صديقة عزيزة له ولعمتيه عَنان وأماسي. وهو يذكر جيداً أن أول لقاء له بها كان في الحديقة العامة، على ضفة النهر. ويذكر أنها، منذ ذلك اليوم، أصبحت من أعز أصدقائه، وأصبحت فيما بعد، بفترة قصيرة جداً، صديقة لعمتيه أيضاً.

لم لا أسأل سديم عن رأيها في هذا النص؟ أنا لم أسألها من قبل عن رأيها.

لماذا لم أفكر أن أسألها قبل اليوم عن رأيها في الرواية؟ غريب!

على العموم. لم يمض كثير من الوقت قبل أن ينسى، مجدداً، أن يسأل سديم.

......................

وبينما هو يمشي في الحديقة العامة، التقاه شخص، وسلم عليه بحرارة، وأعلن له أن قد قرأ روايته. فقط لديه سؤال عن نقطة معينة في القصة. رحب بسؤاله، فقال له: "لماذا اختزلت عائلته في الرواية إلى عمتين فقط؟ ما هو الإيحاء المقصود من أن لا يظهر في القصة من عائلته سوى عمتيه؟ أين أمه وأباه وأخوته، على سبيل المثال؟".

لم يكن يملك رداً على ذلك السؤال. أكثر من ذلك، فقد جعله السؤال نفسه في حيرة من أمره. لماذا لم يذكر سوى عمتيه؟

استيقظ فجأة من نومه. لقد كان يحلم. غير أن الحلم لم يتركه بعد اليقظة.

أخذ يسأل نفسه: فعلاً! أين أمي وأبي؟ لم أسمع منهما منذ مدة طويلة. أكاد لا أذكر ملامحهما. أعاد التفكير قليلا، ليكتشف أمراً مذهلاً، لم يكن قد ركز فيه من قبل. أنه منذ فترة طويلة جداً ليس له أي اتصال بأي فرد من أفراد عائلته غير عمتيه عَنان وأماسي! لدرجة غابت، أو كادت تغيب معها ملامح بقية عائلته من الذاكرة.

"يا لهذا الحلم!" وجد نفسه يحادث نفسه. (هذا أمر يستحق النظر. سأحكي لـ عَنان عن هذا الحلم الغريب اليوم. علها تشاركني التعجب، أو تفيدني بشيء ما.

على العموم. لم يمض كثير من الوقت قبل أن ينسى، مجددا، أن يحكي لـ عَنان.

......................

عَنان تمتاز بشخصية حنونة لحد الإفراط، ويظهر ذلك الحنان في عينيها. كثيرة الخوف والقلق من التفاصيل. تشبه الأطفال في براءتها وبساطتها. تتوجس كثيراً من أن يخرج منها حديث قد يؤذي أحداً، ولهذا تحرص على المجاملة والابتسام مع الناس بشكل روتيني في حياتها اليومية. تحب أن تسير الأمور كما هو مرتب لها، وليست قوية المنعة في وجوه المفاجآت، المفرحة والمحزنة على حد سواء. تستقبل الأولى بالدموع وصيحات الفرح، والثانية بالدموع وصيحات الفجيعة.

أماسي تختلف في شخصيتها كثيرا عن عَنان. مليئة بالحيوية، ولا تهاب خوض التفاصيل. تحب الوضوح والصراحة، ولا تعرف المجاملة. حية الضمير، قوية الموقف، ولا تخلو من الحنان وحس الفكاهة. خصوصا بالنسبة لابن أخيها!

سديم، باختصار، هي الحلقة المفقودة بين عَنان وأماسي. وليس من عجب أن صارت صديقتهما معاً، بنفس الحميمية.

......................

في الأيام البضع الماضية، أصبح الأمر لا يطاق. تتابعت على مضجعه الأحلام الغريبة، والتي يستيقظ منها مكتنزاً بالأسئلة. أصبح يعيش في غيمة من الأسئلة المتداخلة والمتشعبة والتي لا يملك لأحدها إجابة شافية.

أصبح يعيش حالة من السريالية. لا يدري موقعه من الحلم أو الواقع. كثيراً ما يتساءل داخل أحلامه إن كانت حلماً أم حقيقة. وحين يستيقظ يتساءل بنفس المنوال. أصبح الخيط الفاصل بين الحلم والواقع عنده رهيفاً جداً، وقد استعصى عليه تمييزه.

......................

أصبح يحاول البحث، داخل الأحلام وخارجها، عمّا قد يسد رمق تلك الأسئلة المتناثرة.

......................

في يوم من الأيام، عاد إلى جرائد قديمة لزمن غابر. عله يجد فيها شيئاً من الإشارة لماضيه، بعد أن أخفقت كل محاولاته في استشارة عَنان وأماسي وسديم. شيء ما كان يمنعه من مصارحتهن بما يحتوش خواطره تلك الأيام. رغم أنه حاول بعض الإيحاء مع عَنان وسديم، إلا أن محاولاته لم تجد منهما ردة الفعل التي تشجعه على المزيد من البوح. لم يجرب أماسي لاعتقاده أن مثل هذه القضايا لا تدخل في دائرة اختصاصها. يمكن أن يلجأ لها، أي أماسي، في مشاكل الإجراءات الحياتية اليومية، ولكن ليس في مجال الخواطر والأحلام.

في عودته لتلك الجرائد، وجد بين السطور خبراً عجيباً.

عن حادث مروري. الحادث، ببشاعته، يروي تفاصيلاً أليفة لذاكرته. كان حادثاً كبيراً في شارع عام، اشتركت فيه الكثير من العربات. إحدى تلك العربات مات جميع من بها، إلا الإبن الأكبر. كانت الأسرة بأكملها في العربة، ولم يخرج منها غير الإبن الأكبر بأعجوبة، فاقداً للوعي ومصاباً بجراح خطيرة. نقل للمشفى، حيث تم إخضاعه هنالك للعناية الفائقة.

رغم أن الجريدة لم تذكر غير هذه التفاصيل (لا أسماء ولا خلافه)، إلا أن الألفة مع هذا الخبر بدأت تخنقه. وجلس يتأمل بغزارة في هذا الخبر. حاول أن يجد مزيد معلومات من جرائد أخرى عن هذا الحادث، ولعله، أيضاً، يجد صوراً أو ما شابه. لكنه لم يجد غير ما هو أمامه، ولم يعد يدري من أين يمكن أن يأتي بالمزيد من المعلومات. لم يعد يخمن ما الخطوة المقبلة.



وفي قمة الانشغال والحيرة. استيقظ فجأة!

استمراراً لسلسلة الأحلام الغريبة.

......................

(في حادث، في أواخر العام 2000، لم يخرج سواه حيّا من ذلك الحادث. وعندما خرج من غيبوبته، أصابه الخبر بأزمة نفسية حادة. أصبح فيها قريبا للجنون، غير أنه لم يفقد عقله بعد.

بدأت طبيبة نفسية في متابعة حالته عن قرب. وأصبحت من أقرب الناس له، لطبيعة تواجدها المستمر معه. وعن طريق تواجدها هذا، أصبحت قريبة أيضا لمن بقي حوله من عائلته. عمتيه!

وبعد بضعة أشهر، أو يزيد قليلاً، وهو على تلك الحال، مر بعاصفة نفسية قوية. خرج منها بفقدان جزئي للذاكرة. ربما قرر، في عقله الباطن، أن يمحو ذكرى أسرته تماماً من تاريخه، ويمحو معها ذكرى ذلك الحادث الأليم، ويبقي على ما بقي من الذاكرة!

حالة غريبة جداً، ونادرة جداً. غير أنها أفلحت في تخديره بصورة غريبة! أصبح يمارس نشاطاته الحياتية وكأن شيئاً لم يكن. ولم يعد ينظر في ماضيه فقرة منقوصة. كانت إحدى آثار ذلك الفقد في الذاكرة أن نسي الطبيبة النفسية، والتي كان لا بد لها، على أية حال، أن تبقى متواجدة في حياته، لاستمرار متابعته. بناءاً على ذلك، فقد عادت مرة أخرى إلى حياته كصديقة مقربة، تعرف عليها بسرعة، ووجد أن عمتيه أحبتاها بسرعة أيضا. لا يذكر تماماً أين التقاها أول مرة. لعل ذلك كان في الحديقة العامة. عند ضفة النهر. لا يذكر تماما).

استيقظ هذه المرة بعينان مفتوحتان إلى أقصى ما يمكن.

لا يدري من أين أتى ذلك السرد، ولا من أين أتت تلك الصور المصاحبة له. غير أنه، وللمرة الأولى منذ بضعة أيام، لم يكن حلما محملا بالأسئلة والاستفهامات.

......................

"لعل هذا هو التفسير الوحيد لما يجري لي هذه الأيام". حادث نفسه، وهو يجلس محتسيا كوب قهوته الصباحية، في مقهاه المفضل، في منتصف المدينة. حيث يفصل بينه وبين الحديقة العامة شارع عام واحد.

"صحيح أني لم أنس أمي وأبي تماماً، كما هو في الحلم، فما زالت عندي صورة لهما في ذهني، تحوي بعض الملامح. وليس عندي أخوة. ولكن هناك رباط غريب لا يمكن تجاهله". وهو يواصل الحديث مع نفسه. "ولو صح هذا الأمر، فربما قد كان لي فعلا أخوة! غير أني ربما مسحتهم تماماً من الذاكرة، بعكس أبواي. ربما". رغم أن الموضوع أحيانا يبدو له مجرد موضوع للثرثرة الداخلية وإذكاء الخواطر، مما يخجله من مصارحة الناس حوله به، إلا أن هذه التفاصيل قد صارت تتراكم وتحتدم في الفترة الأخيرة بصورة غير طبيعية لما هو متعارف عن عالم الأحلام. حاول جاهداً أن لا يدع هذه الخواطر تؤثر على مساره اليومي، ورغم أنه قد أفلح إلى الآن، غير أن الأمر قد أصبح يزداد صعوبة عليه يوماً بعد يوم.

......................

في الثلاثة أيام الماضية، أصبح شارد الذهن بصورة لا تحتمل، وكثير الصمت والعزلة.

كانت الخواطر لا تكاد تتركه للحظة.

قررت أماسي إخراجه من هذه الحالة الغريبة التي هو فيها، ولا تدري ما كنهها، فقامت بتحضير رحلة عائلية نهارية إلى الحديقة العامة، بمشاركة عَنان وسديم. وقد كان.

أثناء تواجدهم في الحديقة، كانوا يتمشون سوية، بمحاذاة النهر، ولكن بعيداً عن ضفته. تحت الأشجار اتقاء الشمس. كان يشاركهن الحديث لبضع دقائق، ومن ثم يعود إلى شروده لدقائق أخرى، وهو ما يزال يمشي معهن.

كن يتحدثن، في أمور خاصة وعامة، ويضحكن تارة، ويتحولن إلى النبرة الجادة تارة أخرى. حديث استئناس عادي. كان يشاركهن في ذلك كله لبعض الوقت، ومن ثم يعود لشروده.

تقدمهن قليلاً في السير. حتى توقفن تحت ظل شجرة، وواصلن الحديث، فتوقف هو أيضاً على بعد خطوات منهن. خرج قليلاً عن المظلة الشجرية نحو ضفة النهر، وأخذ ينظر للنهر في صمت.

كان يرمقهن بنظرة بين الفينة والأخرى، فيراهن ما زلن على نفس هيئتهن في الحديث والاستئناس. يكدن لا يلتفتن له. لكنه كان يحس خفية أنهن يراقبنه، ويتظاهرن بعدم المبالاة لشروده، لأمر ما.

"عليّ أن أتأكد أولا أن هذا ليس حلما آخر". قالها لنفسه، وقد أصبح يحس بأنه لا يمكن أن يصمت أكثر من هذا. هو لا يدري ماذا ستكون ردة فعلهن، ولا يستطيع توقعها، ولكنه إن لم يصرح فإن دواخله ستدوي.

سديم. ناداها. بصوت عال.

التفتن جميعاً له. صمت برهة، ثم قال، موجهاً الحديث لها "أريد أن أسألك سؤالاً. وأريد عليه إجابة واضحة، إما نعم أو لا".

كانت سديم تقف في المنتصف بين عَنان إلى يمينها وأماسي إلى يسارها. وكانت تقف الآن مواجهة له تماما، على بعد خطوات. ساد صمت بينهن الثلاثة، تبادلن فيه نظرات سريعة، ومن ثم توجه نظرهن إليه. كل واحدة منهن كانت ملامحها تحمل انطباعا مختلفا عن الأخرى.

أجابت أخيرا "طيب. أسأل".

لم ينتظر كثيراً. "هل تقابلنا، أنا وأنت، قبل عام 2002؟". سؤال خال من التعقيد.

في تلك اللحظة حصلت ارتباكة واضحة بينهن الثلاث. أماسي ظهرت في وجهها ابتسامة غريبة، فيها شيء من الحماس، وكأنها فرحت بذلك السؤال. سديم صمتت لبعض الوقت، دون تعبير معين على وجهها، رغم شيء من مسحة الحيرة. لم تتركها عَنان كثيراً في حيرتها، حيث جذبت يدها لتلفتها لها، ومن ثم قالت لها، بصوت يظهر منه أنها تحاول إخفائه عنه، ولكن دون استطاعة "السؤال ليس واضحا بعد. هو لم يذكر متى بالضبط قبل 2002". هنا نظرت لها أماسي بشيء من اللوم، كأنها تريد منها أن تترك سديم لتجيب على السؤال بنفسها.

عند نظرته لذلك الارتباك، قرر أن يصعد بسؤاله إلى مرحلة أكبر، حيث أن ما رآه منهن عزز ثقته في خواطره. حينها أصدر سؤالا جديدا "حسنا. هل تقابلنا قبل 2001؟".

في تلك اللحظة صمتت عَنان، ووضعت يدها على فمها، وأظهرت عيناها علامات الذهول. أما أماسي فقد اتسعت ابتسامتها، وتوهجت عيناها. حينها بدت السكينة على وجه سديم، وبدت واثقة هذه المرة، ولم تنتظر كثيراً. قالت بهدوء، وبتركيز نظرها عليه "نعم".

حينها انتقل الارتباك له هو. أصبح في لحظة واحدة يريد أن يقول الكثير من الكلام. أحس أن غشاوة كبيرة قد انجلت عن عينيه في لحظة واحدة، وأصبحت هناك الكثير من الأمور التي عليه مواجهتها في هذه اللحظة، وهو لا يكاد يعرف إن كان مستعداً لمواجهتها أم لا.

بدت الدموع تنساب من عينيه، ولم يعد يستطيع النظر إلى إحداهن، وتاهت عيناه في الأفق، تنظر تارة للأعلى، يميناً وشمالاً، وتارةً للأسفل، حتى استقرتا على اليمين العلوي، على سحابة كبيرة في كبد السماء، على بعد.

وقبل أن يقول ما أراد أن يقول، أحس بثقل عظيم على كتفيه، وازدادت دموعه انهماراً. خرجت من فمه الكلمات دون أن يعي بها "أين كنت أنا. أين كنت أنا؟". كررها وهو يشعر بنفسه يهوي إلى الأرض، دون حول له أو قوة. وشاهد، بين دموعه، طيفهن يركضن نحوه، ليقلنه من عثرته.

استيقظ. تماماً عند هذا المشهد. عند هذه اللحظة.

منذ ذلك اليوم، لم يعد يتساءل كثيراً عن الخط الفاصل بين أحلامه وواقعه.

وأصبح يتوقع، بين اللحظة والأخرى، أن يفيق من هذا الحلم أيضا.



مارس 2006

* sudan4all

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى