محمد حيدار - تكملة الفصل الثالث من رواية " دموع النغم"

" الجميل يُحسن كل شيء، كل شيء تلقائيا"

" ولكنك جميلة ومع ذلك لا تحذقين الا رقصة الصف؟"

" والغناء والدف و"

" وماذا؟ هل عدنا الى أحاديث الأرامل؟!"

وشرقت بضحكتها لكلمة الخالة مسعودة، لن تستفزها أبدا صفة الأرملة فهي أرملة موسطاش، وموسطاش ميّت أفضل في نظرها من أحياء تعرفهم جيدا.

والعيون مشدودة الى قوام حليمة إنما لتسرق اللحظة، مدركة انها فقط أومضت لتختفي دون أن تُنبش بالتقادم.

وتشاكس الأطفال خارج الخيمة فيما إذا كان بوسنة يحمل زرناه أم حضر الحفل أعزل؟ وصاحوا مسرعين:

" الغيّاط"

" الغيّاط"

والحق أن بوسنة بدوره اتهم بعزف ألحان مشبوهة سيما لحن ( كي طال الحال) الذي تعرض للاستنطاق بشأنه.

" فأي حال هاته التي طالت؟"

كما واجهه ضابط الصف ذو طاقم الاسنان الذهبية، بل وإذا كان المديح لا يخدم الحياد، فما بالك بالعزف يتناول حالات تطاولت؟!!"

وتلقى عازف القرية إنذارا سارع بعده الى تحطيم زرناه لكيلا تركب رأسها، فتتجاوز به الخط الأحمر في لحظة إبحار غير مأذونة.

أما الجديد في زفاف الهلالية الذي أحسه الدوار؛ فهو أنغام الرومي الليلية التي سمح لها أن تتوثب قريبا من الطابور، ولئن كانت الأنغام في ذاتها شيئا مستجدا لم يتسمّعه الدوار مذ أن تطوبر وألحق بالقرية، فغرابة الرومي في هذه الليلة لم تتوقف لدى هذا الحد، بل إن ما ينساب الى أسماع الناس، وتتشربه آذانهم الصدئة بالأحزان، هو فعلا لحن" حيزية" الذي أضرب الرومي عن عزفه منذ ما ينوف عن العقد من السنين.

هل كان يحب الهلالية بطريقته التكتمية الخاصة؟!

هل تفطن الى أن مرثاة "حيزية"، تربطه بعالم "مريم" أكثر مما تبعده عنه؟

لم تكن حليمة وحدها تعقد لسانها الدهشة، فزينب بجانبها و، و، كلهن يربطهن انشداه لا تكفي الألسن وحدها للإعراب عنه.

" حيزية" ذلك اللحن المحظور الذي دفع بالرومي الى محاولة لطم خد حليمة، يوم أن جاءت لجلب الماء من عين الخروب، لمجرد انها تضرعت اليه لكي يعزفه، يتهادى اليوم مع الظلام عبر الخيم الساكنة مجانا وبدون طلب؟!

ومنه دنا بوغريبة وكأنه ينوب عن الدوار في استفهامه:

" تتحلل من نذرك بدون مقابل؟!"

وضحك يعقوب في استعجال:

" نذر مريم يا الرومي؟!!!"

استمر في العزف دون أن ينثني، مخيلته ترسم ضيعة أو قصرا أو " دالية كولون"، وذلك هو قوام بيئة سبق له أن عرف فيها مريم أيام رحلة التل رحلة " كراء الحصائد"، فهام بجمالها وبرقصها، وهامت هي بزرقة عينيه وبألحانه، قبل أن يُقال له في موسم أخر، أن الموت قد اختطفها،

إنه يستشف مشهدا أبدع في تصويره الشيخ "ابن قيطون"، الذي انتظم واقعة " حيزية" في بكائية ممضّة، تقضّت مصايف الشمال والتمس موكب "حيزية" ــ تماما كموكب خيرة البوذنيبية ولو بخلاف يسير ـــ طريقه تلقاء الجنوب، يتوسطه هودجها المحلّى، بعيرها يلتفت يتحسس إيقاع حوافر الجواد المتمايل تحت قامة " سعيّد"، الذي أرخى العنان يغمره شذا الاقتراب منها، فأسكن الدفء نوازعها لولا غيبوبة المنام المخيف.

وسئم يعقوب انتظار الجواب، فغنّى مقاطع يحذقها بتصرف.

اللحن لا يستجمع ملامح " مريم" كما اعتاد أن يفعل بالرومي، و الرومي يدرك هذا المستجد الذي أعفاه من تحديق وثني في تعاريج الطيف، إنه ومذ فترة يعامل اللحن من الخارج فحسب، لا يجتافه بل يناغيه بتجرد بداعي الحياد.

ومريم؟! لماذا لا يفلسف الموت الا حين يتعلق بها؟ ولماذا نذر احتجاجا على موت كان في وسعه أن يدعو بوشريط ذاته؟ بل قد يدعوه هو الأخر؟

" لعبة غير متكافئة"

قطع اللحن وعلّق:

" ما هي؟"

" لا شيء لا شيء"

وواصل العزف مقدرا ألا ينام، لولا قرقعة سلاح ببوابة الحظيرة، وتحرك يعقوب في مجلسه البعيد:

" العسكر!"

كل ما كان يبدو من محدثهم هو خوذته الفولاذية، ونصف رشاشه المصوب في تحد:

" من يوجد بهذا الخندق؟"

" رعاة الطابور 21"

أجاب بوغريبة في حين لم يستوعب زميلاه صيغة السؤال الداهم، وخفّ الصوت عن حدّته نوعا ما:

" رعاة أم فنانون؟!"

" بل رعاة وكل ما في الأمر أن بوتفاحة"

وقاطعه الصوت:

" اخرس ناولني بطاقاتكم، أرني هذا الناي الذي أخلّ بحظر التجول"

وأسلم الرومي قصبته الى بوغريبة دون أن ينبس، نظرة شبه مستعجلة القاها العسكري على البطاقات الثلاث، وتراخيص الرعي وقذف بالكل في غير نظام الى بوغريبة، وفحص القصبة وأعادها الى بوغريبة طالبا اليه أن يعزف فقال:

" بل زميلي هو العازف"

" فليسمعنا"

وتحفظ الرومي في البدء فدفعه بوغريبة:

"اعزف أو أفرغ في سحنتك جوف رشاشه"

وقاطعه العسكري ثانية:

" فيم تهامسه؟"

" طلبت اليه أن يعزف لكم لحن (أمّنا فرنسا)"

" ومن وضع لحن هذا النشيد؟"

" والده الذي مات على أبواب "الألزاس " دفاعا عن فرنسا"

" وتعرف الألزاس أيضا؟"

" شهرتها طبقت الأفاق يا سيدي"

وأضاف هامسا:

" اعزف حيزية، غنّ يا يعقوب"

سارع العسكري بإطفاء مصباحه اليدوي بعد أن تأكد من محتويات الحظيرة، ولاحظ الرومي أثناء العزف شأن صاحبيه تكاثر الرؤوس المتزاحمة، للاطلاع عليه خلف البوابة فندم على قراره بالشروع في العزف؛ مريم وفية وتنبذ الخداع، وتطيّر بعرس الهلالية هذه اللعوب التي كان في امكانها أن تتزوج قبل الاحتشاد، وكان بوغريبة لا يقل قلقا عنه عكس يعقوب الذي يعكس صوته ثباتا، ويعقوب حين لا تحتوي ملابسه مظروفا من الناحية أو القسم أو من الشيخ المكي، أو عطاء الله يصير أكثر رجالات الدوار رباطة جأش، لا يتزعزع.

أبلغ بوغريبة الرومي تشكرات العسكريين، وقد التقط كلمتين قذف بهما أحدهم استعصت عنه الأولى:

" تروبادور، هنود حمر"

وفور أن انصرفوا قال الرومي:

" العسكر يتفهمون القصبة خير من الحرْكى"

وقهقه رفيقاه كما لو أنهما يزفان الى بعضهما تهنئة بالسلامة.

القصبة! . ليست كما ظل الرومي ينظر اليها، إنها نقيض الموت وسيلة حياة، فلولاها لأشبعهم العسكريون لكما ورفسا، ولكنها القصبة! الكل يهرب اليها من ظروفه، لقد ظلت شعار صلته بمريم وذي هي اليوم عنوان تفاهمه مع العسكريين، الذين لا يتلقونها إلا كذبذبات الرطانة.

" الحرْكى وحدهم يسخرون منها"

" وهم على جهل تام بالموسيقا الفرنسية"

أجاب بوغريبة وأضاف:

" ومع ذلك قد يدّعون أنهم يحسنون الاستماع الى(بيتهوفن)!"

" ومن هو يا بوعلام؟"

" (قصّاب) ألماني!"

وأدرك الرومي نبرات ساخرة تمازج حديث بوغريبة فقال في مسكنة:

" تضحك مني لأنك زرت فرنسا؟! (كلكم سلعة واحدة)

" قصّب قصّب "

وفك الرومي عقال اللحن فأوغل، وحاصر يعقوب ثغاء نعجة أدرك أنها في حالة مخاض فسارع الى الزريبة، ودمدمت رصاصة

مجهولة الاتجاه فأرغمته على العودة لاهثا، ودون أن يُعنى بأمر يعقوب وجه الرومي سؤاله الى بوغريبة:

" لقد تحدّثت مع العسكري مطولا، دون أن تكاشفنا بما دار بينكما"

وأبلغه بوغريبة أنه حاوره في النشيد الذي وضعه والده، فقال بغرابة صادقة:

" وكيف افتعلت هذا ببداهة حاضرة؟!"

" وفيم عساي أحادثه غير أن أفتعل أشياء تشده؟"

" أنت داهية"

كانت أنفاس يعقوب تقاطع الهدوء المحدق بالحظيرة، وقد أخذ مكانه ناعيا على صاحبيه برودة أعصابهما أمام هدير الرصاص.

" رصاصة بعيدة جدا "

" أحسست وكأنها سقطت بين نعلي"

" وما الذي أخرجك في مثل هذا الوقت؟"

ساقت أمسية اليوم الموالي عكس صبيحته حشدا من الملمّات التي تطفف الدوار مذاقها راغما؛ فيعقوب آب الى الشيخ المكي بمظروف نبأ استشهاد الناصر، وما أن افتضه الشيخ عطاء الله حتى لحق السيناتور بيعقوب صائحا في وجهه:

" أصبحت لا تحمل إلا بيانات النعي!!!"

وأزعج تطيّره حلقة الرعاة، بل أن يعقوب طلب إعفاءه من وظيفة البريد المشئومة، إلا أن قائد العرش ما عتم أن قدّم اعتذاره بعد أن زايله إحساس المفاجأة:

" صدّقني لقد كان زميل صبا وشريك قضية "

" وهل تخالني لا أجلّه؟!"

وبكى الدوار موسطاش الثاني بغزارة، جعلت الخالة زهرة لا تنفرد بالحزن وحدها، وعلّق الشيخ بوخلوة صراحة:

" فاقت ملحمة استشهاده واقعة الحدود"

وضاعف من مرارة الحدث أن الشيخ معلى، شوهد يصطحب الحركي العاشق الى متجر الحداد أياما متلاحقة.

" لعلها تبادلك؟!"

" أقسم"

" العُهر توأم الحُسن لا تنس هذا"

" صدقت ولكن ما السبيل اليها؟"

وتأخر بالجواب ساهما بنظره الى السقف الخشبي للمتجر، محدقا في عنكبوت كانت تنسج خيوطها في تؤدة وإتقان.

" إنني أسألك؟"

" أخطبها من والدها مباشرة"

وشدّد على مخارج الحروف:

" لن يقرنها بحركي ولكن سيأتي دوره"

ولمعت عيناه في خبث:

" ماذا تعني؟"

" لا شيء لا شيء"

واطمأن الشيخ معلى الى الثقة التي تنامت بينه وبين الحركي العاشق، فسأله صادقا:

" هل للضابط عين بطابورنا؟"

وأجفله السؤال وهو يعقد عينيه في غرابة:

" وما الداعي الى سؤال كهذا؟"

وضحك الشيخ معلى ليزيل اللبس أكثر:

" فقط أريد أن أعرف مدى حظوتك عند الضابط"

" آه، فهمت يمكنك الاعتماد علّي"

" وإذن؟!"

جاءهما الحدّاد صالح بكأسين من الشاي وانصرف الى غرفة داخلية، حيث يصارع الكير والمطرقة، كان الرجل يدلك يديه المخشوشنتين في اعتياد ممل، وتشاغل الحركي بنفض حذائه العسكري من بقايا وحل عالقة، الى غاية أن توارى العم " صالح":

" في طابوركم؟ لا أعتقد"

وضحك الشيخ معلى معلقا:

" كلهم جبليون!!"

وبادره الحركي:

"والماصّو؟"

" ناقم لأبيه في صمت"

" ومع ذلك يسوّف في كل شيء"

" لكأني به يُشحن مفجّرا مهولا"

" لا أعتقد، إنه جبان"

وسأله الحركي:

" أراك تُعنى منذ اليوم بأمور لم تكن لتسترعي انتباهك؟"

وتنهد:

" صحيح. كان علينا أن نتعاون"

" تقصد ماذا؟"

" أقصد أن أساعدك في الزواج من الحسناء"

فرحا وهو يبتسم:

" وستجدني رهن إشارتك"

ارتأى الشيخ معلى أن يقول مثل هذا أو أكثر، ليزيح عن صدره وطأة يكابدها منذ شجاره مع الشيخ المكي، وليمهد السبيل الى مجد يتراءى لا يفصله عنه إلا وثبات يسيرة.

وكاد الوضع يُعرب عن جديته حين دُعي الشيخ معلى البارحة لتمثيل الطابور في اجتماع الأعيان بدون مقدمات كافية، حيث كان لإشارته أصداؤها:" فليعفنا السيد الصاص من قضية النساء هذه لكي يُبقي على شعبيتنا، وسيجدنا رهن ما يوكل الينا من مهام"

وأثنى الضابط على حماسته الفياضة، وواعده بالنظر مجددا في مسألة تمثيل الطابور بعد عدم صلاحية الشيخ بوخلوة وعنجهيته غير اللبقة؛ وعن قصد تجاهل رئيس مكتب الحرب النفسية قضية " الحسان الخمس" كما أصبحت تُعرف في الدوار.

منذ حضوره هذا الاجتماع غير المطول، عدل الشيخ معلّى عن مقاطعة مجلس المُصلّى، مظهرا كثيرا من التسامح تجاه السيناتور الذي بالغ في اعتزال الكوراط الجديد، رغم أساليب حديثه التي كانت قميئة بأن تورطه في حوار جماعي أو ثنائي معه، والحق أن الشيخ بوخلوة لم يتوان في التصدي له، وإفحام ادعاءاته المُبيّتة سيما منها تلك التى تخص ما يواجهه " الضابط" من ضغوط وعنت، في سبيل إبعاد ما يجعل الجيش في مجابهة مع الدوار والقرية.

" فلكم أحسست بمعاناته من خلال خطابه"

وأضاف مزهوا دون أن يشاطره المجلس فرحته:

" قال إنه ملمّ بنفسياتنا والتزاماتنا الدينية، ولكن التضحية بالجزء، تجنبنا التخلي عن الكل، فبالمرونة نكسب تفهم الآخرين"

وغادر الشيخ المكي المصلى العام في صمت مطبق، ولحق به الشيخ عطاء الله الذي ما أن ابتعد قليلا حتى قال:

" إنني كمسؤول فرع أعتزم إشعار القسم بطوارئ هذه الببغاء، وعليك أن تُمرر كتابي بوصفك قائدا للعرش."

" أبرقتُ إليهم بتمهيد حوله فنصحوا بمزيد من المعلومات"

وقال الشيخ عطاء الله في ضيق وهو يشخّص احتجاجه بأصابعه العشرة:

" والحركي؟"

" وهل أغفل أمره؟ لسوف تلعق دماءه العفنة الذئاب"

" ولكن كيف والحراسة على ما ترى؟! أخشى أن تُكتشف ثغرة مجرى الوادي فتوقف عملية التموين هي الأخرى"

وزفر السيناتور:

" هو ذا ما يثقل تفكيري؛ يكاد أسلوب تضييق الخناق يقضي على كل تحرك"

ولصقت عيونهما بشبح الواشمة وقد غادرت خيمتها نحو محضن الدجاج، الذي أعدته قريبا من زريبة العناز، وقد أحاطت بها الكتاكيت في اجتياح خلف دجاجة في حالة نفاس، وصاحت الواشمة:

" علي.علي، خذ هذه الكمية من البيض الى الطريق العام، احذر الانتقاص من الدراهم"

وخلف "علي" سعت مجموعة من أنداده، تهزهم رغبة المشاركة في نشاط تجاري طريف وممتع.



محمود حيدار (1).jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى