محمد بدوي - الكاتب المصري الراحل يوسف أبورية في مرآة يحيى الطاهر عبدالله.. نثر الحياة الريفية، عندما يهددها الإستلاب

ينتمي يوسف أبو رية الروائي والقاص المصري الراحل قبل أيام الى ما يحب البعض أن يطلق عليه تسمية"جيل السبعينات"، وهو جيل تطهري في السياسة والفن معاً، والتسمية تحاول أن تربط ربطاً وثيقاً بين أكثر من مجال، وبخاصة المجالين السياسي والثقافي، على رغم أن ما حدث في الشعر مثلاً، من تمرد على مؤسسة شعر التفعيلة، قابله استرخاء في السرد. فقد سبق جيل السبعينات فريق أدبي هو جيل الستينات، وهو الجيل الذي أحدث"الانحراف"الأدبي في القصة القصيرة، ثم في الرواية. إنه انحراف عما أسسه"الأدباء"التقليديون مثل يحيى حقي ونحيب محفوظ ويوسف إدريس، سرعان ما تحول على أيدي"بعض"جيل السبعينات الى استقرار وثبات.

وكان يوسف أبورية واحداً من هؤلاء الذين بحثوا عن التجانس الايديولوجي، حين تمحى الفوارق بين النصوص والحياة، ويتسق"الموقف السياسي، مع الانتاج الأدبي. ومن ثم اعتبروا أنفسهم كتاب إكمال لما هو ماثل وإن لم يكتمل بعد، لا كتّاب استئناف، أو اجتراح لطريق جديد. لقد أحب هؤلاء الأدباء اساتذتهم، وبخاصة أن هؤلاء الآباء حين التقوا بهم في أول الطريق، لم يكونوا نجوماً أو أعلاماً، بل على العكس أخذوا صورة"الاخوة الكبار"، لا في الكتابة أو السياسة فقط، بل في الحياة أيضاً. وهكذا أخذ واحد كيوسف أبورية من يحيى الطاهر عبد الله، صديقاً وكاتباً، واكتشفا معاني"المدنية والنمو"على حد تعبير حسب الشيخ جعفر، ووجدا لهما"أصلاً"واحداً: في المجيء من الريف، وفي مفهوم"الواقع"في النصوص كتابة وقراءة، وفي"الانتماء الطبقي"، وفق التعبير الشائع آنذاك في منتصف السبعينات، وفي الحلم بمستقبل للوطن.

وفي الوقت الذي كان يوسف يكتب قصصه الأولى عن"القرية"باحثاً عن"الصدق"في تصويرها، كان يقرأ الأوراق السرية للمنظمات الراديكالية الماركسية، ويسمع قصص يحيى الطاهر التي ينشدها كما تنشد القصائد. وفي مجموعتيه الأوليين"الضحى العالي"1985، و"عكس الريح"1987، يتضح انتقال يوسف أبورية من مفهوم"الواقع"بمبناه التقليدي الى مفهوم آخر يبحث عن"المعنى"في سيرة حياة الكاتب، ولكن من منظور يفتش عن العناصر الأولية الحسية العارية من الرياء الاجتماعي، لحظات عارمة متفجرة بالشبق والأثم وسورة الوجدان، تنفلت من قبضة العرف والقانون، وتتداخل فيها النقائص وتمثل الخرافة مياهها السرية. لعل ذلك، يمكن كتابته عن مجتمعات مغلقة أو شبه مغلقة مثل قرى الصعيد ونجوعه، ولكن ليس عن قرى الدلتا، التي قطعت شوطاً أكبر في الاندماج في الحداثة. وقد طوع يوسف أبو رية لحظات من سيرته ليقول هذه المعاني جميعاً. هكذا نجد"الأب"المهيب المحبوب، ونجد الابن الأصغر، والأم التي تتحول الرغبة عنها الى زوجة الأب الثانية الشابة. ونجد في النصوص جميعاً شعوراً حاداً بالخوف والوساوس، وكل ذلك مكتوب بلغة تتصارع فيها البلاغة التقليدية المأخذوة بجرس اللفظ مع سمات أسلوبية تنتمي الى يحيى الطاهر وبخاصة في"الدف والصندوق"و"حكايات للأمير". لكن الأهم هنا هو ما كان يطلق عليه عبارة"عين الطفل"التي قيلت في وصف قصص يحيى في"الدف والصندوق"وقيلت أيضاً عن يوسف أبورية، وهي تعبير يتصور قائله أن الكاتب يمكنه على رغم خبرات الوعي المتراكمة، أن يعود الى فضاء طفولته، فيكتب من عين الطفل البريء والمحايد ليتطابق السرد، وهو رموز وعلامات لغوية، مع"الحياة"الخشنة الداكنة، أي ليتطابق السرد مع"الحقيقة".

واجه أبورية ما واجهه معظم كتاب الستينات حين انتقلوا من"القصة القصيرة"الى الرواية، وحاولوا مواجهته كل بطريقته، وان ظلت ماثلة - هذه المشكلة - في رواياتهم، حتى لدى أكثرهم حرصاً على سمات النوع الروائي. وفي روايته الأولى"عطش الصبار"اجتهد أبورية في رسم لوحات طويلة لنثر الحياة الريفية، متقصياً حيوات ابناء"العائلة"التي تتصارع على ميراث الأب، الذي لم يعد يدل على المثل الأعلى المتحدر من حيوات قديمة في المعنى الذي صاغه فرويد ووسع من دلالته يونغ، وإنما هو علامة على عنصر واقعي في حياة قرية من الدلتا المصرية تحيا لحظة انتقال رثّ من العلاقات التقليدية الى علاقات الحداثة. وعلى رغم أن النص يعي ما تأسس من تقاليد في السرد عن الريف، لدى حقي الشرقاوي وعبدالحكيم قاسم وإدريس... إلا أن"أثر"يحيى الطاهر ما زال واضحاً، مما يعني هيمنة هذه التقاليد والعجز عن استبدالها بتقاليد أخرى.

تقاليد السرد عن الريف والمدن الصغيرة الريفية سيتم استيعابها ودمجها في سرد واقعي يحاول أن ينمي أفضل ما لدى صاحبه، اللغة ذات النفحة الكلاسيكية، والرصد البطيء لعناصر المكان، والحرص على استبعاد ذات الكاتب على رغم بطء السرد الذي يختار من ممكنات كثيرة، التركيز على ثنائيات الواقع والخرافة، الحسي والمجرد، حتى يصبح الموت أقصى ما يواجه الانــسان لا نقــيضاً للــحياة، بل امــتداداً لها.

وفي تلك اللحظة من عمل يوسف أبورية أُدمجت تفاصيل الطفولة التي كتبت من قبل مع متغيرات الواقع العنيفة، التي تشهدها القرية المصرية، لكن المفارقة ظلت كامنة في تجاور عناصر القرية القديمة: الغرائز الحسية والخرافة والواقع التقليدي، والفلاحة، وعدم وجود كهرباء أو مقاهٍ، مع الانقلاب الحاد الذي يتجاوز التغير في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية إلى تهديد ذاكرة المكان وخزانته التقليدية التي تصوغ حياة الناس. هنا يعود أبورية إلى اهتمامه بالسياسة، وتحديداً تبرز رؤية محددة عن الهوية المهدرة من خارجها. نرى ذلك واضحاً في روايته"تل الهوى"وروايته"الجزيرة البيضاء"وروايته"صمت الطواحين"وفي مجموعاته القصصية مثل"طلل النار".

تستخدم هذه الرؤية عنصر"الغريب/ الغرباء"وهو عنصر قديم في قصصه الأولى، لكنه بعد معرفة طرائق"الواقعية السحرية"من خلال ما ترجم من أدب اميركا اللاتينية، وبعد تبدي آثار"الطفرة النفطية"في الواقع المصري، طوعتها كي تقول إن هوية المكان"مصر"مهدرة بمن يأتون من خارجها، هؤلاء الذين امتلكوا القوة لكي يشوهوا"الكائن الجميل"الذي لم يعد يملك كثيراً من عناصر المقاومة. وقد صاغ هذه الرؤية خطاباً روائياً يلوذ أحياناً بالفانتازيا الخشنة، التي تتحول الى حكايات رمزية أو"أليغوريات"ذات طابع سياسي، وتتحول إلى أداة لقول أيديولوجي عن واقع يتأبى على سلطة الكاتب وتأويله. ومن ثم ليس غريباً ان يتجاور في الخطاب الروائي ليوسف أبورية، الواقع الثقيل والتأريخ لمصائره، مع غنائية فخيمة ترثي مصائر المكان وهويته التي يهددها الغرباء. لعل ذلك راجع إلى سلطة الأيديولوجيا"الوطنية"التي أصبحت ملأى بالثقوب والصدوع، ومن ثم تتبدى في الخطاب الروائي رغبة في بث"المغزى"المتجانس السابق على عملية الكتابة.

هذه الأيديولوجيا"الوطنية"كأي أيديولوجيا تغض طرفها عن عناصر كثيرة، فهي هنا تصاب بالعمى عن رؤية العناصر الذاتية السلبية التي تحدد تطور الواقع وجنوحه نحو التشوه والرثاثة، وتلقي بالمسؤولية على عناصر خارجية غريبة عنه، ما يعني الرغبة في تبرئة الذات، ولذلك يلمس قارئ هذه الروايات أن اللجوء الى الفانتازيا ذو طابع نفعي أيديولوجي، فنجد أنفسنا مع شطح خيالي خشن وناتئ.

* ناقد مصري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى