محمد حيدار - " دموع النغم".. الفصل الثاني من رواية

تجليات ليل المسير:

لم يكن دوار بوغريبة وحده يخب السير تلقاء القرية تحت حوافر خيل (الحركى) وعجيجهم المتعالي كما توقع جمال، بل إن تخوم القرية كلها تزدرد المواكب الوافدة في هرع لا يخلو من عنف.

وحين كان الراجلون ينفجرون سبابا مكبوتا في وجه هذا الحركي او ذاك، ممن يروقهم رفس الأمتعة البشرية المتحركة بحوافر الخيل، كان بوخلوة ينتهرهم تحليا بروح الانضباط التي عُرف بها، فما يهمه هو فقط أن يصل الموكب في حينه المقرر.

فحسبه انه خص نهارا كاملا لإعداد هذه الرحلة، حيث أعرب الدوار عن تضامن قل بين أفراده، لم يُنعت به من قبل بل وحتى أيام موسطاش.

ولقد بلغ هذا التآزر حدا جعل الواشمة تحصل على بغلين لنقل أمتعتها، التي كان في الواقع يكفي لحملها جهد جحش كما علق الشيخ معلى.

القرية، كعهدهم بها غافية تتمطط ديارها الشديدة الإدغام، وقد حاصرت عنق أكمة معزولة لتعطيها شكل هرم متعدد الأبواب؛ تعلوه قلعة من طراز هندسي مغاير، هي قلعة ضابط شؤون الأهالي التي تمسك بكفيها الخلفيتين جدران الثكنة العسكرية.

هذه القرية المقذوف بها كلسان بين فكي مضيق، لا تقاوم لفحات الحر المتأجج الا بخضرة الوادي الوارف النخيل، رغم ما تفرزه بركه المعرشة من أسراب البرغوث والناموس والذباب، وأكثر الحشرات تحملا للزحف والطيران بعد المغيب.

وبأسفل الأكمة الصومعية، تنبسط أرضية صلصالية بيضاء غالبا ما مثلت بيادر لدرس محاصيل الحبوب أعوام الغلة؛ وأين نحن من أعوام الغلة؟!

بمحاذاة البيدر تصطف أبنية طوبية قابلة للانهيار في أية لحظة، إنها قوام الرواق التجاري / الخدماتي للقرية، فهذا الوصيد القصير النخلي الخشبات، إنما يقوم مقام المعمل الصناعي رغم بساطة عدته، إنه مقر الحداد " صالح "، ذلك الحرفي الذي لولاه لفقدت الأحصنة نعالها، والمجارف بعض صلاحياتها، والأباريق والقدر والبنادق، وكل ما هو حديدي فعاليته، إنه وحده المخول للاستزادة في عمر الأدوات الحديدية وإلا تقاعدت قبل الأوان.

و"صالح" انتسب الى مهنة الحدادة مجبرا، لأنها آخر المهن تشريفا لصاحبها في قواعد القرية والدواوير من حولها، فرغم حاجة الجميع الى السنديان والمطرقة، لا يعدو كونه (نياطيا) وهي معرة ما وراءها معرة.

ولكم كان المتجران المحاذيان لحدادته، يبدوان أنيقين بالقياس اليها، إذ تقتصر مبيعاتهما على ما يتصل بالعمل المطبخي من كبريت وزيوت وبُن وشموع و و.

أما خياط القرية فلايزال يحتفظ بتجهمه الغريزي، أمام كل زبون بعد أن قتل الاقتراض في نفسه طموح المهنة، وهو المحترف الذي تستند أعماله الى عقود من الخبرة المشهود بها في المدينة.

هكذا كان يصارح بعض أصفيائه من الزبائن في ضيق، جازما انه لو غادر القرية لاضطرت الى دفن موتاها بدون أكفان.





أضرحة الأولياء الناصعة الطلاء وحدها تعتزل الأكمة القروية ،وكأنها في نظر الجميع تسهر على أمن القرية، وتدرأ عنها أخطارا محتملة.

القرويون من أعالي أبنيتهم المعفرة، البالغة الالتواء يتطلعون في انشداه؛ سيل بشري متعدد الفوهات يغمر القرية، إبل، أحمرة، بغال كلاب، خيول، ومشاة، الكل يئن بحمولاته، وانبرى الصبية في ابتهاج يلوحون بأيديهم ويتصايحون في جذل:

" إنها الوعدة! إنها الوعدة "(8)

" الوعــدة ؟!"

" أنظر الى الخيول سيطلقون النار أنظر"

وفي تقطب:

" ولكن كان على بوسنة أن يزرنن؟!"

فعلا لقد ألفت الخيم أن تُضرب على امتداد باحة البيادر، فما بالها تتجاهل مواقعها؟ ومن تقاليد الخيل أن تتفاءل بالمشوار الأول فور بلوغها ثنية الوادي، فكيف بها ترتل خلف الجمال في حياد؟

" ليست الوعدة إذن"

" وما هي إذن؟"

أجل ليست بالوعدة كما لحظ الطفل القروي، فعملية الإنزال يشرف عليها الجيش الذي يبدو أن الحركَى أوسع دورا منه فيها، إنهم كما لو لم يكونوا جديدي عهد بالتجنيد.

وحين قذف أحد الحركَى بكيس الدقيق الذي كانت الواشمة تحاول زحزحته من مكانه حانقا:

" اغربي أيتها الـــــ "

همس الشيخ المكي الى سي محمد وهما ينزلان الامتعة:

" إنهم يخافون علينا من قطاع الطرق!!"

فابتسم على مضض دون أن يجيب.

ضُربت الخيام طوابير واحدة تلو الأخرى، يتضمن كل طابور حوالي عشرين خيمة مرقمة بالطلاء الأبيض، فغدت القريـــــة بطوابير خيمها تبدو ضيعة تتحلق بها دروب من أشجار الكروم.

ولأن للبادية وجهتها في الحركية، استحالت الخيم مع الزمن مقبرة عديمة الدبيب تلفها الرتابة القاتلة، إذ ماذا يصنع رجالات الدوار ونساؤه في رقعة حرجة من الأرض كهذه؟!الأفق بدوره لا يبدل بزيه آخر، كل شيء تدمغه هدنة مفتوحة الأجل، إلا مقبرة القرية بعيدا من ضفة الوادي وحدها لا تؤجل مواعدها كدقات ساعة.

الكل يبكي دون أن يسجل الدوار قتيلا بعد، منذ أن وفد على القرية، فالبكاء ليس بتابع للموت فقط، والموت ليس انتسابا الى المقبرة فحسب؛ الهلالية بعثر الرحيل آمالها في الزواج من ولد بوتفاحة، والواشمة يشتد وجيبها خوفا على العناز المتخلفة في حمى يعقوب، وزينب والزانة ليستا بأقل تجلد وقدور قد غادر الى الجبل، وسي محمد يكظم لوعة، والشيخ المكي يجس شهامته السهوبية أمام معاكسات الحركي الشاب لوحيدته حليمة جهارا، والشيخ مبارك اضطر تحت الواقع الجديد الى إهمال جواده الذي شكل عنوان شخصيته الى عهد قريب.

والشيخان بوخلوة ومعلى يتوجسان من عودة القطعان الى الدوار، وهو أمر لا يستبعد أمام تلميحات ضابط شؤون الأهالي، وعطاء الله لا يطمئن كثيرا الى صفة النصف مدني التي يزاولها.

أشهر فقط تفصل المحتشد عن مضاربه السهوبية، وقد اقتيد مخلفا إياها تحت وصاية القطعان ورعاتها، ولكم استعصت فكرة إبقاء القطعان بمراعيها عن فهم ضابط شؤون الأهالي، قبل أن ينزل عند رغبة المشايخ مستحسنا كتمان قابليتها للتهذيب، في ضوء مستجدات سياسته نحو عالم السهب.

فالبدو يتشبثون بطرح قضية أغنامهم ذريعة للاحتفاظ بميزة الترحال، وخليق بإصرار مبرر كهذا أن يخضع الامر الى تدرج زمني شبه بطيء، يتوانى في طواعية ما لم تحدث هناك مفاجآت.

وجهلا بكل هذه الثوابت في منهجية " الصاص" (9) استمر بوغريبة ويعقوب والرومي يمرحون خلف القطعان، على غير كبير اكتراث برحيل الدوار وقد تطوبر، ليشكل أحد أضلاع المحتشد القروي المستطيل الشكل.

وفي مثل هذا الوقت من كل أمسية، يعودون الى حيث كان الدوار مقيما على أيام طلاقته، وقد أقفرت مضاربه فأضحت مجرد حظائر ومخلفات عديمة النفع من القش ومتقاعدات الأواني.

يعقوب ينهمك في عجن خبز سيفئده، والرومي يضرم نارا في أعواد رتم ذاوية، وبوغريبة يلاحق حلوب العنز بإناء سعفوي مشروخ المقبض.

وفور تناول الخبز والحليب تتأهب القمم المتطلعة في وجوم لإشباع نوازعها من نفحات القصبة.

القصبة وحدها تتعامل بتلقائية وكأنها تحمل ضد الأحداث حصانة، ربما لأنها بكاء صرف في وجود دائم التجهم؟

والإجهاش قاسم عضوي يربط السهب بالمحتشد، وبسجن القلعة صار نطقا أمام غلظة الاستنطاق.

وتحت وقع النغم السابح في تموجاته تلقاء تعاريف المجهول، يعرب يعقوب عن وجدان ممزق يلهو بثناياه تسهيد مبرح:

" أنعودو لبلادنا ما ردنا مال فيلاج الغربة أنخلّوه أورانا "

هذا البيت الوافد بعفوية من محفوظات يعقوب، يرنّح أعطاف بوغريبة باستمرار، فلطالما ترنّم به " زهير" خلف البحر، رغم ضآلة حظه من اللغة العربية بملحقاتها، زهير مثال المفرنس الضالع الذي يشحن لغته دائما بأغراض لا يُطمأن اليها عادة.

"زهير" منذ لحظات البوليس، أخذ وجوده شكل الأسطورة، ككوكب سهيل اختفى تاركا قوافله تضرب في متاهات الإصحار

ويعقوب حين يردد البيت الشعري في حنين الثكلى، فإنما لينسحب بأثر رجعي على تأوهات بوغريبة، ولترتسم طيفاويات ندائه بخيال الرومي فيعاوده الحضور، تتجسم اللحظة، يتشخص الصوت، والوجود ينغلق انغلاقا يقول بالأبدي.

ومريم اسمها يرسم مقطعين شهد(مر) و(يم) متموج لا يحده يابس.

بكل يسر اقتطف يعقوب أحرف الشطرين مغمسة بدمع "خيرة " البوذنيبية(10) ساعة الفاجعة، وكأنه يضيف الى مشاعر صاحبيه المتقدة قدرا أخر من البزين العازل للدخان؛ ولشدة تفاعله مع نبر الإرجاعات الصوتية التي يرتلها يعقوب في تهجد العابد، رمى الرومي بالقصبة في عنف ويعقوب قد تسنم ذروة الإلقاء فأودع غمرة اللحن قياده:

المشهد يراجعه، أباطح الدوار وقد أقفرت، وكر حليمة الذي يحاول القمر استبداله بدمن من حلفاء متعبة السعف؛ فيستعير حسرة الجاهلي وهو ينعى على المروج اكفهرارها:

لا تقنط لو كان في قلب الحجــــــرة ولا تزهى لو كان فوق أعياد تسيـر

بعيني شفت اليابسة رجعت خضــرا بعيني شفت الناشفة وللات غديــــر

أحقا ستخضرّ منحنيات السهب إثر جفاف؟ ويقبّل هشيمَها المتشرذم غيث؟ أتعيد الخيم المطوبرة سابق صورتها على المنحدرات وذلول الآكام؟

يعقوب يستبعد هذا، الرومي لا يعلق عليه كبيرعناء، وبوغريبة لا يستشف المسالة من وجهها هذا.

أحايين الليل تترى كأنفاس مزكومة دون أن تتوقف عند تساؤلات مربكة كهذه، نام بوغريبة وتناوم يعقوب الى أن تجاوب شخيره مع أنغام القصبة التي تتأبى النوم على دأبها؛ هامسها الرومي فسخت وحادثته فأنصت.

السهب ما فتئ آهلا بالرعاة، النيران المتناثرة على امتداد فيافيه تؤكد للرومي هذه الحقيقة.

الرعاة آخر من ينعم بالحياة، وآخر من يموت، الراعي ذلك الاسم التهميشي الأحرف الذي لا يرسم الا في شكل إضافة، وحده يثير سكونية السهب، رغم انه أبدا في موقع العربة، بالأمس خلف الدوار واليوم خلف القطيع، مضاف هو بالتواتر.

ضابط شؤون الأهالي أيضا لم يشذ عن المشاع، أغفل أمر الرعاة ولو الى حين، خاطبهم بلغة أخرى كأفراد من القطيع؛ بالواسطة.

" لا ضرر في مكوثهم بعيدا عن المحتشد"

الرومي لأمر ما يعدل بدون مقدمات عن الاستمرار في الموّال، محاولا ابتداع لحن للأبيات المحظورة التي اقتيد مداح السوق الى السجن بجريرتها، بوغريبة أقنعه ببعض خطورة ما تنطوي عليه كلمات بسيطة كتلك والخطورة إغراء:

"سلّم على الثـــــــوار الساكنين الاوعار"(11)

الأحرار ليسوا عفاريت؛ إنهم بوشريط، السياسي، الرومي ذاته لو سكن الوعر لصار حرا. في هذه اللحظة كان بوغريبة يتمتم نائما:

" أمّـمــه. خديجة. سيجارة. بيرة. أف. أف. سوزان. زهير. عبد الصابر. أف. أف. أمــه. أممــه"

وتحرك كما لو أنه يهم بالنهوض، وعاوده استرخاء وهو يعاود:

" أممــه. لا أعرفه. أنا عامل بسيط. جئت لأشتغل. فقط. كلا لا أحضر اجتماعا. لا أعرفه. أجهل مضمون النداء"

الرومي يلتقط هذيان زميله في حرص طبيب يتسمع مريضا واقعا تحت التنويم، اجتماعات؟ نداء؟ وانطرح التساؤل، بوغريبة ؟! هل هو حر أيضا؟ طبعا لا مادام لم يسكن وعرا.باريس حانات ومراقص ومخادع تعتصر الشبق، فما صلتها بالوعر؟ وما صلة الوعر بها؟

مطط بوغريبة أطرافه، فتح عينيه في انشداه، بادره الرومي:

" كان حلما لذيذا أليس كذلك؟"

ولم يجب عاوده لإغماض رغم أنين القصبة المتنادي. الليل يتحرك قبل أن يخلي آخر مواقعه، قبل أن يستسلم في تؤدة حذرة كعفيفة يدغدغها إغراء مزمن، يقفز يعقوب مفركا عينيه ليستجمع بقايا أرغفة البارحة، وليعدّ أكوابا مشيّحة تسبق الانصراف المبكر خلف القطعان عادة.

الرومي، القصبة وحدها تدري متى ينام وكيف! بل إن فلسفته في النوم أصبحت لا تثير فضول أحد؛ فالنوم يتوخى استراحة النغم والنغم له مرتكزاته وعمق دوافعه، التي لا يعني نبشها سوى الاستزادة في فورانها.

من أصدر في حقه حكما قاسيا كهذا؟!

أهو بمحض اختياره؟!

ليس من طبيعة المرء ان يصدر في حق نفسه أقسى الأحكام بل ولا أخفها، جبلّته بالعكس أن يدفع ما يوقّع عليه من أحكام ولو كانت أدنى بساطة من اسمها.

الحكم قرين الموت دائما، غير ذاتوي المصدر ولو أنه يندمل بانمحاء الاثار الموجبة، ولأن خصمه هو الزمن بالذات، فالرومي دائم الاقتناع ان هذا الخصم سوف لن يمزّق أوراقه ضاحكا في لحظة ما، إنه نهائي الأحكام وذلك سر تفوقه الديمومي.

ولكم كان يعقوب محقا في دعوته للأيام بالاستقامة، بدل عوجها الفطري وقد تتابعت على وتيرته:

"يا لايّام أتسقمي مالك عوجـــــــى وقولي لي آش من أسباب ظلعتي به"

السفح القائم في مناعة عملاق متحجر يدعو الجميع للحاق به، القطعان يشتد ثغاؤها وقد فضّل بعضها أن يهرول كما لو انه ينكرعلى المسافة امتدادها، يعقوب يشرع في حياكة جورب وهو يتنقل خلف الأغنام دون أن يخل سيره بتجمع ما تخلف منها ، بوغريبة يدندن محملقا في القمم الصامتة التي سيقضي بها يومه،

أما الرومي فقد خف به قطيعه غربا، حيث أخفت شبحه أشجار العريش المشذرة في غير نظام عبر ضفتي الوادي.

وانسلخ النهار مؤكدا روتينية الزمن، ليجمعهم مساء أكثر رتابة وليفضي بهم بدوره الى صباح توأم، لولا غبار أخذ يتطاير فكاد يحجب الأفق.

" إنها كوكبة خيل؟!"

قال يعقوب وقد وضع يده بشكل أفقي على جبينه، كتحية جديد عهد بالجندية، وقال بوغريبة فيما يشبه الغيض:

" انهم الحركى بلا ريب ؟!"

ووقف الرومي بعد أن نحّى كيس زاده جانبا:

" وفي مقدمتهم فارس بلباس مدني، آه إنه مراد جاءوا به دليلا"

وعوض أن يترجل الحركي الذي كان يتلو " مراد"، بجواده الأدهم وبشرته الضاربة الى السمرة وشكله المكعب، استفهم من على صهوة الجواد فبدا طاقم أسنانه الذهبية:

" هي ذي أغنام الطابور 21 فيما اعتقد؟!"

أجاب بوغريبة شاخصا ببصره الى سحنة الرجل تارة، والى رقاب الخيول المشرئبة خلفه في انتظار أمر ما:

" أجل"

" أيكم بوعلام العايدي، بوغريبة؟"

" أنا"

الى هنا ترجل كبير الحركى ماسكا اللجام، مشيرا الى بوغريبة أن يتبعه، وعلى الرغم من أن خلوة كهذه لا يُطمئن اليها، فإن خطوات بوغريبة المتزنة لا تنبئ إلا باستخفاف، فهو لم يكن حديث ألفة بالبذلة العسكرية لكي يَرهبها، ولا هذا اللون من التعالي الذي يتعاطاه رجالها فيخافهم.

" غنم من هذه التي ترعاها؟"

" غنم الشيخ بوخلوة"

" ومن أيضا؟"

" هو وحده "

امتقع لون ضابط الصف كما لو أنه مُني بخيبة، وقال محتدا هذه المرة:

" وغنم الناصر أليست معك؟ مع من هي إذن؟"

"لا أعرف له غنما"

وضحك ضابط الصف:

" وما مصدر معيشته؟"

" إنه رجل يحترف فن القنص ومن فائضه يقتاتون"

" وأين هو الأن؟"

" في المحتشد أو في المدينة"

" لا أظن أن معلوماتك متأخرة الى هذا الحد؛ على أي حال عليك أن تزور ديوان الأهالي أسبوعيا لإثبات وجودك"

" ولكنني أقوم بهذه المهمة لدى الدرك بالمدينة، ومنذ سنوات!"

" لا شأن لك بالدرك منذ الأن"

" امنحوني أمرا مكتوبا بتحويل الاتجاه لأتقي غضبة الدرك"

" ديوان الأهالي هو كل شيء، لقد حل محل الدرك والشرطة و المستاتور ذاته أفهمت؟!"

امتطى ضابط الصف جواده كما لو انه غير مسؤول عن إفهام بوغريبة، فحسبه مشافهته بإذن "الصاص"، وقبل أن يلكز الحصان للانطلاق به أردف:

" أما الأغنام التي سألتك بشأنها فأفضّل أن تُبقي أمرها سرا بيننا"

وهز بوغريبة رأسه موافقا، ما أن لحق ضابط الصف ببقية الحركى، حتى ألفاهم متحلقين حول الرومي، طالبين منه أن يستنطق قصبته وقد نسي أن يخفيها كدأبه.

" إنني لا أتقن عزف أي لحن لازلت بطور التمرين"

" اعزف أي شيء"

وعبث الرومي بلحن مظهرا عجزه عن تمديد النفس، وهو المنعوت بآلية مزج العملية التنفسية بشهيقها وزفيرها دون إخلال بالإيقاع، واختتم اللحن المقتضب بقوله:

" أوف لقد تعبت"

وقهقه الحركى متغامزين وبادره أحدهم ساخرا:

" " أنت عازف ماهر بوسعك أن تلتحق بالشيخ حمّادة"(12)

وتقدم ضابط الصف ليوقف هذه القهقهات الفارغة، مستعيدا جاذبية شخصيته كقائد كوكبة، واستدار بجواده موجها كلامه الى الرعاة الثلاثة:

" ليكن في علمكم أن هذه الأراضي أصبحت محرّمة، عودوا الى القرية مساء يومكم الثالث، وحين تنطلقون منها لا تتجازوا مسافة (5) كلم في لاتجاهات جميعها".

وقال يعقوب:

" ولكن الــــ "

وقاطعه ضابط الصف:

الأمر مدروس مع أعيان المحتشد بما فيه الكفاية"

قفل الحركى مستأنفين طريقهم تلقاء يبقية القطعان، وتسمّر بوغريبة جاثما وكأن الأمر قد أربكه، ولم يكن بوسع يعقوب أن يسائل نفسه أو زميليه أو لا يدري.

" ماذا يُراد بنا بالضبط؟!"

وواصل بوغريبة انشداهه والكلمات ترفض أن تُصاغ.

" الخونة، يرغبون في الاستماع الى ألحاني!"

علّق الرومي وانفجر بوغريبة ضاحكا:

" لو فعلتها إذن لتعرضت لسخط الأحرار"

وابتهل اليه أن يفصح:

" أحقا؟ هل في أنغامي ما يغضبهم؟! هل في مثل هذا خيانة؟!"

وآب بوغريبة الى تجهمه السابق، وقد شرع في فتح فوهة الحظيرة لإخراج الأغنام.

يعقوب يحمد مغبة ما حدث؛ آه لو عمد الحركى الى تفتيشه إذن لعثروا على المظروف الرهيب، وقد تبطّن صداره الصوفي المفلّج الألوان، التحق ببوغريبة يلتمس استشارته:

" ماذا أصنع بالمظروف يا بوعلام؟"

" كان عليك ان تحمّل مراد أمر إيصاله؟"

" هل جننت؟ أحمّل رجلا يصطحب الحركى مظروف الناحية؟!"

" أو تشك في مراد؟"

" كلا، ولكنهم يتحلقون به كقبضة دملج"

" إذن انطلق الى المحتشد فبلّغ أمانتك"

" والطريق؟!"

" لا اخالها مخيفة الى هذا الحد، وأين وجه الريبة في سفرتك الى المحتشد لتهيئ للقطعان رواحها بعد يومين؟"

" لكم يشدني ذكاؤك، إذن سأسافر"

وما أن بلغ ضفتي الوادي حتى أعترضه الرومي:

" الى أين؟"

" الى القرية "

" هكذا تقرران في غيابي؟!"

الرعاة أصبحت أيامهم بالسهب معدودات، فمع مغيب ما قبل الغد ستبرح القطعان مرابعها منكسة نحو المحتشد الغافي، الاحتشاد آخر ما توصلت اليه فكروية ديوان القلعة، وفعلا فقد امتص من السهوب حركيتها.

الوحوش ستختلي ببقايا الأدغال تتدبر أمر الانسياب، والعين ستبكي ولا شك فرقة الصبايا ومرح الخراف، والسهب سيبتلع الوحدة في سكون الحكيم، والطيور آخر من سيقرر الرحيل بعد أن تذرو أعواد عششها غضبة الغربي.

يعقوب ألفى الدوار وقد سكب ظروفه في منظومة المحتشد، رغم أن بعض مشتبهاته دفعت بالديوان الى معاملته بنوع من الحدة قد يفوت بقية الدواوير، ولتجانس الاشتباه أصبح دوار الشيخ الفُضيل مبعث قلق أيضا.

الأمسية التي التحق فيها يعقوب بالدوار ملقّحة بأحداث أخرى ، فبعيد منتصف النهار وصل رجل الأشعار متأبطا أخر مستجدات السهب.

كان يعتقد مخلصا أن ما يحمله بين جوانحه، أدعى الى المضاضة مما ينطوي عليه مظروف الناحية، فلقد ألحقت القطعان بالمحتشد ألم يكن نبأ مأتميا يقطر لوعة ؟! فعلا لقد أجبر الواشمة على البكاء مذ إعلانه، إذ ماذا عساه أن يعني تدجين القطعان غير إبادتها؟

ولولا هذا النبأ المؤلم الذي حمله مظروف الناحية، لهاجم السيناتور الشيخَ بوخلوة، مؤاخذا إياه على إذعانه لأمرعودة القطعان أمام ضابط شؤون الأهالي.

الفاقة تسفر كل يوم عن إحدى زوايا وجهها المخيف؛ أما اليوم فهي تتبرج سافرة، لسوف يتساوى المالك والراعي أمام حدة التدابير التي اتخذت في حق الماشية، وعلق الشيخ بوخلوة وكأنه يصرف عبئ ما حدث عن نفسه:

" تذبذب الرعاة دفع الديوان الى اتخاذ مثل هذا، ما دخل الرعاة فيما يحدث؟ كان عليهم أن يحتفظوا بمواقعهم كرعاة"

وقال الشيخ معلى مجاريا:

" عهدنا بالراعي لا يدس أنفه في شؤون الجماعة"

السيناتور غادر ردهة المصلى، لا يعرف الى أين؟ وبخيمته أقام عزلة بكائية، كان حذرا في بكائه، ومثله فعل سي محمد فور أن انفض من حوله مجلس الشيوخ، إن مظروفا كالذي حمله يعقوب مع أصيلان هذا اليوم، لهو خليق أن يُبكي المحتشد برمته وقريته معه، إن قشعريرة حادة شعر بها سي محمد وهو يفض المظروف

لأول مرة حيث التصقت عيناه بكلمات غير قابلة للابتلاع: ((الناحية تنعي إليكم استشهاد بوشريط ))(13)

والأسف يشل من نبراته الوهنة فاه السيناتور:

" مات بوشريط إذن؟!"

لوقع البيان الصغير الحجم، اهتزت قيادات العروش بكل فروعها ، وحبا عبر الخيم كألسنة اللهب في بقايا هشيم، فبوشريط مهما يكن من أمر، هو الزر الذي ألحق النور بخيوط الشبكة أيام الارهاصات الأولى، وعقدت النساء حلقات شبه سرية، مما دفع بالشيخ معلى الى التساؤل:

" عجبا تبكيه نساؤنا كما لو انه واحد من مشيخة الدوار!"

وقال الشيخ بوخلوة:

" الموت مصدر بكاء دائما"

الفاجعة لم تترك لسواها حيزا في اليوم الثاني، فلقد همّشت أمر القطعان الى حد الضآلة، فحين يتعلق الأمر بالمشترك يتوارى الفردي خجولا.

السكون يحارب الحركة بالمُصلّى العام، والنظرات حبلى بامارات كاتمة للظل، ويعقوب مأخوذ بما آل اليه الدوار، يعيد أحايين الطلاقة نحو القنص والسقي والاحتطاب.

يعقوب، الى هنا أدرك سر اللغم الذي جاء يتأبطه مذ يومين، كان فاتكا الى أبعد حد ما أغباه! لقد كان في جيب صداره الصوفي فاجعة وهو لا يدري؛ بل لكم ترنم بالأغاني ليلا و نهارا واللغم بجانب صدره!

صحيح ان كل هذه الطوارئ ــ في روع يعقوب ــ لن تسكت قصبة الرومي أو فكاهات بوغريبة، الا أياما ولكنها ستعمّق الجراح الى أبعد مما ألف الوجدان السهوبي.

إن المآسي لتخترق رومانسيات الصدور، فتلقي من ضراوة التأثر ما يجعل الحزن يتحجر في أغوارنا. لكن ماذا يجدي الحداد أمام سيول أنبإ الموت؟!

مريم. لا يخالها يعقوب تعدّ حدث القرن في روع الرومي، فالموت قد افتقد فجائيته وصار تعاملا روتينيا، عجزت طاقة الحزن في النفس البشرية عن تغطية يومياته؛ بات يستبد به التبرم ومراد يعلن انه سيقتل الحركي إن بدا منه ما يغض من كرامة الدوار.

" سأغتاله وألتحق بالجبل، كرمة حليمة في ذمتي"

وعلى الرغم من أن كرامة حليمة تعني الجميع، فان هاجسا ما مر بزينب، صحيح ان حليمة رفيقة العمر، ولكن أن نضحي بمراد في سبيلها فمطلب باهض، وتخمن زينب وهي تستفتي قواها الدفينة تجاه مراد:

" والذين التحقوا بالجبل دون شرط؟! الجبل هو معيار الرجولة"

كذلك قال الشيخ بوتفاحة مؤاخذا شيخوخته، التي أجبرته على الحياد، الخواطر التي تربطهما مشتركة وإن اختلفت صيغها المطروحة، فزينب ترصدها من هذه الزاوية حيث تتصارع عاطفتان جياشتان في صدرها بشأن مراد، ويعقوب يعتصره أمر الشيخ المكي الذي يعلك غضبه في صمت، كجواد كريم يشارف الإهانة.

إن الحمل ليستند بكل ثقله الى صدر السيناتور، الخلاص يتوارى هاربا بالمطلق، هل يتنازل ليطلب الى الشيخ بوخلوة إشعار ضابط الحرب النفسية بأمر الحركي الدائم التسكع قرب خيمته، الى أن أصبح يُلقب بالحركي العاشق؟!

صيغة التنازل هذه يمجّها، لم تأتلفها فطرته، فهي نزعة تُكتسب وهو وراثي ناصع، سيثأر لشرفه إن دعى الأمر ويغادر متجاهلا كبر سنه ماذا في ذلك؟!

" ألم يغادر رجال قبله في منتهى الطواعية؟ فكيف بمضطر إذن؟"

ودون أن يزايله فورانه تهجّس بإشعار القسم مع يقينه أن الظروف العسكرية الراهنة، تحجب الأمل في كل بادرة، وبادره سي محمد وهما قابعان بالمصلى الذي أقيم بين خيمتين من خيم الطابور:

" لم يعد قوام الدوار الا بضعة شيوخ ونسوة، كل واحدة منهن مرشحة لأن تصير أرملة بين الحين والأخر!"

وغمغم الشيخ المكي؛ إن مأساته أخطر من أن تُذاع، بها لم يكاشف أحدا حتى الأن، ليس هناك من يلّم بفحواها الا مراد الذي أدركها بترصده للحركي العاشق خوفا على زينب، فأفضى بالسر الرهيب الى خطيبته مقسما بالانتقام لشرف الطابور.

وقال السيناتور مغيرا مجرى حواره الداخلي:

" وعطاء الله؟ لقد تطاولت مهمته في إيصال المؤن الى القسم إن أمره لمزعج"

" من عادته أن يستطيب أحاديث السياسي الشيقة"

آه.لكم تمنى الشيخ المكي أن تُحظى حليمة بشاب في وطنية السياسي وثقافته، ولكن الحظ شراع لا يلتزم بمرفأ معين في مغامراته الضلالية نحو المجهول، إنه يتلولب، يتحلزن، يتعدد في عجز كسبابة مهتزة إبان آوان احتضار.

قبل أن يتطوبر الدوار كان باسم الإغراء، رغم تجهمه المزمن

ظل يحتضن من الممكن ذرة حلم واعدة أخذت تتبخر، تنسحب تدريجيا لينفتح للخيبة الأليمة تجويف غير متناهي القرار.

ونفوس الرحل كأزهار الحشائش، إنها تناوير لا تينع الا خارج الكهوف حيث أشعة الشمس وحيث النسيم الطافح؛ والقرية بهذه الصورة كهف خانق للنبات، من يتأقلم مع التبطل؟ من يتقاعد شابا؟ من يموت حييا؟!

القرويون دأبوا على الاستقرار لأنهم وجدوا عامله مجسدا في الاستزراع، لقد مططوا عالمهم الصغير الى أن صار يحمل نفوسهم وحتى ذلك الحرفي الحداد" صالح"، استطاع أن يخلق كونا من عنديته يتسع لهمومه ومطامحه، أما هموم البدوي الوافد فيستحيل أن يُختزل أفقها.

وقبل تأدية صلاة المغرب لحق الشيخ بوخلوة بالمصلى، بعد أن قضى نصف يوم في اجتماع بقلعة ضابط شؤون الأهالي الى جانب وجهاء الدواوير، وكوراط القرية الذي أبدع بوخلوة في الثناء على مواقفه الشجاعة.

وزفر الشيخ معلى فور انقضاء الصلاة مستفهما:

" ماذا هناك يا شيخ بوخلوة؟!"

وهو يتكئ الى جانبه:

" أسوأ بعد سوء":

ورشقته أشعة الأعين مجمعة على السؤال:

" مــــــــــاذا؟!"

" لسوف يُسيّج المحتشد بأسيجة شائكة وملغمة، وعلى كل طابور أن ينتدب خمسة رجال للمشاركة في هذه العملية"

" نسيّج أنفسنا بأيدينا؟!"

تساءل السيناتور وقد تجاهل الشيخ معلى سؤاله بقوله:

" ثم ماذا؟"

" بالسياج بوبتان فقط تربطان المحتشد بالمراعي المتاخمة، على أن تخضع القطعان للمراقبة أثناء رواحها"

" وأيضا؟"

" مغادرة المحتشد محظورة إلا بترخيص من ديوان القلعة يحدد مكان الإقامة ووجهتها، والقاعدة ذاتها تطبق على كل ضيف يؤم المحتشد"

ووثب الشيخ المكي من مكانه وكأنه اختنق وهو يصح:

" كفى كفى احتفظ بالباقي لنفسك كشيخ دوار"

وتنهد الشيخ بوخلوة:

" إلينا أصدرت المدينة شغبها واستقرت قريرة العين "

وبادره مراد:

" إنها هي الأخرى تغلي"

" ومن أنبأك؟"

وارتجف الشيخ المكي حنقا وهو لايزال قائما يبحلق في الأفق:

" مالنا ومال المدينة؟ ذرونا في مصابنا"

وقال سي محمد:

" اتق الله يا شيخ ظننتك أكثر تحملا"

ودون أن يرد جلس، مراد كان على دراية بما يختمر في ذهن السيناتور، إنه أجلّ من أن يخاف أو يتقهقر لولا أن طعنته جاءت بحيث لا تسهل مجابهتها.

الندم يشل كل أمل ينعقد، أنّى للسوانح أن تثوب ثانية؟ إن التسامح أحيانا يحيل نزعة الصرامة الى سذاجة ممنطقة فاجعة؛ كان عليه أن يزفها لأول خاطب أيام تكاثر خاطبوها، من سيجرأ على طلب يدها؟ من يناصب حركيا عداء سافرا؟؟!! من يلعب بالنار؟!

ما يحز في تضاعيف جوانحه أن الحركي، أقسم بشرف بندقيته لينالنّها حلالا أو حراما، هكذا ردد حرفيا على مسمع من السيناتور الذي ألهبت كلمة الحركي إباءه فأجاب:

" إن مصرعي لهو الجسر الموصل اليها"

ولأنه حلّق بعيدا على أجنحة حيرته أغفل السيناتور أمر الشيخين معلى وبوخلوة، وقد اختليا كما لو انهما يضعان أول تصميم لحلقة ثانية ستعتزل المصلى العام.

الظلام يكسب المحتشد ضبابية دكناء، لا يكفي لانقشاعها توهج النيران المنبعثة من الخيم الجاثمة في صمت.

وبين الفينة والأخرى يومض الضوء الاستكشافي من برج المراقبة ماسحا المحتشد بتياره القسطلاني، ولكم كان يروقه أن يركز على هذه الحلقة او تلك، إمعانا في استكناه مضامين الطوابير.

السيناتور تلتصق عيناه بشبح رمادي اللون متحرك في وجوم تلقاء خيم الطابور، من يكون غيره؟ لأول مرة يفكر في الخنجر الذي يتقلده؛ لقد جاء دور " البوسعادي" إذن، ودون أن تضطره المفاجأة الى إعلان نفير حرب، انطلق الشيخ المكي مهرولا وهو يفتض سيور خنجره، لسوف يروينه من دماء لوثتها الردة.

نفسه تحدثه أن صراخا سيتعالى؛ صراخ استغاثة، كان عليه أن يشير على حليمة بالمبيت في خيمة أخرى، غير خيمتها درءا لمثل هذا الذي سيقع، لكن

كل ما في الأمر أنه قرر أن يموت، فالحركي لا يقدم على هجوم ليلي كهذا وهو أعزل، ولكن بعد أن يقول البوسعادي كلمته في الصراع.

سنوات قليلة تقضت واسم الشيخ المكي علامة وقوف في وجه النقاط الجمركية على امتداد الحدود، واليوم تمتحنه اللعنة في عقر داره!

الفطريات المترسبة تخور في غضبة إجماعية طالما توجسها الدوار، وقد اختفى الشبح خلف حظيرة احتياطية أعدتها " بنت النمر"، وتساءل الشيخ المكي في وجه الظلام وهو يطأ الأرض وطئا خفيفا:" هل يتعلق الأمر بهذه الأرملة البائسة؟!"

أجل أن الشبح يلج خيمتها في ثقة متناهية.

" لعلها وسيطة بينه وبين حليمة مقابل؟ من يدري؟"

توقف السيناتور وكأنه يعتصر طاقته الموزعة تبعا لفوارق مشاعره، وتدنى من سجاف خيمة الأرملة وهو يمسك على قبضة الخنجر بإحكام يدفعه قرار الموت الذي اتخذه، وعلى ضوء خافت بادره الشبح من الداخل:

" إنك دائم اليقظة يا شيخ!"

" من؟! عطاء الله حمدا لله على السلامة"

قالها كأنه يعتذر لبنت النمر عن كل ما صدر منه في حقها من ظنون، وواصل عطاء الله ووعثاء السفر تشدد على مخارج صوته:

" التجأت الى خيمة بنت النمر تمويها كما ترى"

وهمس اليه الشيخ المكي منتهزا فرصة انصراف الأرملة لإعداد خبز وتمر:

" إذا سألك بوخلوة عن غيابك، قل إنك كنت بالمدينة هكذا أبلغناه"

" حسنا فعلتم"

" وكيف الناصر وجمال ومن معهما؟"

" التحق الجميع بالقسم"

وأضف وهو يمدد ساقيه تعبا:

" ألم يبحثوا عنهما؟"

وأجاب السيناتور وكأن عطاء الله قد وضع يده على علة في صدره دفينة:

" ليس بعد مع علمي أن الدوار سيسددها باهظة"

وتنهد:

" هذا ما أتوقعه بخشية"

السهر لم يطل بهما فوضعية عطاء الله تستعجل خلوه للنوم، وهكذا انصرف كلاهما الى خيمته فور تناول ما أسرعت بنت النمر بإعداده كعشاء.

ورغم ما يحمله من مفاجآت كان على الصباح الموالي أن يفرخ فور الإشراق؛ إن ورشة أولى من نوعها شُكلت، الأسلاك الشائكة تمدد في أشكال دائرية، ومربعات الأعمدة الحديدية تنغز على أجسام الكثبان الرملية كالنبال، ومنتدبو الطوابير يسارعون بإحكام طوقها، وقد وزعوا فرقا على رأس كل منها رئيس يساعده مهندسان عسكريان، واقتضى الأمر من الحركى أن يعززوا الفرق بلكز كل متثاقل بأعقاب البنادق، ومن الشيخ المكي دنا الشيخ بوخلوة فيما يشبه الزهو:

"((حكم جاير ولا قوم فاسدة)) أنظر ما يُقرر أمس يطبق اليوم"

" هذا دليل تخاذلكم معشر الأعيان"

" إنها مشيئة الصاص يا أخي"

واستأنف طارقا موضوعا آخر:

" لكم يخيفني التحاق الناصر وجمال بالجبل ولكم سيحرجني ككبير دوار!"

أجفله السؤال وهو يلفّ صاحبه بنظرة أودعها بريقا غاضبا:

" الشيخ بوخلوة! إلا هذه، لقد بلغك التحاق كثيرين قبلهما دون أن يفتح ذلك شهية أحد للكلام!"

وتدخل سي محمد:

" ومن يفقأ عينيه بيده يا جماعة؟!"

الأطفال يروق لهم مشهد الورش وهي تبرقع توهج الرمال، في انشداه يحدّقون، يتقاذفون بالأتربة وبمنتهى اللذة أسرعوا خلف الجواد الجون وقد امتطاه " الصاص" شخصيا كدأبه.

" إنه أكثر الخيول قدرة على القفز"

قال عبد الله.

" تصوّر لقد قفز فوق عارضة ملعب الحركى دون أن يمسها!"

لاحظ سعيد.

" والركض أنظر أنظر.

ولم يكن وحده يستحث الورش كضابط لشؤون الأهالي، فهناك بالضاحية الجنوبية يتطاير غبار السيارة " الجيب" التي لاشك أن النقيب يستقلها ، فمهمته كممثل لقائد الحامية العسكرية تدعوه الى تصفح ما يمت الى أمن المحتشد.

التقيا بعيدا من حلقة الشيوخ حيث لا تجانب الأحاديث كثيرا قضية السياج الذي سيكتم حركية الدوار والقرية، يشاع أن ضابط شؤون الأهالي والنقيب نقيضان؛ فالنقيب رجل دم والصاص رجل حكمة، والرشاش والميكروفون لا يلتقيان، هذه الحقيقة لم يستخلصها الشيخ بوخلوة وحده ولو انه رائد اكتشافها مما حدا بالسيناتور الى الرد السريع كعادته:

" ((ولد الذيب ما يتربّى)) كي الصاص كي القبطان"

" الصاص عاقل فرنسيس حر"

" سياسة برك. في جيش التحرير كاين المحافظ السياسي العاقل وكاين اللي يعذب الخونة والمرتدين، السلاح سلاح واللسان لسان كل واحد وطريقه"

" الفرنسيس وجيش التحرير ماشي كيف كيف، العرب أساسهم الحيلة"

وتدخل الشيخ معلى بعد صمت متعمد:

" الصاص يحكم في الشعب، والقبطان يحكم في العسكر"

وبنرفزة أجاب الشيخ المكي:

" الصاص يحكم في الحركى برك، الشعب خاطيه الشعب يحكم فيه القسم"

وضحك الشيخ معلى علنا:

"القسم ما عنده لا صاص ولا قبطان كيفاش يحكم؟"

فصل السلطات بقرية المحتشد شكل محور مناوشات كلامية استغرقت أمسية كاملة، الى أن عز على الشيخ المكي أن يخلف محاورته الشيقة ويغادر نحو الخيمة حيث سيتدبر أمر المؤن التي سيسري بها عطاء الله فور أفول القمر. وكان على الجمال والبغال أن تئن بما يفوق قدرتها بفعل هذا السياج الذي سوف يجعل مهمة المسبلين جد شاقة، إذا لم تأخذ بالاستحالة. الجمال هي الأخرى اعتزلت رغاءها، إنها تدنو من حمولاتها الليلية كاتمة للصوت ، تناخ كما لو كانت خرساء فتُثقل بالزاد لتنطلق تنشد أقاصي الوهاد.

" الجِمال أصبحت أرهف حسا من الشيخ بوخلوة"

همس الشيخ المكي فضحك واستكمل:

" ومن زميله معلى أيضا"

أقلعت القافلة الصغيرة تتحاشى أي اصطدام بصري مع أي كان، منتبذة من ورش السياج منفذا اخر الى ان ألقت بنفسها بين ذراعي الوادي مخلفة الشيخ المكي يتحسس أية رجة او دمدمة.

وآب الى مخدعه يسوقه أمر عطاء الله، إن رجلا يشق الظلام أعزل لهو المغامر بحق في سبيل القضية، إنه هو وآخرون يعرفهم المكي من الطابور المجاور رواد ليل فعلا. إنهم يلعبون بالنار وما أندر اللاعبين بها!

وما أن استلقى على ظهره بعد أن تفقد حليمة وقد خالها نائمة حتى هاجمته بقايا أفكاره، فقبل البارحة سلّمه عطاء الله رسالة من قيادة القسم تعيينه قائدا للعرش، لهذا الطابور الذي لم يعد متجانسا

الا في لون خيمه؛ أرامل وأشباه أرامل وأيتام وأشباه أيتام وعجزة في غياب الشيخوخة، والشيخان المنشقان المفتونان بهوس الكوراطة، ومعاكسات الحركي، والمؤن والعلاقة بتنظيمات العروش المجاورة، وتعليم الأطفال في مدرسة القرية بأبوة مستعارة وو، لقد أصحر القائد الأول الذي زرع نبض القسم في أوصال الدوار، كيف يتسلل النوم الى خلد هي ذي شجونه؟!

ويطفو الإباء البدوي ليعتلي الشجون، خيمة الشيخ المكي مهددة بالاجتياح في كل لحظة، وكأنها لم تمثل بالأمس القريب عرينا جمركيا مهابا، تحاشت الطيور اختراق مجاله؟ لقد أفقدها المحتشد مناعتها روّض جماحها.

الحركي الشاب لا يقلع عن التسكع بالطابور، وربما دفعته نزوته الى المكوث هنا ليلا مما يحول دون القيام بأي نشاط تمويني، أو قد يستكشف حركة ما فيخطر "الصاص" انتقاما؟!

" وماذا عن اغتياله تحت جنح الظلام؟!"

سؤال قفز بدون مقدمات من صدر الشيخ المكي مجددا تأمله، بل ماذا عليه لو يشعر رجال القسم بتحرشات الحركي على جناح السرعة لينصبوا له كمينا؟؛ ساعتها تحرق الخيم وتداس الصبايا تحت طائلة رد الفعل.

" ماذا لو أقحمتُ الحركي عبد الصابر في الأمر؟"

فعبد الصابر لم يسقط عليه الزي العسكري ولاءه للمحتشد وللثورة أيضا، حقا إنه أطلع " الصاص" على وجود أحد رجال الثورة بالدوار ذات ليلة، وكان سببا في استشهاده تحت أزيز السياط واقتطف ثمار فعلته تلك بحيث نال ترقية برتبة عريف، ولكن بوغريبة أفلح في استغلال علاقته المهجرية به. وعلى اطمئنانه الى ما وصل اليه تفكيره، بات السيناتور يعلك مشاريعه في اغترابية مملة.

وبالناحية الأخرى من الخيمة كانت حليمة تتناوم دون نوم، لم تعلق فاتنة المحتشد بما فيه الكفاية على أمر الحركي، بل إنها غالبا ما قاطعت زينب قبل استكمال الحديث:

" لسوف يعرف الدوار من هي حليمة، ذري الكل يتحدث بما يشاء يا زينب!"

" ماذا تعتزمين؟"

" أشياء غير قابلة إلا للكتمان"

صحيح أن مشهد الاعتداء المتوقع يفزعها بين حين ومثله، مخيلتها ترسمه في عناية موجعة، أثناء الطعام تظل متدحرجة بيدها وعيناها شاردتان والسهاد يركب هول الفاجعة، وصحيح أيضا انها تبدو مطمئنة دون أن تكشف عن سر قوة اطمئنانها؛ هل الحسنُ جناية الى هذا الحد؟!نعم إنه توأم الموت!

وحياة المرأة الجميلة دائما تأبى أن تساير المألوف في الوجود، لذلك لابد لها من لحظة استثنائية تمنح جمالها أحقية التفرد عن حياة الأخريات! ولأن حليمة لم تعش في حياتها حدثا قد يخلّد حسنها، فهل ستموت بطريقة مغايرة لوفيات نساء المحتشد؟!من يتوقع هذا؟ من يفلسف حياتها بعيدا عنها غير الرومي؟

فمذ أن ماتت مريم بدون مقدمات ودون أسباب يعرفها، أدرك أن للجميلات موتا خاصا غالبا ما يتلفع بالكتمان، لذلك تكتم حليمة طريقة موتها.

" ستموت إذن؟!"

بالطبع مادامت جميلة؛ فالجميل لا تطيقه الحياة هكذا قرر الرومي في ثقة وتأكيد، سُلّم الأيام لم يتدن بحليمة إلا لأنه يخضع لهذه القاعدة، أين فتيان ملأوا صدرها بالأماني في تهجداتها الوجدانية؟ هل ساقها القدر (أو الجمال) ليقرنها في خاتمة المطاف بحركي تحت صفة ما؟ إنها معرّة الأبد.

زوجات الحركى ذواتهن يحاولن التملص من دائرة الانتساب الى أزواج يحملون هذه الصفة، الخالة بنت النمر تمنت لو تزف الى علال ولد التارقي ذات يوم، وما أن حاول تحقيق أمنيتها اللاعجة حتى رفضت مشترطة فيه أن يُصبح (حرا)، الجبل هو مقياس الرجولة في الدوار كما يردد السيناتور؛ هو الموضة الشائعة اليوم.

أما إجادة الفروسية والرقص وو، فأمور لا تشد عاطفة المرأة ولا ينبض للاهتمام بها قلب رجل، وزينب هذه الفتاة المنعوتة بالسذاجة ألم تفصح عن رغبتها في لو يصير مراد (حرا)، لقد أصبح في نظرها أقل إثارة من شقيقها قدور.

" حليمة؟"

" نعم يا أبتاه"

" حذار من مغادرة الخيمة ليلا أو نهارا"

" هذا ما أعتزمه يا أبتاه"

إنه حظر من نوع أخر اضطر اليه الشيخ السيناتور.

سرحت عبر تلافيف محنتها، وسكون رهيب يعتصر المحتشد إلا من انعكاس الأضواء الاستكشافية المرسلة بين لحظة وأخرى من برج المراقبة؛ وفجأة صرخت ارتمت كلية على صدر والدها محدثة رجة، اختلطت لها أواني المطبخ بالزاوية الأخرى.

" حليمة حليمة ما بك؟!"

" شخص ما قذف سطح الخيمة بحجر ألم تسمع؟!"

استظهر "البوسعادي" من تحت المخدة التي كان ينام عليها، وفي رفق تطلع من خطوط السجاف الأمامي، سُمك الظلام يرسم أشباحا بهلوانية التقاطع، وصدر حليمة يسمع خفقانه وهي تئن بين ذراعي والدتها التي أخذت تجس جبينها، وحاول الشيخ المكي مغادرة الخيمة فتشبثت بثوبه زوجه ضارعة:

" والحراسة؟!"

" ليست هناك حراسة إنه هو الخبيث"

لم يثنه الحاح زوجه، اعتزم الخروج وحليمة تتوسل اليه باكية ألا يغامر بحياته، فالحركي يصطحب بندقيته ما في هذا شك وشتان بين فعلي البندقية والخنجر.

وزمجر:

" يغازل خيمتي بالحجارة رغم تأكده من وجودي؟!"

وانكفأت حليمة خجلا ورجفة حادة تمخر أطرافها، تمددت، تكومت، منتحبة كانت والظلام يعاملها كباقي قطع أثاث الخيمة.

الشيخ المكي بعينيه المشعتين يمتص منفذا في جدار القتامة الضاربة، يجتاحه شعور بالمغامرة بالموت. والموت سانحة الحركي سبيله لاقتحام حليمة، وبدورها أقلعت الزوجة في شهيق متقطع ممض.

" أي حظ ساق الى مخدعنا هذه الفتاة التعسة؟!"

وتدر كلماتها هذه مزنا من الدموع تذرفه مآقي حليمة، بمعزل عن التشنجات التي ألف البكاء اصطحابها وتقاطع بكاءها:

" أفرُ الى خيمة عمي بوخلوة؟"

" لتسهلي مهمة الحركي؟"

قال المكي في مضاضة معهودة، وقالت الوالدة وهي تجفف سواجمها بما فضل من خمارها:

" ولتعم الفضيحة؟"

وانقذف الحجر ثالثة على السطح ليلفى الشيخ المكي نفسه خارج الخيمة في حالة توثب قصوى، والخنجر مشدود بقبضته اليمنى في منتهى القوة؛ وهامسه شيء قريب منه لا يراه لغلالة الظلام الكثيف:

" نحرنا البعير الأبيض"

آليا انفرجت أصابعه عن قبضة الخنجر فسقط من يده، وعانقه الشبح الذي قال ضاحكا:

" ثلاث قذائف ولم تخرج أي نوم هذا؟"

" كنت متعبا فنمت يا جمال"

" قائد العرش لا ينام ليلا"

كادت حليمة أن تطلق زغرودة مدوية تشق جنح الليل الراكد، وقال جمال قبل أن يعتدل في جلوسه:

" حذار من إضرام النور. تمرا ولبنا، فقط فقط"


محمود حيدار.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى