محمد حيدار. - الفصل الخامس من رواية " دموع النغم "

5- صراخ في خيمة السيناتور:

اختمر المتوقع لدى الشيخ عطاء الله، فلم يفاجأ بنقل بوغريبة إلى حيث يوجد الآن، بيد أن الذي ظل خارج الاحتمال، أن يُقتل الرجل من فوره كما أشاع الرومي ويعقوب بعد بلوغهما المحتشد، فالرومي شاهد المسلحين الثلاثة يتحلّقون حوله ويقتادونه إلى الجبل، وما أن اختفوا عن أنظاره حتى طرق أسماعه ما يشبه دمدمة رصاص!

ويعقوب حمّل مشهد إلقاء القبض من الوحشية ما لا يطاق، مما حدا بالشيخ معلى أن يصف مثل هذا بأنه لايخرج عن مقدمة الإعدام في أبسط الفروض.

ولاكت الألسن طرائف بوغريبة في تشف حينا وفي شفقة مكتومة أحيانا، وأنست الفرحةُ حليمةَ هموم الحركي المعاكس الذي أبان عن أنياب بات يحجبها وجود الشيخ المكي من قبل، فهو قد حادثها أثناء عودتها من خيمة الشيخ بوخلوة بل وأمسكها من الذراع، وهي تؤكد للجميع أن أظافرها قد أحدثت في عنقه تقاطعا كميسم البعير، أما هو فزعم للشيخ معلى أن حليمة بادلته كلاما، وجادل الشيخ معلى رجالا حاولوا إعلاء شأن عفتها لحظة المجابهة.

وانتهى الأمر بوعد من الشيخ بوخلوة بالشخوص غدا الى " الديوان" رغبة في الاحتجاج، وقد كان عند وعده، فمع توهج الإشراق صعد الأكمة يرافقه الشيخ مبارك، وقريبا من الديوان حيّاهما الحركي عبد الصابر مداعبا عنان جواده الكميت، ودلفا الى قاعة خارجية مستغربين سرعة الرغبة في استقبالهما من قبل " الضابط" هذه المرة.

" صباح الخير سيدي الحاكم"

" صباح(الكيغ)

وتقدم الحركي ذو الطاقم الذهبي بإشارة من " الضابط"، ليتولى ما يشبه القيام بترجمة فورية.

" فعلت حسنا إذ زرتنا يا شيخ بوخلوة."

" إنما جئناك في شأن الـــ"

وأشار عليه بالسكوت.

" بل إنني أحتاج إليك في أكثر من شأن لو تدري"

وأشعل غليونه في تريث:

" أين راعيك بوعلام العايدي؟ لم يستظهر رخصة الرعي لحراس السياج البارحة؛ إنه أيضا لم يوقع على السجل الاجرائي بالديوان كما عودنا أسبوعيا؟؟!"

وكما لو أن المفاجأة أذهلته:

" لقد استدعي من طرف ثكنة الجيش، ولا أدري ما حلّ به بعد ذلك؟"

وضحك " الضابط" ضحكة يدركها الشيوخ بعمق:

" أمُضاف هو الى تشكيلاتكم إلى هذا الحد؟"

وخيّم صمت مؤقت تتبّع فيه الحركي رموش " الضابط" المتذبذبة وأردف:

" بمعزل عن حكاية الراعي، لي معك شأن"

وباستدراك عفوي:

"آهـ. تعني قضية الإستقالة؟!"

وفي اضطراب هذه المرة:

" ولا هذا أيضا"

وسكت الشيخ بوخلوة بعد أن بادل مرافقه نظرة فارغة من أي مضمون.

" هل تعتقد أن الشيخ المكي كان يخفي عنك نشاطه الهدّام؟"

" أي نشاط؟!"

" تسألني؟!"

رفع سماعة الهاتف وحادث شخصا ما بلغة غير مفهومة لدى الشيخين، ومرّت هنيهة ارتباك صامت وضع خلالها الشيخ بوخلوة سبابته على التقاء شفتيه بشكل عمودي ساكن، وأجفله بروز عسكريين أديا التحية بشكل رمزي مستعجل.

انقاد الكوراط الأول لقوة جذبهما إلى أن أخفاه عن أنظار الشيخ مبارك منعطفُ الرواق، فاكتسح بمفرده ضلاع المنحدر الصخري في أوبة الى المحتشد وكأنه يكتم صيحة.

تزاحمت مجريات الطابور إلى حد درجة التخمة، وتشرّبت أنبأ اعتقال الشيخ بوخلوة ما سبقها من طوارئ، كان حجم الفاجعة قد طمى بشكل هرمي على مجرد التأمل فيما حدث، بحيث لم يمهل حتى أولئك الذين يتعاطون مداعبة الحاسة السادسة في سماحة على تصويب قذائف الارتياب نحو الشيخ مبارك، أمّا لدى أخرين فما زالت رائحة بوغريبة تعبق في كل جديد يصدرعن القلعة.

قد لا يستجمع غياب بوغريبة محصلة الإدانة، ولكنه كان فاتحة الاستنطاق على كل حال، ومعنى هذا أن " الضابط" قد تفطن الى عملية المقايضة التي حصلت بينه وبين القسم، أوغل الشيخ معلى في التوسع داخل هذا المنفذ لا يروم في هوامش الأحداث مدعاة للفزع أو الاحتجاج ضد أحد، إذ ما الحافز على ذلك وقد أعلنت الساحة عن خلوها من أدنى الطامعين في المنافسة؟ ولكم خدمته الساعات القليلة الموالية وهو يتسلم صفة قائد للطابور (21) في إعلان رسمي باجتماع الأعيان.

وعلى عجل تلقى التهاني وانتظم حفل نسائي تحت إلحاح زوجه رقية، قاطعته زوجتا الشيخين بوخلوة والمكي لأسباب لم تفصحا عنها في حينها، وطلبت حليمة إلى بنت النمر أن ترفض الدعوة بإيعاز من والدتها ، ولاحظت العجوز زهرة أن قائد الطابور يعاود سؤاله عن ابنها جمال فأجفلها التكرار، وزار الحركي العاشق خيمة الحفل فأربك بذلك جمعا أجبرته المناسبة على الحضور، وتوجس الشيخ معلى في عيني الحركي طارئا وهو يدعوه للانفراد به:

" أحتمل زيارة الضابط وحرمه"

وعقد حاجبيه في جذل غامض:

" تعتقد أم ؟!"

" هو ذا كل ما عندي"

وأسرع إلى زوجه بالخبر، فتساءلت يدفعها البشر، عن تمنّع حليمة من أن ترتبط بالحركي العاشق؟

" مذ أن عرفناه لم نعرف إلا الخير"

أمام الانعكاس غير المنتظر الذي خلفته مسألة " الحسناوات الخمس" على حضور المرأة في الأروقة شبه العامة، تضاعفت نقاط الحراسة على امتداد السياج الشائك، وأسندت إلى فرق عسكرية دائمة مهمة الجوس خلال الطوابير ليلا، الأمر الذي كاد أن يحسر دور المكتب النفساني(الصاص) على خريطة الأهالي، وهي وضعية لم يكن " الضابط" ليتحلى بحلم ازاءها، فمنح الحركَى مجالا أوسع في صيانة أمن الدوار ليلا.

جاء الإجراء بمثابة إنعام على الحركي العاشق، سيما وإنه أعقب اعتقال الشيخ المكي بأسبوعين كاملين، كانت معاكسات النهار خلالهما تبدو مستهجنة وفارغة من الجدوى، وهامس مبارك الشيخ عطاء الله:

" ليس في إمكاننا إشعار القسم بمترديات الوضع إلا بواسطة يعفوب!"

" أجل، لقد أحكم الحصار فورأن اتضحت عمالة الشيخ معلى"

" والتموين؟"

" هو فقط ما يشغل بالي"

لم يسارع الحركي العاشق الى مغادرة الدوار حين أعلنت الشمس عن نفاذ شحنتها الضوئية، فالفرسان من زملائه والراجلين على حد سواء يتناثرون خارج الخيم، والجيش يقيم بخوذاته الرمادية جدارا خلف السياج، وداخل هذا الوسط تستيقظ رغبة المداعبة من جديد.

" حليمة؟!"

مصدر قوتها على الصمود أين يكمن؟! والصمود حماقة حين يتعلق الأمر بواحد في مناعة الحركي العاشق.

وحزّ في الوجدان البكر بدوره أن يُحاصر لمجرد أنه يقاوم بطريقته الخاصة، وهل من طعنة أشد على القلب البشري أكثر من تلك التي يتلقاها من جنس ما يناهضه؟، وسرحت بخيالها نحو "جمال" الذي باتت تطارد لفتة منه في كل ظلام، فرفض الخفقان وأخلى السبيل إلى قلوب تنعق بما يشبه الانتحار.

ولامست سمعها قصبةُ الرومي تختلس الحبو عبر أشباح الخيم الجاثمة، الرومي صار ابن المناسبة، دخل الآتي، تعوّد لعبة الفقدان، كانت تعتقد أن موت بوغريبة، وبالصورة التي عرفها الدوار ستضطره إلى اعتماد فترة حداد، غير أن ما يخترق أذنيها يدعم حقيقة أخرى تتوازى فيها المرارة ونقيضها.

حلّق وجدانها مع نوتات القصبة وهي تستقرئ ألحانا غير قابلة للحفظ لروعة سحرها، وخُيّل إليها أن سجاف الخيمة قد اهتز هزة غير تلك التي يحدثها نسيم منتصف الليل عادة، ولكن عذوبة الأنغام تشرّبت وشوشة الريح ذاتها، وأخضعت خفقان السجاف إلى سمفونية الموال الصامت.

ترى من يتلقف حليمة في لحظة الحضور الرومانسي هذه؟! أي الأحايين يستبيها؟ بياض الماضي أم عقم الحاضر؟ من وماذا تريد

هذه المتنسكة خلف تلغّز غايتها؟

وأدخلها التفكير في جمال جاذبية " الكاعب"، ترى ما الذي حدث له معها؟! هل رحلت برحيله يشدها اكتمال النسق؟ وارتعدت ثم أصخت بكل حواسها، كانت الحركة السابقة قد أعدت بشكل سافر هذه المرة، وغلب على روعها أن أحدا ما يكون قد ولج الخيمة في اندفاع شبه قوي، فأحسّت بما يشبه الدبيب يسري في عروقها، وضغطت على ذراع والدتها الممدودة في استسلام، غير أن هذه تعالى شخيرها بشكل مفزع.

" من هناك؟!"

هل نطقت فعلا ؟! أم انها تعتزم النطق؟ وباغتها انقضاض هيكل ما، شعرت بجسمها يذوب كلية تحت وطأته، صرخت بأقصى صورة موجعة، وقفزت أمها مذعورة:

" حليمة ما بك؟!"

وبكت الفتاة في تشنّج مؤلم:

" الخ ب ي ث"

وتفطنت الوالدة تلفّ أعصابها صدمة كهربائية، فصرخت دون أن تُفزع الصرخة أحدا:

" هل تمكن منك؟!"

وانساقت الى البكاء بكل قوة صوتها، حاولت أن تجلس دون أن يزايلها التشنج، وتمددت على ركبة والدتها والشهيق يخلخل صوتها.

" لم تردّي على سؤالي؟"

" أغتصبتُ أ غـ تــ صــ بــ تُــ "

وأحكمت يديها على جدائل شعرها في محاولة لاقتلاعه بصورة نهائية، ثم اهتدت إلى تمزيق وجنتيها في عصبية مميتة بأظافرها،

" فعلها إذن؟"

رددت الوالدة مسعودة في ذل، وأقامت نحيبا إلى جانب ابنتها، وأردفت مسعودة:

" كان عليّ أن أحترز لمثل هذا قبل وقوعه"

في هذه الأثناء، برز الشيخ معلى تلفه العتمة، وقد وضع عمامته على رأسه في غير نظام، وفهمت مسعودة أن عبد الصابر ــ وهو يقوم بمأموريته في المحتشد ــ قد سمع صرخات متتالية فأيقظ قائد الطابور، ولولا عبد الصابر لكان القائد قد ذهب ضحية حظر التجول:

" أمتأكدة أنت من أنه هو؟!"

وأشاحت حليمة بوجهها عن سؤاله، فالسؤال لا يحمل براءة أحد، ولكنه يومئ إلى ما يضاعف نزيف الجرح الدامي، سبقتها مسعودة إلى الجواب:

" شبابنا كله مقيّد كالدجاج بحظر التجول، فمن يكون غيره؟"

" لعله حركي أخر أو عسكري؟"

وقال عبد الصابر وقد أخفى الظلام سحنته المقزمة:

" سنشعر الضابط إذا كان الغد"

وتأوهت مسعودة في ذعر:

" لتعم الفضيحة؟! أو ليحيلوها إلى ماخور بدعوى أنها "

وداهمها البكاء فاقتطع بقية كلماتها.

" انظر إليها إن الاغماء يعاودها بين حين وحين"

" ضعي قطرات من العطر في منخريها"

نصح الشيخ معلى دون أن يجلس.

" آه صحيح سوف أناولها من عطر عرسها"

القاتل ذاته ــ كما يرى عبد الصابرــ تبكيه آثار الجريمة حين تستجمع مشاهد قسوة كهذه، وقائد الطابور في هذه اللحظات لا يدري أي الشخصين أقرب إلى رأفته، الفاعل أم حليمة ذات الشرف الصريع؟ أي الشعورين يمخر خلده أكثر؟ لم تستضف عيناه تبللا كما توقعت مسعودة، ولم يشحن التشفي جرسه الصوتي، كان بين بين، يفترسه الازدواج كعادته.

والحق أن وجوم عبد الصابر ينم عن دهشة أكثر اتّضاحا، وما تجهله مسعودة أن القضية لا علاقة لها إطلاقا بذلك التواتر الذي يفرق بدقة بين القبعة الرسمية، وما تحمله العمامة الرسمية من دفء عادة، وأن القبعة حتى وهي تتفولذ لم تعلن استبدال أصلها القماشي بالحديد.

ليست حليمة وحدها تسترجع ما حدث في صورة منام أو أحلام يقظة، بل إن والدتها تناقش المأساة من زاويتها الخاصة، استأذن الشيخ معلى في الانصراف، يتبعه عبد الصابر كطبيبين حضرا بعد فوات الأوان، وسكنت سجوف الخيمة تتعهد الجرح بالكتمان.

الرومي ما يفتأ ينثر أحلامه من بعيد في نظام تفتقده سرعان ما تلتصق بخيمة السيناتور، والعينان اللتان ألهمتا صدور السهوبيين

أعواما تطفئ لهبهما المتصابي حدة الذلة، وترتعش الشفتان الزجاجيتا السمك رغبة في جرعة ماء، وفي لهف محموم تحتضنان الكوب السفاوي، وشدة الظمأ تبخس الماء طعم مذاقه.

الأوراك تردد وحشية الطعنة في ذعر، والشعر المخملي الغدائر يرفض الانتساب إلى منابته الأولى، وحليمة تئن تحت فاجعة يخفيها الليل، في صبر تشفق على نفسها من انبلاج الصباح، لا لشيء سوى لأنه أول يوم في حياة حليمة أخرى مغايرة ، صحيح انها تجهل فكرة تناسخ الأرواح، غير أن تفكيرها الآن يشارف تخوم هذه الفكرة كما لو أنها من مبتدعاته.، وظل يمخرها السؤال:

" هل سيستمر الدوار في إعجابه بها؟؟!!"

وبكت للمرة الألف بغير طائل، وللمرة الأولى ترسّخ في ذهنها

أنها أخطأت حين ركبت رأسها في مجابهة الحركي، فلو أنها تنازلت عن مناطق جانبية ما افتقدت الحصن المنيع دفعة واحدة وفي مجانية قاتلة.

هل ما نصونه كله نتخلى عنه كله صاغرين في لحظة واحدة؟! وبالطريقة ذاتها؟

ولكن الإشاعة دائما تحمل نفس القدرة على التفجير، تعلق الأمر بالجانبي أو بالأساسي، فمجرد مسكها من ذراعها أقام الطابور وأقعده، فكيف بما يحدث؟ وأجهش بزوغ الشمس خواطرها المشتتة، فنهضت وكأنها في طور نقاهة منذ حول تقضّى، محاولة ترتيب هندامها بما يزيل الشبهة أو يخفف من تأكدها على الأقل.

كانت تنظر إلى موقع استشهاد شرفها في إجفال، في إشفاق، في بلاهة، باكية يلفّعها الصمت الثقيل، إن هذا الموقع يمثل بالنسبة إليها ما يمثله قبر ذلك الذي يحتضر في الخلاء وهو لايزال يرقب عملية الحفر، المكان يأخذ صفة القبر حين تصدر فيه أحداث تشبه الموت أو تتجاوزه، منكباها يستشعران قبضة قوية تعتصرهما، آه لو كانت بالبادية على أيام الطلاقة، إذن لطلبت إلى والدتها الرحيل فورا، ليتوارى هذا المكان المفجع ولكن؟!

وأذاعت أولى محطات الخيم النبأ مذيّلا بأسطورة مغرية، ووفدت الواشمة تستجدي لبنا كعادتها مع الصباح، وحاولت حليمة أن تستعيد اعتياديتها الفقيدة، وشخصت مسعودة مصدر آلامها وسهومها وحزنها في اعتقال الشيخ المكي، وكأنها تلفت نظر حليمة إلى هذا المخرج.

" ألحظُ آثار مأتم عندكم؟!"

" أقمنا شبه نحيب البارحة، إن وضعنا ليُبكي حقا في غياب الشيخ المكي، تصوري لقد ألمّ بحليمة وعك في منتصف الليل، فخشيت أن تموت في غياب والدها، إنه ظرف مؤلم ذلك الذي تمر به عائلة بدون سيدها"

كلمة الأم الشبيهة بالثكلى تفرست فيها كل واحدة بمنظورها الخاص، فالواشمة حزّ في نفسها ألا تطيق الناس مبيتا بدون صاحب الخيمة وقد افتقدته هي نهائيا ومنذ أعوام، أما حليمة فقد تمنت لو أنها فعلا ماتت في غياب والدها كما ذكرت الأم، وإذن لكان ذلك في نظرها أهنأ للضمير والوجدان معا

والغريب انه رغم الاقتناع الذي أبدته الواشمة بتعاليل مسعودة،

فقد كانت خيمة الشيخ معلى بعد قليل من انصرافها، أول محطة تذيع النبأ في جنائزية قاتلة، مذيلة بأسطورية فاتحة للشهية في الكلام؛ وأقسمت رقية في جمع نسائي بسبحة الشيخ معلى ان وجه الفتاة يعكس أعراض مرحلة إخصاب سرعان ما تتكشف عن انتفاخ بطن.

" عيناها تنمان عن ذلك!!"

" تواشيح اصفرار تعتصر وجنتيها"

" قيل إنها تقابله بالعراء منذ سنة!"

" ثم تتفكّه بـــــ"الرابلة".

وانزوت زينب كقطة صغيرة بزاوية الجمع الذي يتناوش صديقة العمر في غير رأفة، ولم تزد على أن بكت في سرها من أجل حليمة.

أحدثت نعوت الخالة رقية في حالة حليمة تصدّعا واضحا، وتلقفتها أذان مسعودة في حس الطعنات، فوجهت نحو حليمة استنطاقا أوليا يبدو أن عنوانه ملف يخص ما قبل البارحة.

" ولكنني دائما أنام بين ذراعيك كالرضيع؟!"

ورغم الثقة الأكيدة التي تتمتع بها حليمة لدى والدتها، يبدو

أن البارحة لم تقتصر على زمنها، بل يسندها الماضي بارتجاع ما،

" وماذا تمثل المرأة أمام ضعفها الفطري؟!"

قالت مسعودة كما لو أنها تقر حقيقة لا تحتاج إلى إثبات.

التجريح الجمعي كان مبيدا فعلا، والحيلة أمامه يزدريها واقع الأحداث ومصداقية الفاجعة، إذ ما جدوى أن نُظهر الإنكار إذا كانت ذاتيتنا غارقة في التصديق؟! والتمست مسعودة طريقها الى بنت النمر علها تنتشل نفسها من بؤرة الحمأة التي تبتلع أسرة عُرف عنها أنها لا تطأ حتى الأرض اليابسة.

" أريدك أن تنتهري " رقية" زوج الشيخ معلى، هذه المعتوهة التي تشن علينا حملات بدون سابق عداء واضح"

" ولكنها من تدرين تقتل الميت وتسير في جنازته، سوف تقسم بسبحة الشيخ معلى".

" الشيخ معلى؟! الخبيث تعهد بكتمان المأساة ثم"

وسكتت لتضيف:

" حليمة دائما تنظر إليك كأم ثانية"

وفور أن بلغت بنت النمر خيمة قائد الطابور تعالت ولولوة في صورة مواجهة مكشوفة بالألسن قد تصل حد الأيدي.

" حليمة تجلّك يا خالتي رقية، فلتكن والدتها من تشاء لكن الأمر يتعلق بمستقبلها"

" مستقبلها؟!! لن يكون إلا بجانب الرابلة!"

وعلى عجل أردفت:

" هل نتستر على المُنكر؟! ثم إنني لا أنعتهما إلا بما تصنعان؟!"

وتحركت بنت النمر في مجلسها، وكأنها تعلن عن إخفاق الوساطة:

" أنتما وشأنكما"

" ابلغي حليمة أن عمها القائد قرر الاحتجاج لدى الضابط خلال الاجتماع القادم"

وأكدت يأسها في صمت وانصرفت.

استرجعت حليمة ما بلغها من لاذع القول الذي صدر عن نساء الخيم المجاورة، واستبكت هيئتها الرثة زينب القابعة إلى جانبها في صمت مقبري، اخترقته مسعودة بقولها:

" ثقي ان اللــــــه قادر على الانتقام"

اللـــــه فعلا قادرعلى الانتقام من يشك في هذا؟ ولكنها تريد انتقاما آنيا وشديدا، ينسيها نزيف الجرحين الجسدي والنفساني معا، ما أصعب أن يستشعر الإنسان جرحين في وقت واحد، وحذرتها زينب وقد قامت تلتمس جذاءها:

" احذري نقمة ذاتك، أتركي الأمر لله"

" يشفع لي انني أديم الاعتقاد بجدواها"

" لست أسوأ حظا من الرابلة ومع ذلك لم تفعل"

" شأنها يختلف"

" تذكري نصيحتي"

وتبسمت على مضض، زينب المسكينة السذجة تحذرها من الانتحار، ناسية أن الانتحار إنما يخص الأحياء ولا شأن له بالأموات، إنه يخص الأحياء وهي لم تصر في عدادهم، والانتحار نهاية وهي قد انتهت فما حاجتها اليه؟

انتهت، هكذا خُيل لزينب وهي تنصحها، وخيالها يستحضر أيام " العارفة" (19) حين طالبتها بالإشفاق عن فتيان الدوار، وانتهت في نظر مسعودة، فأي دف سيُضرب لواحدة أصبحت ثيبا بدون زواج سابق؟ ألم تُطرد فتيات في الساعات الأولى لزواجهن لهذا السبب وحده؟!، انتهت. نطق العُرف مُبعدا رأفة الدين، وفي مفترق الطريقين تأرجح سي محمد، انتهت.

وكعادته عقل الليل بحظره نساء حاولن أن يعدنها، فانصرفت إلى مضجعها مبكرا مُضربة عن الطعام، وقد أنهك السهوم والبكاء ملامحها. تناومت بعيدا من والدتها لأول مرة، إذ ماذا تبقّى لتحرس عليه؟

وأيقنت أن الرومي قد كسر قصبتيه الخماسي والثلاثي معا كما أبلغها، بحيث لم تصطحب أنغامه حفيف النسيم المتجول ليلا في طلاقة.

" آه الرومي؟!"

لقد ماتتا معا، مريم وهي، فلماذا فضل العزف في رثاء مريم

واستكن إلى الصمت بعد وفاة حليمة؟! أم انه يعتقد بحياتها وقد أسرع بالإعلان عن موت بوغريبة؟

تناصف الليل أو يكاد ورُفعت أسمال الخيمة في طواعية فأدركت حليمة إنه دخل، فسارعت بالقول وكأنها تخشى انفلات المبادرة:

" لسوف يرتوي من صدرك هذا الخنجر"

ذاك ما تمناه السيناتور حين شهر هذا الخنجر بالذات في وجه الحركي مرتين ولكن.

" أُطلق عليّ النار أيها الخائن، ماذا تنتظر لتقتلني؟"

ونبرت مسعودة في يأس:

" ألا تستحي؟!"

وقال الحركي العاشق مهددا:

" بل سأطلق النار على والدتك"

وقرقع بندقيته إمعانا في التهديد، وفي وهن سقط الخنجر من أصابعها:

" لا تفعل"

وشرقت الوالدة ببكاء نصف مكبوت، مما شجعه على القول:

" حليمة؟!"

" لا تخاطبني"

" إنك فاتنة"

وتنهدت في صعوبة:

" ليتني كنت زنجية شوهاء"

" ولكنني أحبك"

" حب الخونة طبعا"

" اخرسي"

خيل إليها أنها فرصة العمر في الانتقام بالسبل الممكنة، سبل السخرية:

" ستعرف خطورة ما تصنع بي"

" من تعنين؟! القسم؟! يجب عليهم أن يشتروا أجنحة ليجتازوا السياج الفولاذي الملتهب"

وبكت.

" ولكنني سوف أقتلك، أطلق النار على أمي إن شئت سأقتلك"

" هل جننت؟"

" أحذرك من العودة إلى ما نحن فيه الآن أحذرك"

باكرا استيقظت لتدرك انها نامت البارحة، نامت على تعاريج العباب كمركب تحاصره العواصف من كل صوب، ولم يخطر ببالها ان النوم من ليلتها الليلاء قد طلّق مسعودة ثلاثا.

دخلت لعبة السجاف الليلي طورا مزمنا، تجد في ظلام الليل أقوى حوافزها فاضطلعت كل خيمة بهموم فتاتها وأفزع النسيم منام العذارى، وأقلعت الأرامل عن المبيت وحيدات بانضمامهن مع المغيب الى خيم تمنع كثرة أفرادها ألعاب السجوف، فبنت النمر مثلا لم يمنعها فضولها من أن تتناول عشاءها باستمرار في خيمة الشيخ عطاء الله حيث تقيم ليلا.

وأدهش الأرامل أمر الواشمة، إنها الوحيدة التي لم تتوجس من انفرادها المفرد الذي اقتضاه السهر على سلامة الدجاج، فالعسكر لا يؤتمن سيما وأن حوادث سطو على الدواجن قد سجلت في طوابير متاخمة، فهل ينشد الأمان في الحياد؟

وقرر مراد أن يموت عند وعده.

" لا تجهر لكيلا يسمعك الشيخ معلى العميل"

" زينب؟ أحقا أنام و"

" لسوف تمكث في جوف القلعة"

" وليكن؟"

" وأنا؟!سيفعل بي أخرون ما فعل هو بحليمة!"

وأفزعه المشهد حين رسمه خياله بسرعة برق.

" سوف أطلب إلى عبد الصابر إشعار " الضابط"

وقريبا منه صرخت:

" ولا هذه أيضا سينقمون منك"

" سأطلب إلى الخبيث أن يتزوّجها"

وقلبت شفتيها في استياء ممض:

" وما الفرق بعد الذي حدث؟"

واقتربت منه أكثر:

" مراد؟!"

وبكت زينب اللامبالية السادرة عن هموم الأخرين، تبكي الآن وبالقرب من خطيبها:

" ما بك؟"

" أسرت اليّ حليمة انها حبلى"

وبانفعال شديد:

" حبلى؟!! لم تقف اللعنة التي حلّت بها عند حد"

"إنها دائمة البكاء، حليمة التي لم تعرف البكاء حتى أيام موت سالم"

" سوف أجبره على الزواج منها إذن"

وفي يأس دافق:

" تلزمه؟!"

بات ما يحدث في خيمة السيناتور كل ليلة، يبعث في نفس الشيخ معلى شعورا غامضا من الانتشاء بالظفر أحيانا تقاطعه موجات من الندم، فالموقف زاد عن حده، تجاوز ما رُسم له، وعلى الرغم من شُح الاخبار التي تتلقاها زوجه رقية حول حليمة، كان يجهل المصدر المعلوماتي الذي يبدو أنه يطلعها على مأسي الفتاة أولا بأول، فترثي رقية لقيم الطابور وأخلاقياته في تفجع، مؤكدة للجميع أن حليمة لم تك لتُرغم على ما هي تمارسه على رؤوس الاشهاد.

" العُهر توأم الجمال"

هكذا ساير الشيخ معلى آراءها في حليمة.

" وما دمتُ عفيفة فهل يعني هذا انني دميمة؟!"

وتنتزع ضحكاته مرضاتها في تعب:

" جيلنا يختلف، يختلف يا رقية"

وودّ لهذا السيل من المعلومات الساخنة المنتظمة أن يتلمس ظروفا وأشياء ذات نفع، فحليمة صارت إلى أبعد مما أراد، جثة عاجزة عن الإيلام، تمارس الدعارة في تنويم، بل من يدري؟ ربما تفتحت رغبتها على ما يُصنع بها فأصبحت لا تجد نفسها إلا فيه، فحين تفرض علينا الحياة قيمها، ليس في وسعنا إلا أن نطوي قيمنا الخاصة ونقرها على ما تعرضه علينا صاغرين.

وانعقدت دهشة الشيخ معلى وزوجه تجيب عن سؤاله:

" إنها الواشمة، ولقد أوصيتُ الحركَى بعدم التعرض لخيمتها"

" وهل يمكن تسخيرها فيما هو أهم؟"

وقاطعته ضاحكة:

" لكم انتظرتُ منك هذا السؤال"

الواشمة؟ لا ينم وضعها ومنظرها عن أي لون من ألوان الخطورة، فالكل ينظر إليها من باب الإحسان، ولئن كان الدجاج يضطرها إلى المبيت بخيمتها عكس الأخريات من الأرامل اللائي لا مدافع عنهن في حالة خفقان السجاف ليلا، فان للقمة العيش شروطها داخل المحتشد، فأحدى العناز الخمس التصقت بخيوط السياح المكهرب واستحالت سوادا بالأمس القريب.

وإحدى النعجتين اللتين أهداهما إياها الشيخ بوخلوة أيام وفاة سالم افترسها ذئب صغير لم يتمرن بعد على شهية العظام البشرية في رؤوس الآكام، والبيْض ذاته من يشتريه غير العسكر وقادة الطوابير والحركى، أو زوجة الضابط التي لم تكن ضمن زبونات الواشمة مع شديد الأسف؟

أمام كل هذا، أمام هذا الخريف الشامل ظلت خيمة الشيخ معلى وحدها تستنبت الفواكه في غير أوانها، كحديقة خارج الجرم الأرضي.

وأجهض مراد حديث الزوجين الوفيين، وكلّم الشيخ معلى على عجل وفي صرامة لم يعهدها فيه:

" زوّجه منها إذن"

وقهقه قائد الطابور:

" أتخالني ولي أمره؟!"

" فلتكن ولي أمرها هي، هي المتضررة، إن ما يجري ليُسيء إليك أنت قبلنا ككبير دوار"

" كبير دوار؟!! وهل تأكدتم من هذه الحقيقة الآن؟ إنكم لا تؤمنون إلا تحت السيف"

وأضاف:

" ورأي والدها؟"

" لن يُعقّب على أمر نقرّه جماعيا في غيابه"

وتنهد القائد في إكراه:

" لسوف أستعطفه فهو شاب كل سوالبه انه جريء وأحمق"

وهمس مراد في تثاقل وحنق:

" تستعطفه؟!"

وكأنه استفز غضبه المكبوت:

" وهل في حوزتنا أن نفعل ما هو أجدى؟!"

ونكس مراد رأسه في مسكنة:

" صدقت، حاول يا شيخ معلى"

وتساءلت (مدام) رقية كما أسمت نفسها مؤخرا:

" وموقفها؟!"

وتجاهلا السؤال في اتفاق غير معلن، ولكم كانا محقين في تجاهلهما، فهل تُسأل الجثة عن أي المواقع أنسب لدفنها؟!

وكان الطفل بوداود قبل حين قد أقبل إلى خيمة الشيخ معلى يلتمس أعواد كبريت لوالدته بنت النمر، فأبلغها ذبذبات صوتية من حوار مراد مع الشيخ معلى، وحذقت الموضوع لفطنتها، وزفرت قائلة:

" أهي رأفة بحليمة أم إمعان في إذلالها؟!"

وتم زواج عرفي ليُعطي جنين الستة أشهر صفة ما، ولم يستدع الأمر ترخيصا من الضابط أو حفلا كما توقع الأطفال، كل ما هنالك زيارات فردية وثنائية مقتصرة على تقديم التهاني بشكل متحفظ، كانت تتلقاها حليمة في بكاء دائم وفي هندام رث، وبقسمات ينخرها الحداد، وحليمة من ذلك الطراز البشري الذي لا تزيده المسكنة إلا شعورا بالهوان قاتلا.

ولكم اندهشت الحاضرات حين امتنعت حليمة عن تخضيب يديها بالحناء، وفقدت زينب حيلة المحاولة، دون ان يجدي التضرع:

" لسوف أخضّبهما بسواد القدر يا زينب"

أما الحركي فقد كان يتلقى التهاني تأكيدا للرجولة، فالرجل هو فقط من يحقق حلمه ويعرف كيف يسعى إليه، غير أنه رغم تعاطيه الفطنة لم ينتبه إلى السكون الذي عم خندق الرومي أيام الزفاف ولياليها.

والرومي لم يتمن لأحد الموت كما تمناه لحليمة قبل هذا الزواج، ولكنها الحياة كانت أسبق إلى تقتيم صورة هذا الكائن الذي طالما اهتزت لرؤيته القلوب، ولم يدرك الرومي أنه حين يكون الموت أنسب إلى كائن ما، ترفض الحياة أن تخلي وصايتها عليه لتنفّذ فيه حكمها.

تقضت أيام الزفاف وصار الحركي العاشق رجل الخيمة، وكاد المحتشد أن يتناسى السيناتور، تحت زخم المصطلحات الجديدة؛ خيمة الحركي، زوجة الحركي.

ورأى الشيخ عطاء الله موقعه سلبيا إلى أبعد حد إزاء ما حدث، ولكن كان يتساءل دائما:

" كيف؟"

كل ما في الامر انه هو ومبارك يعبران عن سخطيهما كلما التقيا، وأحسا أنهما افتقدا سي محمد فعلا في هذا الظرف بالذات، فسي محمد حين لا يعطيهما الحل، يلهمهما حسن الانتظار على الأقل.

استبدل العام جلده، والشيخ السيناتور وآخرون يحجلون في أغلال القلعة، فالقلعة نهائية الأحكام ، والجلاّد( جوليا) يمارس وظائف وزير العدل في قرية المحتشد الغافي، والحركى يستميلون الأهالي فقد أصبحوا مصدر خدمات ليس في إمكان غير ديوان الأهالي اإن يقدمها ، توزيع الكساء والدقيق أحيانا، ونقل ضحايا التعذيب إلى ممرضية القرية، والأكثر من كل هذا انهم ينقدون من يقّدم وشاية فورا، بل إن رئيس الحركى صاحب الطاقم الذهبي، قد تنازل فأعار جواده إلى الشيخ معلى حين استدعاه ضابط شؤون الأهالي، وفضّل أن يقطع المسافة بين المحتشد والقلعة راجلا.

وشعرت حليمة بانقطاع زوجها عنها بشكل محير، فهو لا يمر بخيمتها إلا نصف مرة بالأسبوع، بل لقد تقضت أسابيع والحركي العاشق لا يدنو من طابور حليمة، وأشيع أن مركز حراسته قد تحول إلى طابور أخر، ولهذه التعلات أمعن في الغياب، كان ذلك مذ شجار نشب بينهما حول تسمية الطفل.

استعادت حليمة وقائعها مع الحركي العاشق، وابتسمت لسبب ما، ما يهمها فيما حدث أنها أضربت عن الجدل كعادتها مصرة على أن تسمي ولدها جمال أو الناصر، لم تنثن رغم أن الحركي العاشق قاطع حفل العقيقة الذي أقامته الخالة مسعودة نيابة عنه، وطعنت حليمة قذائف الخالات، زهرة، الواشمة، بنت النمر والزانة:

" لقيط وابن حركي ويأخذ اسم فحل الدوار؟!!"

زينب تتلقى هذه المتفجرات وكأنها لا تمت بصلة إلى صديقة العمر حليمة، إذ ما علاقة حليمة بهذه التي تحيق بها كل ألوان اللعنات تباعا؟! وبكت حليمة إلى جانب زينب بصدق كطفلة غُرّر بها.

عيون حليمة تحولت فعلا إلى ينابيع منهمرة في ظل الظرف الجديد، وقد كانت أشبه بجلمود عراء، أحقا ينبجس الماء من صخر بهذه السهولة؟ وتذكرت زينب المناحة التي أقامها الدوار حزنا على سالم وموقف حليمة من البكاء كظاهرة غريبة عنها، هل اننا لا نتعاطى التجلد إلا حين تأخذ المآسي طريقها إلى غيرنا؟!

واسترجعت زينب توهج خدي حليمة وحيويتها اللذين تغنى بهما الأطفال أيام " العارفة "، فراعها ما يخيم على حدقاتها من ذبول مدمر، وتذكرت:

" انظر إنها كالعروس"

" إنها تتزين بسخاب أمي"

حين تتأوب بها الذاكرة إلى أيام تقضت، فإنما لتؤكد مدى انتسابها اليوم إلى الموت على حساب الحياة، إنه الأقرب، وتلك حقيقة يدركها فقط أناس دخلوا طور مقدماته.

" بلغني أنه يراود فتاة أخرى بالطابور الثامن"

واستبدل شيء ما في صدرها مواقعه، ولاحق اصفرار مباغت مخلفات بياضها غير المشع، فأردفت زينب:

" وتغارين عليه؟!"

وضحكت في سخرية معتادة منذ أيام الكرامة:

" أغار ؟! ولكن من أنبأك؟"

" مراد. شريطة ألا أخبرك"

وقلبت شفتيها في احتقار:

" وما الضير في إخباري بذلك؟"

وتنهدت زينب:

" القلب لحمة يا حليمة"

" القلب؟! إنه عضلة مقيتة، عضو لعين وظيفته ضخ البكاء فقط"

وغيرت زينب مسار الحديث إشفاقا على صديقة العمر:

" هل تعتزمون إرسال الحمار مع مراد للاحتطاب غدا؟"

وقالت والدة حليمة التي كانت تؤدي وردها بسبحة دقيقة:

" أجل لقد نفذ ما عندنا من حطب يا زينب"

ومع الصباح أذاعت حليمة بشائرها، ولاحظ الجميع أن البسمة قد عاودت الجلوس على شفتيها مذ غادرت كوخ العرّاف " عجينة"، ورددت همساته في أكثر من حلقة:

" لمَ تتسرعين البطيء؟!"

وقاطعه الهذيان، تناوم اهتزت رموشه في ارتجاف مخيف، عاوده الصحو:

" هل هو جمال يا جد؟"

وسكت مُطيلا وأصابعه تناقش الدقيق المتناثر على جنبات الطبق السعفاوي الصغير:

" تلك حكاية أخرى"

" تعني الكاعب؟"

وهزّ رأسه مصدقا، وحلّقت بها روح المداعبة التي كانت قد تلاشت من قبل:

" ألستُ أنا الأخرى كاعبا يا جد؟"

" لها جمالها يا ابنتي!"

وتراجع البشْر الذي أخذ يتشكل بعينيها.

" لقد كان واضحا معك يا حليمة"

" فوق الوضوح لحسن حظي، اعتزله تجهمه بغتة وداهمه الصفاء"

وقالت والدتها مسعودة:

" ألم تسأليه عن مصير أبيك أيتها البلهاء؟"

وقطبت:

" آه، فعلا لقد نسيتُ، أنستني الفرحة"

واستفهمت الواشمة في صدق:

" ومن جمال كاعبنا إذن؟!"

وتضاحكت مسعودة:

" وهل هناك غير الحركي العاشق؟"

وأحست حليمة بجرح قديم يعاوده النزيف، وامتعضت ثم تجاهلت كلمة والدتها:

" أصحيح صرت كاعبا في نظركن؟"

" لم تزايلك هذه الصفة في عيوننا يا حليمة"

وأرقدها الفرح ليلتها تلك، بحيث عاودها الحضور إلى كوخ العرّاف، كان هذه المرة أنيق المنظر، يرتدي برنوسين لامعي البياض، ورأسه استبدل بالخرقة المتسخة عمامة تشاطر عمامة الشيخ معلى بعض تهاويلها:

" من جمالي يا جد؟"

" هو ذاك"

وأشار بيد ترصع أصابعها خواتم من ذهب.

" من؟ سي محمد؟"

" نعم"

"إمام الدوار؟"

" أجل"

وأضاف:

" والذي يليه"

" وما اسم الذي يليه؟"

" السياسي"

" أتزوج من اثنين؟!"

وقهقهت قهقهة صاخبة فأيقظتها والدتها على إثرها:

" حليمة، بسملي يا ابنتي، خيرا إن شاء الله"

وقصّت على والدتها منامها وما أن استرجعت وعيها حتى بدا الليل يمخره سكون يذكّر بأنغام الرومي التي طلقها ثلاثا مذ ليلة السجاف الرهيبة، آه، السجاف؟! في مثل هذا الوقت كانت تثيره خشخشة مقيتة يعقبها لقاء لا يخلّف إلا مزيدا من الجراح النفسية القاتلة.

" بل سأطلق النار على والدتك"

وابتسمت في تنهد، وقبل أن يباغتها النوم ثانية طاف بخلدها سجن القلعة، حيث تترى الشهور بطيئة على والدها، وفاجأها سؤال تخافه، هل أحيط السيناتور بما حدث لها؟، لقد حاولوا أن يستشيروه في مسالة زواجها من الحركي، فلم يفلحوا في الاتصال به، وكان على الشيخ معلى أن ينوب عنه قائلا في مكابدة مفتعلة:

" أخر العلاج الكي"

وكان الكي بداية العلل، واصل الزمن توثباته فأوغلت زيارة حليمة للعراف فيما يشبه القدم، دون أن تنطفئ شعلة الأمل التي وفق في اضرامها.

" لمَ تتسرعين البطيء؟!"

البطيء؟ أكل هذا الزمن المهمّش يعتبره الشيخ عجينة لا شيء؟

وخطر ببالها جمال، لقد صار" القسم" مُصلاّه الثاني، رفض كل لفتة، ما أقساه، ما أقسى سي محمد الذي صنعه ورحل، ما أقساهما معا في زمن القساوة، كم تباين الموقعان موقعها وموقعه؟، كم تباعدت سبلهما؟ مسؤول في جيش التحرير تتطلع إليه زوجة حركي، ما أبشع الصيرورة حيث تتناقض، ما أتفه الرؤى حين يصدمها الواقع.

" تلك حكاية أخرى"

لكم كان العرّاف محقا وهو يصف قضية جمال بالحكاية الأخرى، ما يحزّ في نفس حليمة أن قلبه لم يخفق مرة واحدة بذكرها، تجاوزها حتى أيام العز المنهار، وهي ذي تحن إليه زمن البشاعة، إنها مدفوعة إلى القول بحبه.

" حـــــب!"

ماذا قالت؟ هل هو حب؟ أحقا انها لاتزال قادرة على البذل وقد صارت عقيما؟ فليتكتم كل شعور نحو الناس، نحو البشر.

" آه، يا جمال لقد وُلدتَ كهلا، اختزلتَ عمرك."

ومع الصباح وما أن همت والدتها بغسل كؤوس الشاي تحسبا لأي ضيف جديد، حتى برز وجه الطفل (بوداود) ابن بنت النمر من وراء السجاف، وأخذ ينادي:

" حليمة، حليمة"

" ماذا تريد؟"

" عبد الصابر يدعوك"

وكادت تشهق:

" عبد الصابر؟! أية مفاجأة؟"

وبادلتها والدتها نظرات مبهمة وانصرفت عن تنظيف الكوب الذي كان بين يديها، وعلى عجل ارتدت حليمة خمارها وغادرت الخيمة، فالتصق نظرها بقامة عبد الصابر يقف إلى جانب مراد، لم يسبق لها أن قابلته هكذا مباشرة، وغلب على ظنها أن الأمر يتعلق بوالدها السجين.

" مساء الخير"

" مساء الخير"

وتقدم منها بينما ظل مراد واجما يعكس محياه ظلال تجهم مسبق أخافها.

" أنت حليمة ابنة الشيخ المكي؟"

" نعم أنا هي ماذا هناك؟"

" لقد طلب مني زوجك مقابلتك"

وامتقع لون وجهها أكثر:

" خيرا إن شاء الله"

وتلمظ مترددا:

" لإبلاغك أنك طالق منه"

ورددتها لا شعوريا:

" طالق؟!"

وتشاكس على خديها احمرار مباغت:

" أبلغه أني طلقته قبل مجيئك منذ شهور، مع احترامي لمواقفك يا عبد الصابر"

وقهقه مراد في تعب تشجيعا لها وقال:

" والولد؟"

وزجرته حليمة في عنف:

" وما شأنه به؟"

وكادت تضيف:(الحركي) ولكنها سكتت احتراما لمشاعر عبد الصابر ذلك الذي يحبه الجميع، مفضلة الانصراف، كانت الخالة مسعودة أمها قد أقبلت بدورها لما فاجأها وقوف حليمة إلى جانب عبد الصابر ومراد على قارعة الطريق منذ حين، ولكن خطواتها لم تسعفها على اللحاق بالحديث الذي دار بينهم، فاتجهت صوب خيمة مراد في إثر حليمة.

" هيه يا حليمة ماذا أيضا؟"

سألتها الزانة قبل أن تأخذ مكانها وتضاحكت حليمة:

" طلّقني الحركي"

وقفزت زينب:

" طلقك؟!"

وأضافت:

" الوغد هكذا بدون أية تبعة؟!"

وعلقت مسعودة والدتها:

" أرملة بولد شبه لقيط يا لعفونة الحياة!"

وقالت حليمة دون أن تبكي:

" لقد أخذت ألغاز العرّاف عجينة تعرب عن مضامينها"

ورمقتها والدتها شزرا:

" العرّاف؟!!"

وبطريقة إبراقية مألوفة عندها نقلت الواشمة إلى رقية حدث اليوم.



محمود حيدار (1).jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى