عبد العال الحمامصي - للكتاكيت أجنحة.. قصة قصيرة

دخلت غرفة النوم .. وخلعت ملابس البيت .. ثم ارتدت فستان المناسبات الوحيد لديها .. ووقفت أمام المرآة تمشط شعرها استعداداً لاستقبال خطيب أختها وأسرته .. والضجة في الصالة تنفذ إليها صاخبة .. تموج بالفرحة .. نساء وعذارى وأطفال .. وزغاريد تتعالى بين كل لحظة وأخرى .. كلما قدمت مدعوة جديدة.

تمنت "سعاد" لو أن تظهر بفستان جديد في هذه المناسبة .. الفستان القديم لم يفقد بهاءه، ولكنه ضاق قليلاً عند خصرها. والجنيهات التي وفّرتها لشراء فستان جديد .. أعطتها لأخيها ليبتاع بها مراجع جديدة ظهرت في الهندسة الكيماوية.

ومن خلال الدوّامة في الصالة تناهت إليها زغرودة داوية، اهتزت لها جدران البيت، ثم جاوبتها زغاريد المدعوات جماعية، هادرة.

عرفت سعاد صاحبة الزغرودة، فابتسمت. إنها خالتها حميدة التي تدخل دائماً بعاصفة، سواء في الأحزان ..أو في الأفراح.

وتأكّد اعتقادها عندما هدأت زوبعة الزغاريد التي أثارتها .. وتدافعت عبارات التهنئة من فمها "لنهاد" منفعلة باهتياج الفرحة.

ـ مبروك يا نهاد .. ألف بركة ..ربنا يتمم بخير يا ضنايا .. وعقبى لكل البنات ..

وقبل أن تجلس بجوار جارة أزاحت طفلها لتفسح لها مكاناً بجانبها .. انطلقت نظراتها تتجوّل في أرجاء الشقة باحثةً عن سعاد.

ـ أين سعاد يا بنات؟ .. أين رجل العائلة؟!

وابتسمت سعاد داخل غرفتها .. ساخرةً، وقد شعرت بالكلمة تخدش قلبها، وتتلاقى مع أحاسيس غريبة ظلت منذ الصباح تُقاومها! .. ربما للمرة الأولى في حياتها تشعر بالمرارة لوقع الكلمة .. رجل العائلة ..! همست لنفسها بالعبارة .. وانسابت الكآبة في روحها .. انسابت تياراً هادئاً من الأسى جرف كيانها!

رجل البيت!! .. عادت تردد الكلمة وهي تجفف قطرات من الدموع طفرت على الرغم منها، ثم انبثقت من أعماقها خواطر تلومها .. وتستنكر هذا الإحساس منها بالأسى والاكتئاب في ليلة خطوبة أختها.

وعاد نداء خالتها حميدة من الصالة يستعجلها، وهي مازالت أمام المرآة تعيد تصفيف شعرها.

وضعت سعاد "المشط"، وخرجت إلى الصالة وفوق ثغرها ابتسامة عريضة، وانفجرت الزغاريد في وجهها وهي تُرحب بالمدعوات .. وتقبل مجموعة من زميلات نهاد في "معهد المعلمات"، جئن أثناء وجودها في الغرفة، وتتمنّى لهن العاقبة .. فتشرق الأحلام في عيونهن، والجارات من حولها يتبادلن التمنيات لبناتهن، كل واحدة تتمنى العاقبة للأخرى .. هي الوحيدة التي لم يقل لها أحد العاقبة لك .. ولا واحدة قالت لها الكلمة المعتادة .. ولا واحدة!

وعادت الكآبة توخز قلبها! هي .. شيء عرفت مصيره. شيء لا مستقبل له! .. والتقت وهي خارجة من المطبخ بخالتها حميدة، ففتحت ذراعيها تحتضن المرأة البدينة الطيبة.

ـ مبروك لأختك يا سعاد .. عقبالك انتي كمان يا بنتي. ربنا يعوض صبرك ويرزقك ابن الحلال!

ابن الحلال؟ .. خالتها حميدة هي الوحيدة هنا التي ذكرت أنها أنثى، وأن من حقها أن تُقال لها الكلمة .." ابن الحلال".

شعرت سعاد بالكلمة توجع قلبها، نفذت داخل أغواره، تُثير لواعجه الكامنة فلم تستطع هذه المرة أن تمنع المرارة من أن تشوب ابتسامتها، وتطل من عينيها.

ـ بعد ما شاب .. يا خالتي .. قلت لك من زمان .. خلاص يا خالة .. أصبحت رجل العائلة!

خالتها حميدة هي التي أطلقت عليها تلك التسمية؛ فليلة زفاف وداد هنأتها بزواج أختها، وتمنّت لها ابن الحلال. وأجابتها سعاد بأنها قد تزوجت .. تزوجت أخوتها، وأصبحت "رجل العائلة".

ومن وقتها وخالتها حميدة لا تُناديها إلا وهي تُداعبها بتلك العبارة .. رجل العائلة .. بدون أن تعرف أنها تدمي بها الجرح الكامن في أعماق أنوثتها، والذي تحرص سعاد دائماً على أن تُداري عن العيون نزيفه!

تركت خالتها عندما جاءت وداد "بالشربات"، وأخذت تُساعد أختها في توزيع الأكواب على المدعوات والأطفال، ونظرت إلى ساعة يدها .. الثامنة والنصف .. الخطيب موعده التاسعة ..

وحانت منها التفاتة للعروس في ثوبها الأنيق .. فاتنة، وحلوة، والسعادة تزغرد في عينيها .. ومن حولها البنات زهرات شذية يحطن بها، والأحلام في كل عين، والابتسامة فوق كل ثغر .. كل واحدة في قلبها الإحساس بأنها على موعد مع الغد!!

وأفاقت سعاد من خواطرها على صوت الزغاريد تنطلق عاصفة. واستدارت فوجدت الخطيب خلفها وأسرته. ثم انطلقت الزغاريد من جديد، واشتد حماسها ودويها هذه المرة عندما دخل شقيقها رشاد .. "الباشمهندس"، وانهالت عليه التمنيات .. بالشهادة والعروس.

كل واحدة هنا لها أحلامها إلا أنت يا سعاد .. الباشمهندس .. أعطيته دم قلبك لتقدِّميه في النهاية إلى واحدة أخرى .. تأخذه منك. إنها تعرف ذلك مقدماً .. تعرف أنها مجرد صانعة أفراح .. وليست لها أفراح تخصها .. هي بلا أفراح .. هي رجل العائلة!!

وقدّم العريس "الشبكة" وألبس الخطيبة "دبلتها" .. وانطلقت الزغاريد!

ونظرت سعاد إلى "الدبلة" في إصبع أختها، وتذكرت أنها ذات يوم .. كان في إصبعها هي الأخرى "دبلة" .. كان لها خطيب ..

ومن خلال الضجة والزحام والزغاريد، تدافعت الذكريات إلى مخيلتها ..

كانت صغيرة .. لها أحلام مراهقة تحلق في أجواء فسيحة. وكانت نظرات الإعجاب تُحاصرها في كل مكان. ورغم أن عبارات الإعجاب كانت تدغدغ بالفرحة روحها إلا أن سعاد ظلت تدّخر عواطفها، وتغرقها في المذاكرة، حتى تتخرّج من الجامعة، وتلتقي برجل أحلامها وفي يدها شهادة تحفظ عليها كرامتها، وتساعد بها زوجها في معركة الحياة، ليكون بيتهما سعيداً، ولتُجنِّبه الحياة المكدودة التي يعيشها والدها في كفاحه المرير من أجل أن يقيم أود عائلته، ويدفع لها مصاريف المدرسة.

أغلقت سعاد قلبها دون أي نداء ..

وابتسمت الدنيا في وجهها عندما نالت شهادة التوجيهي بمجموع يتيح لها المجانية في الجامعة، ولكنها كانت قد اتخذت قرارها.. سوف تشتغل بشهادتها وتنتسب لكلية الآداب في الوقت نفسه لتوفِّر على والدها الطيب نفقاتها الخاصة، ومن جهة أخرى لترد له بعض الدين!!

وخطبها أحد زملائها في العمل، اجتذبته أخلاقها واستقامتها كما قال لها. مانعت سعاد في البداية، ولكنها أخيراً قبلت عندما وعدها بأن ينتظرها إلى أن تستكمل تعليمها العالي .. ووضع الدبلة في إصبعها!

وأفاقت من خواطرها على صوت أم الخطيب تسحبها من يدها، ثم تطوف معها بالمدعوين تستعرض "الشبكة" التي انتقاها العريس.

كانت لها هي أيضاً "شبكة" .. أعادتها لصاحبها عندما مات والدها بالذبحة الصدرية .. خرج الرجل الطيب من الدنيا بدون مسرات له فيها، ثم لحقت به زوجته بعد ذلك بشهور .. ووجدت سعاد نفسها رجل العائلة .. كان هذا نصيبها! وسارت وحدها بالسفينة بين الأعاصير!

وتمنّت عندما أعادت "الشبكة" لصاحبها .. مع الدبلة أن يكون الرجل شهماً .. أن يقول لها "كوني لي ولأخوتك أيضا". وعلى الرغم من أنها لم تكن لتقبل نصيحته مهما حاول، إلا أنها تمنت أن يقول لها ذلك وحسب .. لتشعر بأن الدنيا بخير، وأنه لا يزال فيها من يُبدي استعداده للتضحية. ولكنه لم يقلها! .. أبدى أسفه وقال إنه كان يتمنّاها زوجة، ولكنه يريد سيدة بيت تتفرّغ له ولأولادها، وظروفها هي تُرغمها على العمل من أجل أخوتها!

نسي الرجل أنه كان قد اتفق معها من قبل على أن تظل في العمل بعد الزواج لتضيف مرتبها إلى مرتبه من أجل توفير حياة طيبة لأولادهما .. نسي ذلك!! إنها لا تحقد عليه .. لا تلومه .. ولكنها كانت تتمنّى الكلمات حتى بدافع المُجاملة!

وانقطعت سعاد عن مواصلة الدراسة في الجامعة .. لم يعد لديها وقت للمذاكرة، ونسخ المحاضرات. كانت تعود من الشغل لتنكب على احتياجات أخوتها. وأخيراً .. هاهي الآن عانس في الخامسة والثلاثين .. وحيدة .. بلا أفراح تخصها!

وانفض حفل الخطوبة، استأذن العريس وعائلته، وانصرف من بعده بقية المدعوين وآوى من في البيت .. كل إلى فراشه، وتمددت سعاد على السرير إلى جوار أختها نهاد. وعادت الخواطر تجرف كيانها من جديد، فأسدلت الغطاء على وجه شقيقتها النائمة، وراحت تسبح مع الذكريات:

والدها العجوز المشروخ الصدر .. كم كان يحبها .. وأطبق على قلبها الانقباض .. مات الرجل الحنون الطيب والحزن يترع قلبه. مات ونظرة الأسى في عينيه لأنه ترك للدنيا "كتاكيت بلا أجنحة". وانبرت لها من بين الذكريات المتداعية صورة أمها بوجهها الباش. وتوهمتها تدنو من فراشها في الظلام .. ومدّت يدها بحركة تلقائية .. ولكنها قبضت على الفراغ .. ووجدت نفسها تهمس لها .. "قولي لأبي يا أمي: سعاد قامت بالمهمة. فللكتاكيت أجنحة الآن!". فوداد يا أمي زوجة هانئة .. أم لثلاثة أطفال سعداء، وعام واحد فقط يا أمي ويغدو رشاد مهندساً، ونهاد في إصبعها دبلة، وشهادة من معهد المعلمات!!".

وانخرطت تبكي .. كل هذا صنعته هي وحدها، على حساب شبابها وقلبها. لا هدف لها إلا أن تصنع للكتاكيت أجنحة .. وهاهي الآن عانس في الخامسة والثلاثين .. وحيدة مع وسادتها .. وحيدة، والشعر الأبيض يقتحم رأسها .. وحيدة في النهاية! .. وداد قد تزوّجت ولها بيتها وأولادها، ونهاد أصبح لها خطيب سيمضي بها ذات يوم، ورشاد سوف يتخرّج ويتزوّج هو الآخر .. ويتركونها وحيدة في النهاية لشيخوختها .. وربما ينسون تضحية العانس العجوز. وازدادت دموعها وهي تتخيل شيخوختها .. وحيدة .. بلا شيء يدفئ حياتها ويُعطي الطعم لأيامها! بدون كتاكيت تصنع لها أجنحة! ..

ووجدت نفسها تبحث عن يد أختها النائمة إلى جوارها .. ثم تتحسس الدبلة في إصبعها، وقد أشرقت من ظلام خواطرها رؤيا أشعة تُثلج قلبها .. ثم انسابت وانتشرت تضيء كل أحاسيسها، فتركت يد أختها، وأسدلت الغطاء على وجهها، وأغمضت عينيها على منظر خالتها حميدة .. تندفع إلى "الصالة" بعاصفتها .. وهي تطلق في أرجاء البيت زغاريدها!


* عبد العال الحمامصي: للكتاكيت أجنحة، قافلة الزيت، صفر 1389هـ، ص46، 47.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى