محمد خضير - القصة اواخر القرن العشرين..

في وسط طوفانٍ من النصوص السردية، يكون الحديث عن تجربة خاصة معتّقة بالجهد والاخلاص فرصة نادرة وجزيرة ترسو على ساحلها رؤى قصصية بعد تطوافٍ وضياع.
لقد وجدت الأجيال الماضية مثل هذه الاستراحات الاضطرارية، ولعل اقدمها استراحة الفترة الستينية؛ اما جماعة البصرة، فقد ألقتها انكساراتُ الحرب الثمانينية وانتفاضة ١٩٩١ على ساحل نهاية القرن العشرين، لتكتشف عند هذه المحطة قضيتها الاشكالية المتمثلة بكتابة نوع ادبي هو القصة القصيرة، والتجريب فيه، وسط أمواجٍ من الشك بأهميته النوعية وطبيعته الشخصانية التي تنعكس عليها صور الذات المغتربة عن فترتها وقضاياها الايديولوجية.
أصدرت "جماعة البصرة" إحدى عشرة حلقة بين الأعوام (١٩٩١- ٢٠٠٠) تميزت بثيماتها الإشكالية وبنائها التجريبي ومظهرها اللغوي الجارح والخارق؛ شارك في إصدارها أكثر من ثلاثين قاصاً متغيِّراً، جلّهم من البصرة؛ وقد اختاروا طباعة قصصهم بطريقة الاستنساخ الضوئي (الفوتو كوبي). أعادت دار شهريار طباعة هذه الحلقات، غير أن تجديد الثوب لم يستر الرائحةَ المعتّقة من النشور، والخفاءَ من الظهور. وإذ غاب عددٌ من مؤسسي الجماعة عن هذه المناسبة، فقد فرشَ من تبقى منهم بساطَ التذكّر والحضور.
أقصِر ملاحظاتي هنا على نصوص خمسة قصاصين ضمنّوها -الحلقة الاولى- الصادرة في ٣١ تموز ١٩٩١، لكون النصوص قد شقّت سبيلاً مشتركاً لذاكرة المجموعة، ولأنها رسمَت اتجاه الرؤى الاستبطانية المستقبلية لكتّابها، لا يحيدون عنه ولا يتهاونون في توكيده إزاء واقع جهم غير متصالِح:
١. مستوطنة الكلاب- لقصي الخفاجي: أهدى الكاتب قصته هذه الى (ك.) بطل قصة "مستعمرة العقاب" لكافكا، متأثراً بالأجواء القاتمة والمعتزلات الاضطرارية على حافة مدينة ملعونة. لغة القصة شخصانيةٌ فجّة، غير مسوّاة، تتناسب وحدثها الاستثنائي، وفحواه الدائر حول أشخاص يجزرون قطيعَ كلابٍ محجوز في مستوطنة نائية. كانت مراقبة هؤلاء الأشخاص يقومون بعملهم الإجرامي باعثاً لشعور القرف والغثيان، ومنظراً موصوفاً بلغة مجزوءة من أعمق ظلمات النفس الباحثة عن ملجأ لها هادئ وأمين. حين تقرأ قصي الخفاجي تسلّح بشيء غير الحياء والألفة والمحاباة.
٢. الجثة- للؤي حمزة عباس: رؤية أولية لما ستكون عليه خيالات "الجسد" المنتهك في الحرب، التي خاضها البطل جندياً، والقاص مراقباً لحوافّ الجثث الملقاة في العراء، او المحمولة في أحواض السيارات العسكرية. سنتعرف في قصة لؤي المبكرة على لغته السردية المسنّنة الحافات، المتماسكة كمنشار، لا يتوقف عن التعرج والالتفاف، في جملة متصلة واحدة. عليك أن تقشّر طبقات لغوية عديدة، وتزيح نفايات التقشير، لكي تصل الى اللبّ الأبيض للنص. ولا أعني هنا النهاية، فليست لقصة لؤي حمزة نهايةٌ ما.
٣. المقعد الثامن - لجابر خليفة جابر: قصة "سائلة" يستقدمها القاص من محطة قطار، خالطاً في لغتها صوراً متشابكة، غير مرتّبة، تنتهي باعتقال الجنود لراكب المقعد الثامن. تتكرر في سياق القصة لفظة "السيولة" ومشتقاتها لتوكيد الزمن المتذبذب في التقدم والرجوع، الصعود والهبوط، التقدم والانكفاء، السموّ والانحطاط: أي ما سيميز قصص جابر خليفة التالية من انسراح وتمييع لحدود الزمان والمكان في رؤية سامية على حدود الواقع الحقيقي، بانبعاثات لغوية عرفانية متشخّصة بأكثر من قناع.
٤. الدخان - لكامل فرعون عيادة: قصة فتاتين ترتبطان بصداقة يلفّها مونولوج من الخواطر والمشاعر المتبادلة، ويحوطها الواقع بدسائسه وخشيته من "العار". تنتهي القصة بحريق مدبّر يودي بحياة إحدى الفتاتين، وتصاعدِ دخانِ الفضيحة التي تسترها القصة بلغة الكتمان والخشية والترقب. تسيل ذاكرةُ السرد في تكتم واحتراس إزاء علاقةٍ محكومة بالترصد والانتهاء المأساوي. ما يفصل موضوعَ قصة كامل فرعون عن موضوعات القصة الواقعية الاجتماعية النقدية، التقليدية، خيطٌ من دخان يتصاعد من ذاكرة لا تكترث بالحبكة المحكمة قدر اهتمامها بالأثر اللغوي والتداعي الحرّ للانفعالات النفسية شديدةِ الصدق.
٥. الحاضنة ١٩١٤- لوحيد غانم: يبحث القاص في ذاكرة امرأة أرمنية من رعايا الحرب العالمية الأولى عن آثار غريبة، وذكريات متناثرة، وأمكنة متبدلة، وشخصيات ثانوية تحيط بالكامب الأرمني وتشارك عزلتَه وأفعالَه اليومية. وما على القاص المفرِّغ لذاكرة الحاضنة الكبرى هذه (سليلة الجدّات الماركيزيات- نسبة الى ماركيز) سوى متابعة جملته القصصية المتواصلة بخفةٍ ومرح وإيحاءٍ جنسيّ وتفاصيل صغيرة غير بائنة للعيان، ليحقق درجة عالية من المتعة والتغريب. كانت هذه القصة محاولة وحيد غانم الاستباقية في اختطاط عالمٍ هامشيّ "افتراضي" يلتقي فيه بشخصياته غير العربية من الكرد والبلوش والأرمن والانجليز، ومواصلة البحث عن أهواء ونفسيات غير متماثلة مع زمنها وأسلوب العيش فيه.



* طرحت هذه الملاحظات في جلسة بقصر الثقافة والفنون في البصرة بتاريخ الثامن من شباط ٢٠١٨
  • Like
التفاعلات: حيدر عاشور

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى