محمد حيدار - دموع النغـم.. تتمة الفصل الاول

اختتم القايد حديثه الشديد اللهجة بقوله:

" أرى أن يجمع الدوار مجددا أربعين كبشا تُقدم الى المستاتور بعد انصرافه".

وما كان من الشيخ المكي إلا أن صاح حانقا وكأن كلمة القايد أفقدته توازنه:

" هذا لا يُطاق صدقوني لا يُطاق فعلا!"

احتجاجه لم يفاجئ القايد، إذ ان للشيخ سابقات أشنع أحيط بها المستاتور على جناح السرعة، ما يثير القايد فعلا في الشيخ المكي انه يسجل اعتراضاته بثقة في النفس أكيدة كسيناتور أمريكي منشق.

واستطرد الشيخ المكي وقد حز في نفسه ما وصل اليه الأمر:

" أيها القايد لعلمك ان كباش الضيافة التي تشوى الآن، لا تزال دينا في ذمة نسبة كبيرة من خيم الدوار"

وانتهره القايد في قسوة:

" نحن هنا لا نتناقش بل نتخذ إجراءات وقائية لصالح الدوار"

وواصل الشيخ المكي وكأن القايد لم يقاطعه وهو يشير بيديه في شديد انفعال:

" ثم ماذا حدث؟ آلأن بوسنة استرجع أنفاسه هنيهة تحيق بالدوار كل هذه الغرامة؟!"

كان الشيخ بوخلوة مطمئنا الى هذه الحدة التي تطبع لهجة القايد فهي على أهون حال ليست شيئا مستهجنا، إذ ماذا ينتظر من دوار تنازل بقيادته لواحد مثل بوغريبة؟! ماذا ينتظر منه ؟!!

آب القايد الى خيمة الضيافة وتحرك في أثره بقية الشيوخ، وتحت ضغط الاهتياج التفت الشيخ بوخلوة نحو الشيخ المكي وهو يهدر دون أن يحدد هوية الشخص الذي يسير الى جانبه:

" ماذا ينتظر من دوار أسلم زمامه راعيا"

وتثاقلت خطى السيناتور وهو يرمق شيخ الدوار بنظرات ثابتة كلها عجب:

" ماذا تعني؟"

" لكأنك أعمى؟! ألم يشدك مشهد بوغريبة الى جانب المستاتور قبل حين يتفحصان معضلات الدوار؟!"

وزفر الشيخ المكي في تذمر:

" وهو كل ما يقلقك؟ ثم أجاد أنت فعلا في قلقك هذا؟"

وأردف الشيخ المكي في زفرة متناهية القوة:

" لو صارت قيادة الدوار بيد بوغريبة لكان قد قال كلمة على الأقل في المصاب الذي ألمّ بنا"

وقد خاله يهزأ به:

" أتراه أهلا لها مني؟ من الشيخ بوخلوة؟"

وقهقه في تعب:

" ومن استفتاني يا شيخ بوخلوة أو استفتى غيري؟ دع هذه الصغائر جانبا بالله عليك دع الناس تنح مصابها"

ولجا الخيمة الكبرى، كلاهما يستشف المسألة من منظاره الخاص فبقدر ما هي لدى الشيخ المكي مبعث سخرية وتندر، تزداد في نظر الشيخ بوخلوة أهمية، الى أن احتلت خريطة خلده؛ أينمحي مشهد على جانب من الاستهانة كذاك الذي جمع المتصرف ببوغريبة في صدر خيمة الضيافة؟!

أمام هذا الظرف الذي أضفته الأحداث على زيارة المستاتور، سمح الشيخ معلى لنفسه بإصدار مجموعة من الأوامر الى قادة الفرق الفنية من فروسية وزرنة ورقص، فاستعادت ساحة الدوار حركيتها وأنغامها، الهجير يستقبل طلقات البارود الجماعية وقد اخترقت عنان السماء.

وقدّم بوغريبة من الرقص ضروبا لم تسعفه الفترة الصباحية على تقديمها، وأبدع الشيخ بوسنة في ألحانه سيما وأنه أجبر تحت تكاثر الطلب واشتداده على عزف لحن " كي طال الحال" أكثر من مرة، وهو لحن فروسي تعوّد جواد علال بن التارقي أن يهز أطرافه بشكل عجيب تمشيا مع تقاطعه الأخّاذ.

وما أن التحقت الخيول بخط الوصول لاهثة ودوت البنادق في صخب، حتى أوقفت هذه الأنشطة بإشارة من القايد، الجموع الغفيرة تغادر الخيمة الكبرى لتشكل حشدا دائريا بخارجها على العراء، يتوسطه القايد والباشاغا والمستاتور وزوجه والضابط، ساد الميدان سكون وتقدم القايد بخطو مسموع مخاطبا الجمع:

" يا رجال الدوار لقد أبى السيد المستاتور تشريفا لدواركم، الا أن يخاطبكم وسيكون لي شرف إيصال ارشاداته اليكم "

تقدم المتصرف دون أن يكلفه الموقف إسقاط نصف سيجارتــه وهي تذوب بين سبابته ووسطاه:

" أيها السادة أعلن أن موقفكم من زيارتنا، قد كان قميئا بمحو آثار الخطأ الذي ارتكبه دواركم عن غير عمد، في انتخابات الجمعية التأسيسية"

وامتص نفسا من سيجارته واستطرد وهو يطوف بعينيه الزرقوين عبر الوجوه المعفّرة:

" هذا الخطأ الذي ساقكم اليه مشوش قد لقي جزاءه على الفور"

اندفع الشيخ بوخلوة مصفقا قبل أن يدرك كلام المستاتور بواسطة لسان القايد، فتبعه آخرون بالصفوف الخلفية، وواصل المتصرف:

" واعترافا منا بصنيع دواركم سوف نفكر في تعيين كوراط منكم"

وتبعا لإشارة القايد اكتسحت الساحة موجة من التصفيقات الحادة أذابتها طلقات بارود بادرت بها فرقة علال بن التارقي.

منذ أن غادر الضيوف الخيمة؛ أضاع يعقوب عينيه في جدائل الشقراء، وأقر في دخيلته أن القول بواحدية جمال حليمة أصبح بعد الآن قابلا للمراجعة.

الرتل يتوارى والجموع تتفرق، الشيخ بوخلوة يشكو توعكا ألم به ما لبث أن الزمه الفراش، الشيخ معلى يضطر الى البقاء بجانبه، كلاهما انخرط في سهوم مريب.

" تصور لو لم يقدم الدوار على الأخذ برأي موسطاش، لكانت قضية الكوراط قد وجدت طريقها الى التسوية مذ سنوات"

" يتضح من كلام المستاتور انها تطرح نفسها بإصرار"

" ولكن! "

" ولكن ماذا؟"

اعتدل في جلسته رغم الإغماء الذي يلف عينيه بين الحين والحين:

" إنني لأخشى أن تُسند المهمة الى بوغريبة اللعين؟"

وقال الشيخ معلى:

" أو يخطر مثل هذا على بالك حقا؟!"

" لكأنك لم تلحظ المستاتور وهو يحادثه، أه اللعين يحسن اللغة الفرنسية وأخشى أن تصبح شفيعا له في المنصب"

وقال الشيخ معلى جادا:

" وهداياك ما مآلها؟"

" إني أفكر في عزله من الشغل، لقد أسقط عن نفسه صفة الراعي وصار منافسا"

" إجراء يمكن اللجوء اليه عند الحاجة، كان عليك أن تمنعه حضور الحفل كما فعلت أنا بالرومي".

لم ينفرد الشيخ بوخلوة بالاهتمام الذي أولاه المتصرف المدني لبوغريبة، فالأمر يطرح سؤالا كبيرا لدى سي محمد والناصر والشيخ المكي ورجالات المصلى العام، وإذا كان هناك من لا يحمّله ما يتجاوز حجمه، فانه قد ألقى على حقيقة بوغريبة من الإبهام ما زادها استعصاء عن الفهم.

إن المشهد خرج عن دائرة المداعبة التي من المحتمل أن تدور بين مستاتور أو قايد وراع، وإذا كان في الكلام الذي دار بينهما بواسطة القايد ما لا يثير أي لون من الاستفهام، فكيف يمكن تفسير خلوة المستاتور ببوغريبة قبل امتطاء السيارة؟!

" ظني انهم أرسلوا به من وراء البحر عينا على تحركات الدواوير؟"

" إنه عديم الصلة بهم، أسفاره الى المدينة تقتصر على زيارة

الرابلة "(6)

هذا السيلان المنهمر من الخواطر والتساؤلات لاقى في منسوجات القيل النسائي ما يدعم الجوانب المثيرة فيه، ويدفع به الى أن يعمّ أرجاء الدوار، فيبلغ أسماع الرومي ويعقوب اللذين ما كان منهماــ استزادة في استفزاز الشيوخ ــ الا أن لقبا بوغريبة بالكوراط علانية:

" أهلا بالكوراط"

" كيف حال الدوار يا الكوراط؟"

" ألم تشرع بعد في جمع الغرامات وتوقيع الضرائب؟"

" لابد لك من حصان إذن"

" وبرنوس من وبر وعمامة ذات خيوط حريرية وسياط للتأديب "

تصدّر أمر بوغريبة شاشة الأحداث في دواره، الارتياب

يزيل بريق الزيارة، الآمال تتبخر والأحاديث تعلك الاحتمال، والغريب أن بوغريبة لم يواجه الإشاعة بما يدحض مفعولها كان فقط يبتسم تشجيعا لمردديها، حتى سخريات الرومي ويعقوب يجيب عنها باقتضاب مبالغ فيه:

" الغرامات لا تعنيكما على كل حال"

" لسوف تعرف المنطقة أول كوراط لا يولي مظهره كبير اهتمام"

وسرعان ما تبارت الأذهان في استغوار نقاط القوة التي يتوفر عليها بوغريبة، لا شك أن له حبالا قد أوصلته الى مراده بعد أن استغلها أيما استغلال، إنها فكرة جاءت بها حليمة فأعطت الحدث أقصى أطوار توهجه.

" ثقي أن الرابلة هي السبب"

وزمت زينب شفتيها استهانة بما تسمع:

" وما دخل عاهرة فيما يحدث؟!"

" قد تكون على صلة بالقايد أو بالباشاغا أو أو، إنهم جميعا كذباب الدمن"،

وتسرب الحوار بحكم العنصر الجديد الذي ينطوي عليه، فقرر الشيخ بوخلوة إعلان الحرب بصورة مكشوفة، إذ ماذا يعني السكوت غير الهزيمة؟ وحدّت الوعكة نوعا ما من نشاطه فأوكل أمر النفير الى الشيخ معلى.

أبرقت عيناه المحمرّتان:

" ما رأيك في تقديم هدية فاخرة الى الباشاغا رأسا؟"

وأجاب الشيخ معلى في مبالغة غير معهودة فيه:

" إنه أثقل وزنا من هذا القايد المتلاعب "

وزفر مهتاجا:

" خيفتي ان يتسرب أمر مسخرتنا مع بوغريبة الى دوار الشيخ الفُضيل!؟"

وقال الشيخ معلى صادقا:

" سيثبت القايد يوما اننا أكثر ولاء له من غيرنا "

في هذه الأثناء وفد على خيمة الشيخ بوخلوة سي محمد والناصر والشيخ المكي وفريق من تلامذة المصلى العام يطمئنون على صحته.

وأعطى الشيخ مبارك نفسه حق تهيئة الشاي؛ والشاي مادة قالت بندرتها أعوام القحط المتجهمة.

إن كبريات الخيم الشهيرة بادخار أرفع أنواع الشاي على الإطلاق، لا تحتوي صناديقها اليوم الا على فتات من الشاي الدقيق، ويجتذب الشيخ مبارك تنهيدة من أعماقه ويقول:

" مذ أن تعطلت القوافل صار هذا أشهى مشروباتنا "

وترنم وهو يعتدل خلف الصينية:


لاتــــــــــاي فيه مرارة مسقي من النصــــــــــارى


لــو كان غاب السكر امرارة الحدج فيه(7)


كان بعض من زار العرّاف عجينة في هذه الأثناء، قد أذهله ما يصنع، إذ أقبل على ما بين يديه من رمل يضعه في كيس صوفي ويقول:

" هو زاد الرحيل هو زاد الرحيل"

" أي رحيل ؟!"

" الرحيل الى حيث البركان"

وعلق الذي سمعه:

" المعتوه !!"

ومع المغيب الموالي عاد الكوراط على سابق هيئته يحمل نبأ ما.



دموع النغم.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى