محمد حيدار - " دموع النغم".. الفصل الثالث من رواية

الفصل الثالث

التروبادور. و (القصّاب) الألماني (14)

إنه من أفراد ستينيات القرن الماضي، أكل الموت جيله كاملا، وأبقاه شاهد عصر أخر، يلتقط أعاجيبه في غرابة لا تخلو من نكهة أحيانا.

عيناه اعتصرتا ارتواء الوجوه وذبولها في فضول، واستنكهت خفايا يوميات الناس، ومجاهيل سيرورتها المتوثبة نحو معالم الغد المجهول القسمات.

وعكس أن يزدهر فن العرافة في ظل الشدة التي ألمت بالدواوير كما توقع شيخ هذا الفن، اهتز الاعتقاد به، ولكم فكر العرّاف عجينة في الإقلاع عن تعاطي العرافة، فالأحداث تأخذ شكلا فجائيا لا يمهل على الاستقراء، ولكن الحرفة لا تفقد الانتساب اليها طواعية.

وليس في إمكان الشيخ عجينة أن يُبارى في طلاقة الحديث، ففي فيض هذيانه قلما يعثر السامع على شاردة تنتسب الى العقل صراحة، إنه يلازم الفراش مذ زيارته الى سجن القلعة محمولا على متن سيارة 6/6، حيث فقدت ضوابط عقله تميزها، كان يعتقد أن هرمه سيكف الأيدي التي تناوشته في ديوان " الصاص" بجريرة تعاطي الدجل وتسفيه الذهنيات، بذلك خاطبه ضابط شؤون الأهالي قبل أن يدعوه للاعتراف بمقولة يكررها، كدعاء ورد ملزم:

" لقد سقط الديوان، رحل السجّان"

" لفائدة من كل هذا النقيق؟! ثم تردد تباشير بقرب رحيلنا، أنت لا تستمد وحيك إلا من تعاليم عصابات الجبل"

" أدعو فقط الى بصيص من رأفة"

وضحك الضابط معلقا:

" أعضو أنت في هيئة حقوق الانسان؟"

مُكرها غادر الديوان وقد تخضبت لحيته المتشرذمة الشعر بأحمر قان ينهمر من منخريه، خطاه تترنح، وعلى عينيه الزائغتين غشاوة تتراقص، وكثبان المنحدر الرملي تشيعه في وقار خلف توثبات اختصاصية يرسمها كلب الضابط، ودون أن يفقه مغزى الكلمة التي شيعه بها، أيضا لم يحاول أن يفقه، ورغم أن خطاه كانت وئيدة فقد كاد أن يجتاز المنحدر لولا أن الكلب تمكن من نهش ساقه فطرحه أرضا، وتعهدت الزوبعة الرملية بإخفاء تفاصيل اللقاء، الشفتان تفتران عن زحمة في اللهاث ، العرق يتصبب وقد تعفّر وجهه بالتراب، وانقذفت عمامته الباهتة الزركشة منه بعيدا.

وضحك النقيب الذي كان حاضرا وقال:

" لعله من أنصار اتفاقيات جنيف؟!"

منتهى قواه أن تنغرز عيناه الصغيرتان في خياشيم الكلب التي استرقت حمرتها من دم العروب المتكهّل، حاول أن يستجمع شتات هندامه البائس، أن يستنهض قدميه وقد زايلتهما حرارة النبض:" هل مات أو هو بصدد الموت؟!" تساءل، غمغم، حرّك رأسه في اختلال؛ دقات صدره جد متباعدة يمخرها عياء:" هل مات؟!" في حسم ردد السؤال هذه المرة، وفي تلقائية مال رأسه نحو الأرض.

في حذر شديد يتحسس وجود الكلب، إلى أن اكتشف انه انسحب، وعوض أن تدبّ في أوصاله حركة، أغمي عليه مرة أخرى، منظره أغرى الأطفال بالفضول، عائدين كانوا من نزهة الاستحمام ببحيرات الوادي الراكدة، ليس هناك من لم يلق بأمتعته ويتقدم في وجوم، دون أن يعلم أن بكومة الثياب المتسخة الملقاة، رجلا يعرفه عالم الأطفال "بالسحار"، ألم يكن له خادم من عالم الجان يستغور به منافذ الغيب؟!

إن انتسابه الى طابور غير طابورهم، لم يحل دون تعرفهم عليه، فقد استحالت الطوابير ــ بحكم حياة المحتشد دوارا واحدا ــ (يحي) كان أجرأهم، بحيث دنا منه واثقا، وأخذ يمرر أصابع يده الدقيقة على جبينه المتغضن وقد علقت به الرمال:

" عمي عجينة عمي عجينة؟"

كان شبه يتثاءب وعيناه مغمضتان، وأوداجه وحدها تنزع نحو الحركية في وهن يتلاشى أحيانا.

" عمي عجينة؟"

" اخاله مات!"

لاحظ الطفل " عيسى" كما لو انه يستعد للهرب، وانهمك الأطفال في ترتيب أمتعتهم، أكياس قماشية صغيرة الحجم معبأة بثمار التين والرومان والبلح، و"كرموس النصارى"(الصبار) وخضر صالحة للالتهام دون طهي، وقبل أن ينصرفوا عنه، أعادهم اليه سعاله المتقطع وأنينه الموجع.

"عمي عجينة تأكل الكرموس؟"

عيناه تعكسان شبح كلب فاتك، وأذناه تصيغان كلمات الطفل نباحا مستفزا، والصوت على تباين نبراته لا ينشد الا الفزع ؛ الجواد الطائري الشكل يخترق السماء، دون أن يُلقي التحية أو يلوّح بإشارة ما، الأعصاب تختلس التوازن لتفقده ثانية ، والطفل ينتظر جوابا قال بالانتفاء تماما كما انتظر " الصاص" قبله.

" إذهب وأخبر أحدا بما أنا عليه، إسرع"

في اتجاه الخيم انطلق الطفل عيسى يعدو، والريح تداعب أطراف عباءته الرمادية اللون، وخطا يحي خطوتين نحو العرّاف مناولا إياه ثمرة تين، استخدم في انتقائها كل عبقريته.

" شكرا لك"

وأضاف شبه هاذ:

" لكم هي لذيذة، لعلك سرقتها أيها اللص الصغير؟!"

" ألا تستطيع الاستواء في الجلوس يا عمي عجينة؟"

" لسوف أستطيع، ناولني فاكهة أخرى إذن"

وقلب يحي شفتيه استياء من الحاح العرّاف، وطلب الى عبد الله أن يفعل هذه المرة، ولكن عبد الله احتج بأن ما معه ليس بناضج.

وقبل أن يمسك العرّاف فاكهة من بوداود بيده المرتجفة، عاوده الإغماء فاشتد على الأطفال منظره، ونبا عن إدراكهم أن عرقوبه لايزال يستجدي بقايا الدم في نزيف تتشربه الرمال صامتة.

"لكأني به قد مات ؟!"

" يموت ليحيا من جديد كما فعل قبل حين"

في غرابة:

" يحيا من جديد؟!"

" العرّاف لا يموت إطلاقا، إنه يتألم فقط"

فعلا لم يكن العرّاف عجينة تسلية للحياة فقط، فالموت هو الأخر أصبح يجد في مداعبته إياه متعة.

" إنه يحتضر!"

قال الشيخ معلى قبل أن يلحق به.

" ساعدني على نقله يا شيخ"

أجاب الشيخ بوخلوة وكأن الأمر لا يتسع لنقاش.

" لنمر به على ممرضية القرية، فساقه قد لفظت دماءها فيما يبدو"

وتلقّى العرّاف عجينة إسعافا أوليا، حقنة مضادة ومرهما وأقراصا حيوية للاستعمال الليلي، ولم يشد عيون الأطفال إلا عصابة بيضاء أحكم الطبيب لفّها على رجل العرّاف، مما حال دون انتعاله حذاءه المعفّر الجلد.

انصرف به الشيخان ليلزم فراشه عملا بنصيحة السيد " ريمون" طبيب القرية والمحتشد، كان بالقياس الى الآخرين إنسانيا كما وصفه العرّاف في مجلس الشيخ بوخلوة الان.

كانت تفاصيل ملمته تسترجع نفسها في خلده، وعيناه الزائغتان تتقلبان بين وجوه معيديه من مشيخة الدوار، إدراكه لا يتلقف من أحاديثهم الا طنينها، ولو أن الضيافة تتدفق من خارج الكوخ، والكوخ ذاته أقيم نتيجة جهود مخلصة تصون حقوق الجار.

ليس للعراف أي سند أسري، ولم يسبق له قط أن بكى هذه الوحدة أو ضاق بها، فمخاطبة الرمل تقتضي بدورها الاعتزال؛ لأول مرة تنطق عيناه بدون بشر:

" أُهِنتُ يا شيخ بوخلوة على كبر سني!"

كانت كلمته بكائية الى أبعد حد تنشد أعلى مراقي الإشفاق، والإشفاق جراح أثخنت نفسية المحتشد فاستنفذت احتياطيها.

وتنهد السيناتور في حنق ممتنعا عن التعليق، إذ ماذا يُقال حين تتجاوز المآسي حجم الإشفاق ذاته؟، بل لولا الواجب الذي اقتضى وجوده هنا ما كان ليجمعه بالشيخ معلى مجلس، بعد الذي حدث بينهما. وقال الشيخ بوخلوة:

" كان عليك أن تعتزل الشبهات من القيل يا شيخ عجينة"

وقال مبارك:

" إنه لا يقول إلا بقدر ما يُقال له! إنه الرمل "

وتحرك عجينة كأنه يلتمس دفئا في كلمات الشيخ، بل هز رأسه أن صدقت. واستجمع قواه الصوتية في تساؤل محظور:

" ولكن أيكم جمال؟"

" التحق بالجبل منذ سنين يا شيخ"

وضحك في وهن دون أن يمد بصره نحو الذي أجاب:

" إذن لقد اقترب"

وحملق الشيوخ كما لو أنهم يستزيدونه، سوى أن العرّاف انتقل الى الهذيان:

" تنهار القلعة، ونباشرُ المرعى"

وسأله الشيخ مبارك:

" أيان ذلك؟"

" بذا نطقت القرعة "

وصاح الشيخ بخلوة:

" هي ذي تعلات إدانته!!"

وانفجر الشيخ المكي في غضب بركاني معهود:

" أنحاسَب على الجنون ؟! أوليس من حقنا أن نُجن ونهذي أيضا؟!!"

ولم يضف الشيخ بوخلوة الى قوله:

" إنني لأخشى عليك أنت الأخر صدّقني"

وقد استعاد السيناتور توازنه:

" أعرف هذا منك يا شيخ بوخلوة "

ولأمر ما تذكّر بوشريط، كان لاستشهاد الرجل/ الفحل، كما يسميه أليم الوقع على نفسيته، كلماته لما تفقد بعد لون نبراتها في خلده، ذاكرته تؤوب الى لقاء الخيمة، حيث اكتشف أولى إبهامات الدهشة ومنحى مخاضها، وارتسم على الفور مشهد " السياسي"، فالثورة كالأسرة لا تنمحي كينونتها دفعة واحدة.

عاد الشيوخ الى مصلاهم قبل المغيب، والسيناتور يتوقع بحاسته رحيل عطاء الله إذا جن الليل، وفي ظل حظر التجول المستديم افتقد الدوار حلقاته الليلية المنظمة، فالحظر قد شمل جماعية صلاة العشاء بحكم زمانها المتأخر، ولأنها كانت تُصلى على العراء، وأسكت قصبة الرومي إالا في حدود معينة، وأدخل على الحياة عامل الإنفراد المبكر لأول مرة.

والشيخ بوخلوة كأي كبير دوار أخر، يعتلك همومه منفردا؛ سابقة خطيرة سجلها اجتماع " ضابط شؤون الأهالي" بالأعيان، ولو أنه يبدو في مظهر المجبر عليها، لقد طلب الى قائد كل طابور أن يختار خمس جميلات لاكتفاء حاجة الجيش.

وتبادل الشيوخ نظرات حيرى يجللها مزيج من الحنق والإشفاق على ما بلغه الأمر، وارتأى قائد طابور القرية نفسه مضطرا للاحتجاج في ليونة:

" أنت رجل سياسي مهمتك التصرف في الجو العام، والحفاظ على استقراره ولا اخال ما تدعو اليه صالحا لاستمرار هذا الاستقرار، أنت تلح في المطالبة بأخطر شيء قد يدفع حتى الحياديين الى النقمة"

" والجيش؟! وموقفي أمام قائد الحامية بالمدينة؟"

وقال الشيخ بوخلوة:

" هناك نساء الحركى، فهؤلاء جزء من هذا الجيش"

وقطّب الضابط وهو يلفّ بوخلوة بنظرة تنم عن أنه لم يتوقع منه ذلك إطلاقا، وقال قائد طابور القرية:

" بل مومسات المدينة، يُؤتى بهن الى الجيش؟"

وأطرق الضابط مليا والجميع ينتظر جوابه:

" اقتراح يُنظر فيه ولكن ثقوا انه في حال الرفض، سنضطر الى تنفيذ ما صارحتكم به"

واشتط مغادرا مقعده:

" ولكن لو طلب ما يسمى بــ (جيش التحرير)، مثل هذا لمنحه كل طابور عشرين فتاة؟!"

وانصرف غاضبا، لأول مرة يلعن الشيخ بوخلوة أمر الكوراطة و القيادة، آووه، لو صارح جمع المصلى بطلب " الضابطّ "، إذن لأقيم عليه حد غير مقرر؛ ثم بنات من هؤلاء اللائي قد يقضين ليلة بالثكنة، دون أن تسقط عنهن صفة الانتساب الى الدوار؟!

ومن يومها أصبح بوخلوة يخاف اجتماعات الديوان، بل إن ولاءه لهذه الثكنة قد اهتز بصورة محسوسة، ولكم كان أمره فجائيا حين اختلى بالشيخ المكي، طالبا اليه تسجيل اسمه ضمن أحد فروع العرش، ملحا على إخفاء الأمر عن الشيخ معلى، وحين أنكر الشيخ المكي وجود فروع، أو عرش كالتي يتحدث عنها بوخلوة قهقه هذا:

" أتراني عشت نازحا عن الدوار؟ كل ما في الامر اني ظننت نفسي غير معني بأمركم ولعله خطأ؟!"

وسكت الشيخ المكي كما لو أنه يرجئ البت في قضية معلقة، وعدل بوخلوة عن الكلام حتى يمهل زميله فرصة للتفكير أو اتخاذ ما يراه مناسبا.

وظل الشيخ بوخلوة يعتقد ان الفاجعة لم تتسرب الى خارج صدور أنداده من قواد الطوابير؛ والواقع ان القسم قد أُبلغ بأمرها توا، فقائد الطابور الثامن مخضرم الصفة، بحيث انه في ذات الحين قائد عرش، وهذا الإنذار المبكر جعل بقية قواد العروش بمن فيهم السيناتور، يتلقون من القسم توبيخا شديد اللهجة ناعيا عليهم انحطاط حاسة اليقظة، قبل أن يدعوهم الى تعبئة الطوابير وتأجيج تأهبها لقمع أية محاولة.

وتجلت أعراض هذه المقاومة النفسية في وقائيات طرأت على واقع الدواوير؛ فتضاءل عدد الفتيات بابتدائية القرية، ودبّ في الخيم إجماع نسائي على مقاطعة الممرضية، وشحت حركات النساء عبر أزقة القرية الضيقة، وأغلقت زوجة الضابط مركز النسيج لأن المتربصات امتنعن عن الحضور، وعجعج الأطفال خلف كل عسكري يفضل الطواف بالمحتشد منفردا، دون أن يستثنوا الحركي العاشق من هذه المناوآت.

وزار النقيب ديوان شؤون الأهالي مرتين في يوم واحد، حاملا الى الضابط تذمر الجيش.

" يا حضرة النقيب إذا كان مجرد ترويج الخبر قد أثار ما ترى فكيف به إذا تحقق؟!"

" نصف نساء المحتشد من الأرامل ممن يتصدى لنا أزواجهم بالجبال، إنه انتقام من نوع أخر ولو أملته ظروف معينة، نحن لا نطالب بعذارى أو بزوجات محترمات"

وأشعل لفافة دون أن يجلس وأضاف:

" تصوّر معي نفسية ذلك " الفلاّقي"(15) الذي يبلغه، أن زوجته قد قضت ليلة بالثكنة مع اللفيف الأجنبي(16) تصور!"

وقهقه وهو ينفض سيجارته:

" تصوّر. ألا تراه معي وقد قذف ببندقيته في وجه رؤسائه، أو صوّبها نحو صدورهم نقمة؟"

وقال الضابط:

" ولكن أيهما أخطر أن يقذف بضعة رجال ببنادقهم، أم أن ترتجّ قرية بكاملها؟"

وقال النقيب في استرخاء وكانت بذلة الصاعقة قد منحت قوامه جاذبية:

" أنتم السياسيون شأنكم شأن الشعراء، تخافون اللغط والضجيج، أما نحن فلا نينع الا داخل الضوضاء كهدير الأسلحة تماما يا صديقي؟"

وأبلغه الضابط اقتراح قائد طابور القرية، فقلب شفتيه في تساؤل:

" مومسات المدينة أقل من اكتفاء حاجة الحامية هناك!"

" ولكن في المدينة الوضع يختلف"

" حسنا سنعرض الاقتراح على قائد الحامية وقد نلجأ اليه كحل جزئي"

وأكد ضابط شؤون الأهالي:

" اشفعه بصورة تحليلية عن ذهنية القُرى، لا تنس ان دينهم يجعل من ذلك مدعاة كافية للاستشهاد"

وضحك النقيب:

" الاستشهاد عندهم مقرون بكل شيء!، لا ينسوا فقط ان المومسات اللائي سيؤتى بهن هن بناتهم أيضا؟!!"

" الوضع يختلف"

الهجوم على المحتشد أكيد التوقع، الضابط ذاته لا يستبعد أن يركب النقيب رأسه، أو يتخاذل أمام تحديات ضباطه؛ الحراسة الليلية عرفت تطورا لم يشهد له المحتشد مثيلا، والشبهة تلاحق وجوها يلتقطها الحركى بين حين وأخر، في جملة أسرى هذه الصبيحة كان الشيخ الفُضيل؛ وأعربت طلقات نارية عن أقصى غضبتها، وتلملم الشيخ المكي في فراشه ونهض نحو السجاف يتطلع، وتأوهت حليمة بعيدا منه وقد أيقظ الرومي يعقوب وبوغريبة الذي قال:

" ماذا هناك؟!"

" طلقات نارية بشرقي المحتشد"

" لستُ أدري كيف ابتلينا بهذا اللفيف (نص/نص)؟"

وأكد:

"أي تحد نواجهه؟"

وأفزعهم هدير سيارة تخترق سكون المحتشد الى أن توقفت بخيمة الشيخ بوخلوة، ودُعي لامتطائها والليل قد استهلك ما يفوق نصفه، صياح ومحركات وقرقعة أسلحة، وأمام الديوان شيوخ يمخر عيونهم الكلل بعيدا عن عالم التهجد، واقترب بوخلوة من قائد طابور القرية:

" ماذا يريدون أيضا؟"

" لا ندري إلا أننا دُعينا في مثل هذا الوقت كما ترى"

وزفر الشيخ بوخلوة:

" ألم نفرغ من ملف المغازلة العلنية بعد؟!"

قضى أكابر الدوار ليلتهم تلك قريبا من أعتاب ديوان شؤون الأهالي، ومع الضحى برز" الضابط" في منامته يحذوه حركيان واتكأ على إحدى دفتي الوصيد الزجاجي:

" هل لحظتم نقمة الجيش؟ إننا نتعامل معكم كشيوخ دوار وليس كمتمردين وإلا كان لنا معكم موقف أخر"

" ولكن بين صفوفكم جواسيس، همهم فقط أن يلمّ الجبل بكل تحرك يصدر عنا"

وأضاف:

" أيها السادة الأجلاء، إن محصّلات اجتماعاتنا أصبحت تعلن على أوسع نطاق، وهي لا تفتأ خاما قابلا للاعتماد أو الإلغاء، بل إنها محل تحد وهي لاتزال خواطر تجيش بها نفوسنا!"

وسكت مطيلا:

" لقد أضحت قريتكم تشكو ندرى المرأة، مذ أن تناولنا قضية بسيطة اعتبرتموها من أخطر ما تدارسنا"

واحتج الشيخ بوخلوة موجها كلامه الى المترجم:

"أبلغه انها فعلا أخطر ما تدارسنا، وإنّا لمنا من يضع الاستقالة من تحقيقها أقرب"

ولفّه الضابط بنظرة فاحصة:

" تهددنا بالاستقالة يا شيخ (بوكلوة)، ظننتك أخر من يفعل، ولكن لعلمك أن قبول الاستقالة في عرفنا يعني الإعدام"

وتمتم الشيخ بوخلوة:" فلنعدم قبل أن يسجل الدوار في حياتنا هذه المهانة"

وأومأ اليه الحركي المترجم أن يسكت، وعاود الضابط إصراره:

" ثقوا انها معيار ولائكم"

انصرف الضابط وقد أحس أن المسالة ليست من البساطة بحيث كان يتوقع، فإقدام واحد كالشيخ بوخلوة على الاستقالة يعطيها حجمها الحقيقي.

وبالمصلى العام التحق الشيخ بوخلوة يسير كالمصاب بقذيفة، فأبلغ رجالات الطابور جلية ما حدث، وأثنى الشيخ المكي على موقفه قائلا:

" إنهم بتماديهم لن يتركوا إلى جانبهم أحدا من الشرفاء"

وعارض الشيخ معلى:

" من الحكمة ان نتجنب مواجهة غير متكافئة"

وقرقع الشيخ المكي بسعال حاد:

" وهذه الثورة أليست في ذاتها مواجهة غير متكافئة؟!"

" وهو ما يجعل منها محاولة خاسرة حتما"

" اقتد زوجك وبناتك الى الثكنة إذن"

" بل وزوجات وبنات الأخرين، أم انهن يفضلن اقتياد الثكنة اليهن؟"

أدرك الشيخ المكي ما يرمي اليه الشيخ معلى فقام واثبا، وزايل الشيخ بوخلوة اعتزاله وأمسك بالسيناتور يهدئ من غضبه، فاختتم هذا ثورته:

" الخونة"

وهدد الشيخ معلى في حنق:

" لسوف نحتكم الى ضابط شؤون الأهالي"

وتدخل بوخلوة مشتطا:

" إلا هذه، لسوف تحتكمان الي"

واحتد الشيخ معلى:

" أنت تخاف كل شيء، الضابط القسم كل شيء، تتصنع اللعب على أكثر من حبل يا بوخلوة "

" أمثلي يواجه بهذا يا شيخ معلى؟!"

وانصرف دون أن يجيب، معتلكا مجموعة من المواقف تدعوه المناسبة لتبنيها، وأعيدت حلقة الشيوخ الى سابق صورها لولا أن السيناتور أضرب عن الكلام هذه المرة صادقا، وقال الشيخ عطاء الله موجها كلامه اليه:

" كان عليك ألا تمعن في إهانته"

" إنه مهان بطبعه وإلا ما أبدى حماسه لقضية يموت دونها أبسط رعاتنا"

اعتزل معلى مجالس الطابور ونزع عن لقاءات حميمه بوخلوة ، فاستهلك ساعات نهاره بدكان حداد القرية ( صالح)، حيث يجتمع الى الحركي العاشق، وأحايين ليله بخيمته ولكنها عزلة موظفة سرعان ما تنقضي بإبادة المناوئين، وبلوغ سدة الكوراطية التي عجز عنها غبي يتعاطى الإباء كالشيخ بوخلوة.

صحيح انه ليس بمستعد لتلبية رغبات الضابط دفعة واحدة، ومنها المتعلقة (بالحسناوات الخمس)، ولكن في وسعه أن يتنازل الى أكثر من الحد الذي أظهر فيه بوخلوة تصلبا فظا، فشيخ الدوار أوفر تحملا لترغيب شباب الطابور في الانضمام الى سلك الحركى مثلا، يحفزهم التبطل والفراغ القاتل، وبإمكانه أن يبلغ " الصاص" بتحركات لا تخدم أمن الطابور، بل إنه قادر على أن يستصدر أمرا بالسفر الى المدينة لهذا أو ذاك مقابل خدمات يحسن استغلال نتائجها.

ويبدو أن الضابط سوف يتلمس فيه رجل المرحلة، فالشبهة عدوة الوضوح، من الصعب ــ كما يرى ــ أن يقيم علاقة مباشرة مع الديوان حاليا على الأقل، ذلك لأنه سمح لنفسه أن يظل مغمورا خلف الشيخ بوخلوة، وعليه أن يُؤدي ضريبة الجناية التي ارتكبها في حق الذات، بالخضوع الى واسطة يمثل جسرها الحركي العاشق أو " زوجة الضابط"، أو"الماصّو" (البَنّاء) الذي اغتال القسم أباه ذات مرة.

ومع المغيب زاره الماصّو في خيمته، وطمع الشيخ المكي في إدراك مغزى الزيارة بدون طائل.

الماصّو! ألم يكن يستطلع الميدان على الطبيعة؟ هذا السؤال في الواقع لم يتبادر الى ذهن أحد، حتى أولئك الذين اعتادوا تحليل الطوارئ الوافدة على الطابور.

وأيقن السيناتور أن الشيخ معلى لم يعد ذلك الذيل المطواع، واستقرأ في تحركاته الجديدة ما يبعث على التفكير في إخطار القسم، لو لم يعزه وضوح الإدانة، والتمس الشيخ بوخلوة تغاضي الضابط عن دعوته الى اجتماعات الأعيان مذ شافهه بالاستقالة.

وحضر الشيخ معلى ــ بدون مقدمات كافية ــ حفل زفاف ابن بوتفاحة من الهلالية، دون أن يتعلل بالصداع كما توقع الجميع، وبعيدا عن طلقات البارود المألوفة وفكاهات بوغريبة غنّت " بنت النمر" أغنية تشيد بالسياسي. وعلق الشيخ معلى في سره:" هذه الفاجرة ألا تنتسب الى واحد يحجم صوتها؟!"

وعلى أن اللحن التمس قوة الإمتاع في اصطحاب رقص نسائي خفيف، تنتظمه تواقيع دف متلاحقة كأنفاس محمومة، سارع الشيخ المكي الى الاحتجاج على لسان زوجه تخوفا، وارتأت بنت النمر نفسها مدفوعة الى لحن أخر أقرب الى التثاقل، وسرت في الوسط النسائي وشوشة:

" ممنـــــــــــــــــــــوع؟!"

" ممنوع!!!!!!"

" الغناء صار ممنوعا؟!"

ورافعت بنت النمر في لهجة شديدة:

" الضابط منح رخصة لإقامة الزفاف"

وأكدت مسعودة ما أوصاها به الشيخ المكي:

" اسم السياسي هو الممنوع"

وعلّقت رقية زوج الشيخ معلى حانفة:

"(وين نعرفو السياسي هذا؟ غنّوا على أولاد الدوار)"

واحتدت بنت النمر:

" لن أغني إلا بأسماء ثلاثة: بوشريط، موسطاش والسياسي

والباقي من اختصاصكن"

معظم نساء الطابور لم يلجن في جدل، فهن حضرن الحفل من باب اللياقة لا أكثر، إذ ما ذنب الهلالية إن تزامن زفافها مع وقائع لا تبعث على الانتشاء؟! وتحلقت سمات تذمّر على محيا بنت النمر

فقذفت بالدف بعيدا.

" ماذا دهاك؟"

تساءلت العجوز زهرة.

" أي عرس هذا الذي يقام بعيدا عن الزرنة والبارود وشخير الجياد؟"

" لم يعد في الساحة يا حبيبتي إلا أحصنة الحركى وبنادقهم"

أجابت أم العروس مسرعة فكادت بنت النمر تقول:

" وعشيقاتهم"

لولا أنها تفطنت الى حليمة تجلس الى جانبها يلفها صمت ثقيل فاستبدلت كلمتها على الفور بقولها:

" بل أي عرس هذا الذي لا يتمايل فيه خصر حليمة؟! أقسم أن ترقصي يا ابنة الشيخ المكي وعلى تواقيع دفي أيضا"

وابتسمت حليمة غير صادقة وقالت هامسة:

" إنني مريضة يا خالة"

وقهقهت بنت النمر:

" خالة؟!!!هل شختُ الى هذه الدرجة؟

وارتج الجمع النسائي بضحكات متباينة النبرات، وحاصرت الأعين حليمة مترجية:

" لقد أقسمت عليك"

" صحيح اننا نسينا ترنحها الأخّاذ"

" ما أبدع الرشاقة تتلوّى تحت وقع الدفوف الصاخبة"

وقفزت الواشمة من مكانها فجذبت حليمة من ذراعها الى حلقة الرقص:

" كلنا يدعوك الى الرقص كلنا"

وقفزت زينب من زاوية مقابلة:

" لنرقص سويا"

وعلقت بنت النمر ساخرة:

" إنه عرس ابنة خالتك من الرضاع، آه نسيتْ "

وضحك الجميع واستلمت حليمة من بنت النمر شالها المزركش لتتمنطق به؛ حليمة الأن في حالة رقص فعلا وبكامل حضورها،

توهج خداها وزايل التجديل بعض ضفائرها، فاكتسح الاهتزاز قواما أظهرت خيمة بوتفاحة عجزها شبه الكلي عن احتواء اندفاعاته وتدفق حيويته، واستقرت الأرداف في هدنات متقطعة كحرب استنزاف مفتوحة، وارتجف الخصر في اهتزازات آلية شبيهة بما يطرأ على مؤشر الرادار تستفزه المباغتة، سابقت الأطراف الزئبقية تأوهات الدف، واستشعرت زينب ثقلا في جانبها فسايرت الخفة على مضض. ورغم أنها لا تمثل دور أي أستاذ في حياة حليمة فاخرت بنت النمر:




محمود حيدار (1).jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى